تستحق لقب "صانعة للسينما"، ومسيرتها الفنية تختلف كثيراً عن المخرجات العربيات، كونها تمتلك كل خيوط اللعبة؛ تكتب السيناريو، وتُخرج، وعضوة في لجان تحكيم، وحاصلة على ماجستير السينما من الولايات المتحدة الأمريكية.
بدأت مسيرتها بالبحث عن موطن الأجداد، فقدّمت أول أفلامها "نعيم ووديعة" في العام 1999، ومنه انطلقت لتقدّم فيلمها "الرمان والمر" عام 2009، ورُشِّح فيلمها الثالث "عيون الحرامية" عام 2014، لتمثيل فلسطين في جوائز "الأوسكار" عن فئة أفضل فيلم أجنبي، وحاز فيلمها الروائي الرابع "بين الجنّة والأرض" عام 2019، على جائزة السيناريو في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الـ41.
هي المخرجة الفلسطينية نجوى نجّار، التي تعود للبحث مرةً أخرى عن الجذور، ولكن هذه المرة من خلال فيلم "قبلة غريب"، وهو مشروع سينمائي ينتظره الجميع، يتحدث عن فلسطين في السينما، وعن الإسكندرية، حيث الفلسطينيان "بدر وإبراهيم لاما"، ويتناول كيف رست بهما الباخرة عبر المتوسط على شواطئ تلك المدينة التي شهدت بدايات السينما على أيدي "الأخوين لوميير".
في لقاء مع نجوى نجار لرصيف22، تحدثنا عن فلسطين، والسينما، والمرأة، والجذور، وعن "قبلة غريب"...
نجوى نجّار: "في المرة الأولى التي زرت فيها القدس طفلةً، كنت أشاهد أمّي في السيارة وهي تبكي، ولم يفارقني مشهد بكائها، بل عقدت العزم على أن أول شيء أفعله عندما أعود مرةً أخرى إلى القدس أن أبحث عن الجذور، وأجد بيت أمّي"
قبل الحديث عن السينما، أنتِ نتاج رحلة شاقة من يافا إلى الأردن ثم البرازيل فأمريكا، وأخيراً العودة إلى القدس... كيف تصفين تلك الرحلة؟
عائلتي عانت مثل عائلات فلسطينية كثيرة من التهجير منذ عام 1948. كانت الوالدة فتاةً صغيرةً في يافا حيث النشأة، والوالد كان قد أتى من الأردن وعاش في القدس، ولكن لظروف التهجير سافر إلى البرازيل، وبعد سنوات من تعرفهما إلى بعضهما تزوجا في الأردن، ولظروف العمل تنقلنا من مكان إلى آخر. كان والدي يحكي لنا عن طفولته، وأمي كذلك، وكل الحكايات مشبعة بحنين يدفعني إلى أن اشتاق إلى رؤية كل شبر عاشا فيه في البدايات، سواء في الأردن أو فلسطين، فلم تكن بيننا فواصل، لا أردنية ولا فلسطينية، وسيظل هذا الشعور حتى تعود الأرض لنا كاملة.
"قبلة غريب" هو فيلم عن سيرة وتاريخ يربط الفلسطينيين بالمصريين وخاصةً أهالي مدينة الإسكندرية في فترتي العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي.
عندما كبرت وذهبت إلى الجامعة درست في كلية السياسة والاقتصاد، وخصصت دراستي في الشرق الأوسط وجنوب أمريكا وإفريقيا، ولم تكن هذه السياسات تُدَرَّس لنا. كنت أهتم بالبحث ومعرفة وجهات نظر مختلفة عما عرفته في بيتنا، ولاحظت وأنا في أمريكا خلال الدراسة الجامعية، كيف يكتبون عن القدس وفلسطين، وكأنهما ليستا من واقعنا، وأن ما يكتبونه مختلف عما عرفته وقرأته في حكايات الأسرة وكتبنا وما حكاه لنا الوالد.
من هذا المنطلق بدأت أعي أهمية أن أدرس، وأن أقدّم الجانب الواقعي، وهو السبب الذي دفعني إلى تحضير دراسات الماجستير في السينما، وكانت لي 'الأسلحة' التي أحصّن بها نفسي وهي الكتابة والسينما، وقدّمت أول ماجستير لي في السينما.
تعرفت في الجامعة إلى هاني قورت، وهو من سكان القدس، وكنت في المرة الأولى التي زرت فيها القدس طفلةً، وأتذكر مشهد بحث أمي عن بيتها في يافا، الذي لم تجده. كنت أشاهدها في السيارة وهي تبكي، وعندما عدنا لم يفارقني مشهد بكائها، بل عقدت العزم على أن أول شيء أفعله عندما أعود مرةً أخرى إلى القدس أن أبحث عن الجذور، وأجد بيت أمّي. وبالفعل عدت لتصوير أولي لفيلم "نعيمة وديعة"، وعثرت على موقع البيت.
وفي كل زيارة مع هاني قورت، الذي أصبح زوجي في ما بعد، ينتابني الحنين إلى الأم والأب، وأشعر بحالة روحانية عندما أشاهد قبة الصخرة وكنيسة القيامة والمسجد الأقصى. ليست هناك تفرقة بين مسلم أو مسيحي. هناك رابط روحاني، يجمع هذا الشعب، وسيظل، برباط مقدس حتى يوم الدين.
"كما أن هناك صانعاً للسينما، هناك صانعة، ومعبّرة عن مشكلاتها. فمن وجهة نظري المرأة هي أكثر من تعبّر عن سعادتها، وألمها، ومشكلاتها الخاصة، والدليل أن أفلام المرأة تلقى ترحيباً في كل المهرجانات، ولدينا جيل من المخرجات العربيات قدّمن سينما جيدةً"
ماذا أردت من تجربتك الوثائقية الأولى؟
أردت أن أعرف أولاً، وأن أرى بعيني، وأن ألمس الأرض وأصوّرها، وأن أقدم سيرة آبائي وأجدادي. سمعت من أمي وأبي قصصاً كثيرةً، فأردت أن أعيشها. فيلم "نعيم ووديعة" مدته 20 دقيقةً، أخرجته في عام 1999، عن مدينتي، يافا، قبل عام 1948؛ كيف كان الأهل فيها؟ وكيف واجهوا نكبة فلسطين؟ كل هذا من خلال الأبناء، وهم ثلاث بنات يحكين عن كل شيء، وأحدث هذا الفيلم دوياً عند عرضه في مهرجان نيويورك في عام 2000، وكان مثل الصدمة بالنسبة لبعض أعضاء لجنة التحكيم في المهرجان، إذ أعلن بعضهم انسحابه من اللجنة بسببه، كونه يقدّم صورةً واقعيةً موثقةً تؤكد كم أسهم الاحتلال الإسرائيلي في تهجيرنا.
من البحث عن الجذور إلى تجربة يرى كثيرون أنها من أهم تجارب نجوى نجار السينمائية، وهي فيلم "بين الجنة والأرض". وهنا سؤالي هو: هل أنت من المدرسة الواقعية؟
نعم أحب أن تكون أعمالي مرتبطةً بواقع ملموس، فقبل أن أكتب، لا بد أن تثيرني الفكرة، ومن ثم القضية التي سأنتقل بها إلى المشاهد، ففي فيلم "الجنة والأرض" جاءتني الفكرة في أثناء زيارة إلى أقاربي في حيفا، ومن بين الحكايات التي أثرتني كانت حكاية سيدتين "نهلة وسامية"، سألت عنهما فأرشدوني إلى منزل "نهلة". تواترت القصص، وتداخلت، فبدأ صاحب أحد المحال يحكي وأنا أسمع، وهي تحكي، وقال كلاماً دفعني إلى أن أسجل حكايته وخاصةً أنه تحدث عن قرية لي معها ذكريات، وهي قرية إقرث المهجّرة. كنت أتمنى لو ألتقي بمن يحدثني عنها، ولم أتردد في اصطحابه إليها. ذهبنا معاً بسيارتي وبدأت البحث عنها لساعات طويلة، حتى وصلت إلى زقاق في منطقة بجوار كنيسة، وشاهدت قرية إقرث قطعةً من الجمال على الحدود، شعرت حينها بأنني في حالة شجن، فقررت أن أبدأ على الفور بالكتابة.
"إن السينما تعبّر عن الواقع، وأنا مهمتي هي أن أعبّر عن واقعي"
قصة الفيلم التي شاهدناها هي أشبه بحفر في الماضي، وبحث عن هوية. هل كان مقصوداً منك ذلك؟
القصة ليست عن أشخاص بقدر ما هي عن التشتت، وعما عانيناه من تشرد، ليس في الخارج من التهجير، أو الغربة فحسب، بل حتى في داخل فلسطين. نحن مشتتون حتى في بلدنا. تغيّرت ملامحنا، مع أن الواقع يتطلب منا أن نكون صوتاً واحداً وجسداً واحداً.
فالحكاية ليست كما قلت عن سلمى وتامر، الزوجين غير القادرين على الدخول إلى أرض الوطن. يحصل تامر على التصريح فقط عندما يكون قد أتخذ قراراً بطلاق زوجته في محكمة الناصرة، لكنه يُصدم بهوية والده وتاريخه.
من هنا أقول إن السينما تعبّر عن الواقع، وأنا مهمتي هي أن أعبّر عن واقعي، مهما كانت صعوبات تنفيذ العمل، ففيلم "الجنة والأرض" Between Heaven and Earth، أكثر الأفلام التي واجهتُ في تصويرها عثرات، في الضفة ورام الله، وإقرث وحيفا، والناصرة، ورأس الناقورة، ناهيك عن الحواجز الأمنية التي يتوجب علينا اجتيازها، وأن يتم سحب هويات بعض العاملين، وتوقيفهم. إن التصوير في فلسطين معاناة بكا ما تعنيه الكلمة. حتى الأفلام السابقة "المر والرمان"، أو "عيون الحرامية" وهو مستوحى من واقعة عُرفت حينها بـ"عملية عيون الحرامية"، حدثت في عام 2002 عندما استهدف ثائر حماد السلوادي إحدى الكمائن العسكرية الإسرائيلية في شمال مدينة رام الله، وقتل 11 جندياً إسرائيلياً، هي تجارب موجودة في الواقع، فأنا كثيرة التأمل، أبحث كثيراً عن كل ما يعبّر عني، ويثير شجوني، ويدفعني للكتابة عنه.
كُرّمت كثيراً، ومن بين التكريمات تكريم في "مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة". هل تؤمنين بمصطلح "سينما المرأة"؟
نعم، كما أن هناك صانعاً للسينما، هناك صانعة، ومعبّرة عن مشكلاتها. فمن وجهة نظري المرأة هي أكثر من تعبّر عن سعادتها، وألمها، ومشكلاتها الخاصة، والدليل أن أفلام المرأة تلقى ترحيباً في كل المهرجانات، ولدينا جيل من المخرجات العربيات قدّمن سينما جيدةً.
ننتظر أن تبحر نجوى نجّار بكاميراها على شواطئ مدينة الإسكندرية، لتنقل إلى الأجيال صورةً مقربةً عن بدر وإبراهيم لاما اللذين صنعا مجداً سينمائياً. من خلال فيلمها القادم، سترصد لنا نجّار مرحلةً مهمةً من تاريخ السينما العربية، وكيف انتهى حلم "آل لاما" بحريق استديوهاتهما وأفلامهما في الإسكندرية
حدثينا عن مشروعك السينمائي المنتظر، "قبلة غريب".
"قبلة غريب" هي سيرة وتاريخ يربط الفلسطينيين بالمصريين وخاصةً أهالي مدينة الإسكندرية في فترتي العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، فالإسكندرية كانت أكثر مدينة كوزموبوليتانية، تستوعب كافة الثقافات في تلك الفترة، وفيها بدأ الشقيقان إبراهيم وبدر لاما مسيرتهما السينمائية، ووضعا حجر الأساس لسينما عربية، بعد سنوات من عرض "الأخوين لوميير" لأول فيلم مصري. فقد أتيا معاً من تشيلي في أمريكا الجنوبية وكانت محطتهما الأخيرة عبر البحر هي الإسكندرية، وفيها كوّنا معاً شركة إنتاج "كوندور فيلم"، وكتبا ومثّلا، وأخرجا أعمالاً كثيرةً. وحتى بعد رحيل "بدر"، أكمل إبراهيم مسيرته، وبعده نجله سمير لاما الذي مثّل مع سيدة الشاشة، فاتن حمامة، وشادية، ومحمود المليجي، وماجدة. تاريخ طويل يستحق أن نلقي عليه الضوء. هم جزء من الفيلم الذي يرصد أيضاً كم كانت الإسكندرية مدينة تلاقٍ للجميع.
وفلسطين كانت جزءاً من هذا التكوين، وقريباً سأقوم بمعاينة أماكن التصوير في مدينة الإسكندرية التي ما زالت تحتفظ بمعالمها التاريخية.
ننتظر أن تبحر نجوى نجار بكاميراها على شواطئ مدينة الإسكندرية، لتنقل إلى الأجيال صورةً مقربةً عن بدر وإبراهيم لاما اللذين صنعا مجداً سينمائياً، إذ أخرج بدر لاما أول أفلامه "البدوية الحسناء" عام 1947. من خلال فيلمها القادم، سترصد لنا نجّار مرحلةً مهمةً من تاريخ السينما العربية، وكيف انتهى حلم "آل لاما" بحريق استديوهاتهما وأفلامهما في الإسكندرية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...