مساء 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، قام إرهابيون باقتحام مسرح باتاكلان الباريسي، وفتحوا النار على الجمهور بشكل عشوائي، كما قام آخرون في خمسة مواقع أخرى في باريس بتفجيرات انتحارية.
كانت الصحفية المصرية الأميركية دينا عامر تعمل لوكالة VICE حينها، وأفادت مباشرة على الهواء، كغيرها من المراسلين، عن آخر تحديثات العمليات الإرهابية في باريس: مواطنة فرنسية تدعى حسناء آيت بولحسن، فجّرت نفسها فجر 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 بعد حصار قوات الأمن لشقة كان بها أشخاص متهمون بالتورط في هجمات باريس، وبدأت الصحافة تتحدث عن أول انتحارية في فرنسا.
مواطنة فرنسية تدعى حسناء آيت بولحسن، فجّرت نفسها فجر 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 بعد حصار قوات الأمن لشقة كان بها أشخاص متهمون بالتورط في هجمات باريس
وبعد أيام من الهجمات، ظهر تسجيل صوتي لحسناء، تبيّن من خلاله أنّها كان تتوسّل المغادرة قبل لحظات من الانفجار، وهو ما دفع عامر إلى فهم ما جرى مع حسناء، وشكّل الخطوة الأولى في إنجاز فيلمها الأول "أنت تشبهينني".
قالت عامر: "الفيديوهات التي ظهرت بعد الانفجار بيّنت أنّ حسناء لم تكن أول انتحارية فجرت نفسها في أوروبا. في هذه الفيديوهات كان يمكن سماع صراخها بصوت عال وهي تقول: (الرجاء المساعدة! دعوني أقفز! أريد الرحيل!) كانت تريد الخروج في اللحظة الأخيرة، لكن هذا كان بعد فوات الأوان".
أضافت عامر: "صرخات حسناء اليائسة طلباً للمساعدة طاردتني. شعرت أنني يجب أن أجد عائلتها وأفهم الحقيقة الكاملة وراء قصة تحولها من امرأة عادية إلى امرأة ظنّ العالم أنها أول انتحارية في أوروبا. وجدت نفسي أطرق باب عائلتها. أردت أن أعرف من كانت؟ وكيف وصلت إلى هنا؟".
المخرجة دينا عامر وإحدى بطلات الفيلم
دينا عامر: "صرخات حسناء قبل وفاتها طاردتني. شعرت أنني يجب أن أجد عائلتها وأفهم الحقيقة الكاملة وراء قصة تحولها من امرأة عادية إلى امرأة ظنّ العالم أنها أول انتحارية في أوروبا. وجدت نفسي أطرق باب عائلتها. أردت أن أعرف من كانت؟ وكيف وصلت إلى هنا؟"
فيلم "أنتِ تشبهينني" و13 جائزة عالمية
تخبرنا المخرجة دينا عامر أنها مباشرة بعد الهجمات، بحثت عن عائلة حسناء وتعرّفت على والدتها التي قالت لعامر إنّها ذكّرتها بابنتها حسناء وأنّ الشبه بينهما كبير.
قالت عامر: "صعقتني وأثرت بي كثيراً فكرة أن والدة حسناء شبّهتني بها. ليس فقط بالشكل، بل قالت لي حتّى إنّي أشبهها بطريقة مشيها وكلامها، وحتى بشخصيتها. هذا الشبه كان بالتأكيد عاملاً أساسياً في تجاوب الأم. لولا هذا الشبه لما كانت لي فرصة الخوض في تفاصيل قصة حسناء وصناعة هذا الفيلم".
أجرت عامر 300 ساعة من اللقاءات والحوارات مع أفراد عائلة حسناء وأصدقائها، صنعت منها فيلم "أنتِ تشبهينني" الذي حصد 13 جائزة عالمية، والذي هدف إلى فهم العوامل والتحديات التي قد تؤدي بأشخاص عاديين إلى أخذ قرارات مدمّرة، كتلك التي أخذتها حسناء. استغرقت عامر صناعة هذا الفيلم 6 سنوات لأنها تدرك تماماً حساسية الموضوع الذي تطرحه.
"واجهتنا صعوبات وتحديات كبيرة أثناء عملنا على هذا الفيلم، من إقناع عائلة حسناء وأصدقائها على التعاون معنا وكسب ثقتهم، إلى قضاء أوقات طويلة في بيئات غير سليمة فيها الكثير من العنف والألم، إلى مشاكل التمويل وإقناع الممثلين بأداء أدوار حساسة، وتوزيع العمل وعرضه في المهرجانات. لم يكن المشوار سهلاً في أي من محطاته، لكنني سعيدة أننا استطعنا تجاوز كل هذه التحديات"، قالت عامر.
مصير حسناء يمكن أن يكون مصير أيّ مهاجر عربي مسلم، أو أي شخص يواجه نفس التحديات والصعاب التي واجهتها حسناء. لا يولد البشر إرهابيين... يصبحون إرهابيين"
حسناء الإنسانة
ينظر فيلم "أنتِ تشبهينني" إلى ما وراء العناوين الصحفية المثيرة، ويبحث عن قصة حسناء الإنسانة، إنسانة تشبه الكثيرات منّا، تتألم وتعشق وتبكي وتضحك، تحس بالظلم وتسعى لإقرار العدالة كما تعرفها.
تقول المخرجة دينا عامر: "خلال مراحل صناعة الفيلم المختلفة، وفي أكثر من موقف رأيت الكثير من نفسي في حسناء. فحسناء لا تشبهني بالشكل فقط، كما قالت لي والدها. هي تشبهني وتشبه الكثيرين/ات في نضالها للبحث عن سلام داخليّ، في كونها امرأة عربية مسلمة تحاول الاندماج في مجتمع غربي، في رغبتها في أن تحسّن حياتها وأن تفتح صفحة جديدة... في محاولاتها التقرب من الله ونيل رضاه. ما حطّم قلبي في قصة حسناء هو أن سعيها لأن تصبح إنسانة أفضل أدى بها إلى أفظع الطرق، وجعلتها تختار أسوأ الخيارات. أردت من خلال هذا الفيلم، أن يرى الأشخاص أنفسهم، أو جزءاً منها، في حسناء. كان هذه النقطة بالذات في غاية الأهمية بالنسبة لي".
عادت عامر في بحثها إلى طفولة حسناء في إحدى ضواحي باريس؛ طفولة مضطربة واجهت فيها حسناء أقسى الظروف. حاولت المخرجة إعادة تخيّل قصتها منذ ألم انفصالها عن أختها مريم بعد تبنيهما من قبل عائلتين مختلفتين بسبب سوء تربية أمهما البيولوجية المضطربة نفسياً.
بانفصالها عن شقيقتها، شعرت حسناء وكأنها فقدت جزءاً منها، وعاشت سنوات من التيه والضياع قادتها إلى مجالات خطيرة، منها الدعارة وتجارة المخدرات، لتقرر بين ليلة وضحاها أن تترك حياتها القديمة، وتتواصل مع ابن عمّها الارهابيّ الذي سيعدها بالزواج، فتلتزم دينياً وتلبس الخمار بحثاً عن حياة مختلفة وعن فرصة إنشاء عائلة.
دينا عامر: "حسناء تشبهني وتشبه الكثيرين/ات في نضالها للبحث عن سلام داخليّ، في كونها امرأة عربية مسلمة تحاول الاندماج في مجتمع غربي، في رغبتها في أن تحسّن حياتها وأن تفتح صفحة جديدة... في محاولاتها التقرب من الله ونيل رضاه"
مصير حسناء يمكن أن يكون مصير أيّ مهاجر
في "أنتِ تُشبهينني"، تظهر مسألة الهوية مراراً. فالبحث عن الذات وعن أي شعور بالانتماء شكّلا جزءاً من مأساة حسناء التي قالت لابن عمها بشكل صريح إنّها تشعر بالفصام في فرنسا، فهي لا تنتمي إلى العالم العربي ولا الغربي، روح معلّقة بين عالمين ومجموعتي قيم، بين إحساسين مختلفين بالانتماء، لا يمكن الاستكانة إلى أي منهما.
قالت عامر: "مصير حسناء يمكن أن يكون مصير أيّ مهاجر عربي مسلم، أو أي شخص يواجه التحديات والصعاب نفسها التي واجهتها حسناء. لا يولد البشر إرهابيين، بل يصبحون إرهابيين. هذا الفيلم ليس عن الإرهاب والعمليات الانتحارية بقدر ما هو فيلم عن تأثير العنف والصدمات والفقر والجهل على الأطفال، فيلم عن التفكّك الأسري واضطرابات الصحة النفسية، فيلم عن الغربة والضياع والبحث عن الذات".
وفي ختام حديثنا، تخبرنا عامر أنّها خاضت تجربة تبادل سينمائي مع سجناء محتجزين في سجن Rikers Island، فتقول: "هذه تجربة غيّرت نظرتي للكثير من الأمور. أدركت من خلالها أن الناس الذين ارتكبوا جرائم مروعة ما زالوا بشراً، وبعضهم كانوا في الواقع أشخاصاً رائعين. أظن أن تجربتي مع السجناء، وما اكتسبته من قدرة على الفصل بين الجريمة ومرتكبها، ساعدني كثيراً في متابعتي لقصة حسناء".
تأمل دينا عامر أن يسهم فيلمها في فهم العوامل التي تؤدي بأشخاص يشبهوننا إلى اقتراف أفظع الأمور، وتختم قائلة: "هذا الفيلم لا لنعذر حسناء على ما قامت به، ولا لنبرّر فعلتها، هو سعي لحماية الأشخاص الآخرين الذين يعانون من نفس الضغوطات من الوقوع في الخطأ واتخاذ قرارات مدمرة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون