اشتهر الكاتب السويدي هيننيغ مانكل (1948–2015) بسلسلة رواياته البوليسية التي تدور حول شخصية المحقق كورت فالاندير، وقد حاز عليها جائزة الأدب السويدي، ولكن شهرته وصلت إلينا بشكل أكثر تحققاً بعد مشاركته في أسطول الحرية الذي انطلق في أيار/مايو عام 2010، من جزيرة قبرص إلى غزة لفك الحصار عنها، ولفت أنظار العالم لبشاعة الاحتلال والحصار الذي تتعرض له، حاملين معونات للفلسطينيين المحاصرين، وقد شارك في قافلة الحرية 750 شخصية ناشطة في المجال الحقوقي، بينهم عدد من الشخصيات الهامة والمؤثرة، كأعضاء برلمانات في عدة دول أوربية وعربية، وأعضاء عرب في الكنيست الإسرائيلي وكتاب وشعراء، وبينهم مانكل الذي كان قد ظهر على القناة الرابعة السويدية لمدة عشر دقائق، أعلن فيها أنه سينضم لسفينة غزة، ما زاد حجم التبرعات بحوالي 15% خلال أسبوع واحد.
ولكن أسطول الحرية انتهى بطريقة مأساوية، إذ قامت إسرائيل باقتحام السفن المسالمة في المياه الدولية، مرتكبة أقبح ما يمكنها ممارسته على نشطاء سلميين، من الرصاص الحي والغاز، حتى فارق الحياة تسعة منهم، وقامت باعتقال الباقي وإذلالهم.
يوميات أسطول الحرية
قام الكاتب هيننغ مانكل بتوثيق رحلته ونشرها في يومياته، ليفضح النظام العنصري الفاشي في إسرائيل إذ كان يسجل هذه اليوميات على متن السفينة ونشرها فيما بعد.
اشتهر الكاتب السويدي هيننيغ مانكل بسلسلة رواياته البوليسية، وقد حاز عليها جائزة الأدب السويدي، لكن شهرته وصلت إلينا بشكل أكثر تحققاً بعد مشاركته في أسطول الحرية الذي انطلق في أيار/مايو عام 2010، من جزيرة قبرص إلى غزة لفك الحصار عنها
لم ينج فريق النشطاء من العنف والإذلال واللاإنسانية الذين تمارسهم إسرائيل على الشعب الفلسطيني. ذكر مانكل في يومياته: "لدى وصولهم بنا إلى إسرائيل، ولا أدري أين، أجبرونا على الجري في الشوارع والتلفزيون العسكري يصورنا. أفكر بهذا، بهذا بالذات، وهو ما لن أغفره لهم أبداً".
لقد قام الجنود الإسرائيليون بسرقة كل شيء في حوزتهم من أجهزة وأموال، وسلبوا هيننغ مانكل حتى حذاءه، فتبرعت له المضيفة في طريق العودة بحذاء.
كتب في نهاية يومياته تلك: "الآن يبقى ما ينبغي القيام به، وعدم نسيان الهدف المتمثل بفك الحصار عن غزة، وسوف يفكّ، تليه أهدافٌ أخرى. ينبغي إنهاء نظام الفصل العنصري. سيتطلب هذا زمناً لكنه لن يكون أبدياً".
كان مانكل ناشطاً يسارياً طول الوقت، وملتزماً بأفكاره، إذ قام بدمج القول بالفعل، فشارك أيضاً بالاحتجاجات على نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، كما شارك بالاحتجاجات على حرب فيتنام وغيرها. وتبرع في 2007 بمبلغ 15 مليون كرونا لصالح منظمة ترعى الأطفال في موزامبيق، وهو من الكتاب القلائل الذين أولوا الاهتمام للقارة السوداء، فقام بزيارة عدة دول أفريقية، وأقام في موزامبيق فترة طويلة قام خلالها بتأسيس المسرح في عاصمتها.
كتب أيضاً للأطفال واليافعين وفي المسرح، وكتب الرواية غير البوليسية والتي تلتصق بهموم الإنسان عامة، وخاصة في بلده السويد، ومعاناة الإنسان في حياته التي تبدو عادية، ولكن تتنازعها قصص الحب والانتماء والكآبة التي ترخي سدولها في عيشته في الغابات وبين تقلبات الطبيعة والثلوج الممتدة والعواصف والجزر المنعزلة، كما في روايته "مصنع الأحذية الإيطالية"، التي تروي سيرة طبيب جراح اختار العزلة في إحدى الجزر، بعد ان اختتم مسيرته الناجحة بخطأ طبي، فقدت بسببه شابة سباحة يدها، ليبدأ أثناء عرض حياته الروتينية المملة على الجزيرة بنبش داخله المهزوم بصمت، ولكن حياته تتغير بزيارة غير متوقعة لحبيبته إلى الجزيرة، هي التي تخلى عنها منذ أربعين عاماً تقريباً، لتقلب حياته خلال عام واحد، بعد مغامرات كثيرة، وتخرجه من عزلته بمواجهة ذاته.
قام الكاتب هيننغ مانكل بتوثيق رحلته من قبرص إلى غزّة ليفضح النظام العنصري الفاشي في إسرائيل إذ كان يسجل هذه اليوميات على متن السفينة وقام بنشرها فيما بعد
تطالبه حبيبته السابقة بالوفاء بوعدٍ قطعه لها منذ بداية الحب بينهما، باصطحابها إلى بحيرة كان قد رافق والده إليها يوماً في صغره، وأثناء ذلك يعرف أن حبيبته مصابة بمرض السرطان في المعدة، وأن أيامها معدودة، وأن وراء الزيارة ليس فقط المطالبة بالوعد، بل ليتعرف على ابنته في طريق العودة، فهو أب لفتاة في الثلاثينيات من عمرها، ولم تكن لتخبره بذلك حبيبته لولا أنها تموت.
رواية "مصنع الأحذية الإيطالية"
تحمل الرواية ذلك الوصف للأشياء والظواهر الطبيعية الفريدة التي تغلف الحياة في الشمال، بتلك البساطة والجمال الذي يحفز خيال القارئ وينقله لعالم مختلف تفرضه الطبيعة وتنعكس على داخل إنسانها. وعلى مدار 370 صفحة، يبدو إيقاع الرواية بطيئاً، يشبه الحياة ويعكسها، حيث يسقط الثلج بذاك التمهل ويغطي الجليد الأرض وقتاً طويلاً، ويذوب بنفس البطء الذي نلمسه باستمرار، مؤكداً الكآبة التي تتمدد كالبرد القارس، والذي لا يمكن مقاومته، حتى يمكن أن يموت شخص في وحدته دون أن يحدث ذلك أي جلبة، ولا يُعثر عليه إلا بعد وقت، كتلك المرأة العجوز التي ماتت وحيدة في منزلها في الغابات، فخرج كلبها إلى الطريق ينتظر سيارة مارة ليصطحب إلى البيت من يقوم بدفنها، فالحياة في هذه المناطق النائية لا يخلخل سيرها سوى الموت لبرهة، دون أن يؤثر على مسيرتها، إذ تواصل حياتها دون أدنى تأثر، " فالأرض تنادي بأجساد المعمرين".
وتشكل هذه محنة حقيقية، إذ إن هناك مناطق في السويد تخلو من السكان، كما يخبرنا الكاتب، وقد تتوقف رحلات القطار إليها للأبد. يعاني سكان هذه المناطق المتبقون من الوحدة القاسية والعزلة، ما يجعل حياتهم كآبة مستديمة، تتحول إلى اغتراب حقيقي عن المجتمع وعن الناس وعن الذات أيضاً، ولأسباب مختلفة، ولكن يغلفها كلها الواقع الصعب في عدم الانسجام بين الإنسان وعجلة الحضارة الطاحنة في تقدمها، وهو ما يعانيه الجيل القديم والجيل الجديد على حد سواء، فجيل الشباب في مجتمع كهل سيعاني من فقدان الاهتمام العاطفي، وبالتالي سيرث الاغتراب الذي تتنوع أسبابه عند الجيل القديم، معرجاً على قضية اللاجئين الذين يحاولون بناء حياة جديدة في بلد أوربي يملك كل أسباب الرفاهية، ليفتقدوا فيه العلاقات الاجتماعية الحميمة التي أجبروا على تركها في بلدانهم المتخلفة والمشتعلة بالأحداث السياسية، ويبدأ اغترابهم الناجم عن عدم التأقلم.
"مصنع الأحذية الإيطالية" رواية تلتزم قضايا الإنسان على طريقة كاتبها هيننيغ مانكل الذي عاش ومات مؤكداً انتماءه للإنسان وقضاياه العادلة
ورغم البطء الذي يبدو مغلفاً الحياة، يظهر لنا في داخل كل شخصية هناك الماضي الحار والصراعات المحتدمة، كما في حياة بطل الرواية الذي يعاني أيضاً من اغترابه الخاص والناجم عن فقدان القوة لمواجهة مشكلته الخاصة.
وكما تزدهر الطبيعة في أوج تقلباتها المناخية، تزدهر لغة الكاتب بتشبيهات فريدة وعالية، تنسجم مع تغيراتها الغريبة عن القارئ البعيد جغرافياً. يقول واصفاً الأصوات: "الأصوات التي تنتظر دورها في الدخول إلى السكون"، فاللغة أيضاً ابنة البيئة، ويقول البطل إن هناك عبارات ابنة الغابات والقرى، والتي لم يعد أهل المدن يتداولونها، لأن أفعالها أيضاً قد انحسرت في المدينة وحياتها السريعة، كما عبارة "اصنع لي جميلاً". يقول في الصفحة 159: "تحيا اللغة في عمق الغابة بشكل مختلف عن المدن الكبيرة، حيث تُطرد الكلمات هناك مثل المنبوذين"، فالتواصل في المدن الكبيرة بات من الصعوبة بمكان ضمن عجلة الحياة السريعة، وتنهض بين الناس جدران لا مرئية ناتجة عن هذا التضخم.
يدرك البطل أخطاءه التي تقيده، وما حفرته التي يحفرها كل يوم في الجليد ليستحم بالماء المثلج إلا مطهراً يمارسه كل يوم ليكفر عن أخطاء ارتكبها في حياته، من تخليه عن حبيبته، إلى جبنه إزاء الخطأ الطبي الذي ارتكبه، لكن عودة حبيبته المريضة واقتحام حياته تقلب كيانه، فيبدأ بمواجهاته مع أخطائه، فيعتذر من الشابة التي قطع يدها، وبقدم لها جزيرته وبيته لتستثمره في مشروعها (إيواء الفتيات اللواتي يعانين من أزمات نفسية بعد تخلي المجتمع عنهن)، ويحاول شق الطريق في علاقته بابنته المكتشفة، ويلتزم بامرأته التي تصارع الموت حتى النهاية. خلال عام واحد حقق ما وجب عليه فعله منذ سنوات، هو الذي بدأت حياته بالنفاذ، لكنه وقد، أدرك ذلك، يفعل أقصى ما يمكنه لإحداث فارق .
وهذا ربما ما علمته إياه ابنته التي تناضل على طريقتها، وتلتزم قضاياها بطريقة مختلفة. إنها تقوم بإرسال الرسائل إلى ذوي الأمر، من رؤساء حكومات وبلدان ومشاهير، معربةً عن رفضها لتصرفاتهم إزاء قضايا مهمة، حتى أنها تتسلل إلى اجتماع وزراء الاتحاد الأوربي لتظهر عارية، في نوع من الاحتجاج على إهمال وتخريب المغاور المكتشفة في أوربا، والتي تحتوي رسوماً نادرة للإنسان القديم وتراثه الفني.
غرابة العنوان
يبقى السؤال لماذا العنوان؟ إنه الإشارة الخفية لحالة الاغتراب الحاصل للإنسان الأوربي في ظل التقدم الحضاري، حيث يتعرف البطل على صديق ابنته، وهو أحد مصممي الأحذية الإيطالية العريقين، والذي هرب إلى أقصى الشمال لينعم بالسكون والعزلة، بعد أن أدرك كيف تدمر الصناعة الحديثة المهارة الفردية، وتقتل الروح التي ترافق الحرفة ويمنحها الحرفي للقطعة التي يصنعها، فإنجاز حذاء واحد يأخذ من المصمم عدة أشهر ليظهر كتحفة فنية، ويعيش هناك مكتفياً بتصميم أحذية للمشاهير.
وكان قد أهدى ابنة الطبيب حذاء أحمر، كأنها سندريلا الهاربة من التفاهة والاستهلاك، ولا تتوقف عن إعلان غضبها ورفضها لهما، فتظهر في اجتماع لرؤساء الاتحاد الأوربي المسؤولين، شاهرة اعتراضها على قتل الفن واللا مسؤولية التي يعامل بها بالتعري، كأعلى درجات السخط على الواقع.
"مصنع الأحذية الإيطالية" رواية تلتزم قضايا الإنسان على طريقة الكاتب الذي عاش ومات مؤكداً انتماءه للإنسان وقضاياه العادلة. توفي هيننغ مانكل بعد معاناة مع مرض السرطان الذي أصابه في العنق والرئة، تاركاً إرثاً أدبياً ونضالياً زاخراً يستحق منا التقدير.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون