مخلوقات سبهان آدم الهجينة
كلما غاب التشكيلي السوري سبهان آدم قليلاً، يعود بكائنات آتية من العدم ووجوه مريبة تُطالعنا بالدهشة نفسها التي ننظر بها إليها. أعماله هدمت جملة من القواعد والقيم البصرية المحلية، وها هو يواصل في معرض "قبلاتي لبيروت" الذي تحتضنه غاليري Mission Art ، تقديم نسخ جديدة من شخصياته الغامضة والمشوّهة التي اشتهر بها منذ بداياته في مطلع التسعينيات ورسمها على مراحل مختلفة.
التأمل في أعمال آدم يحيلنا على تجربة فطرية مدهشة، وتحوّلات ذكية في اشتغاله على تعبيرية مُحمّلة بالكثير من الغواية والفجاجة والتشويه، فهو لا يشتغل مدفوعاً بوجهة نظر نقدية، بقدر اشتغاله على إطلاق سراح مخاوفه وعوالمه الكابوسية المؤرقة.
للوهلة الأولى يخالُ النّاظر أنه أمام رسوم طفولية، لكن هذه الانطباعات سرعان ما تنقلب إلى نقيض محيّر. ثمّة ما هو أكثر من اللعب خلف الألوان المرحة التي تحاول أن تضيء عزلة هذه الكائنات.
تتوزّع اللّوحات على صالة واحدة متعدّدة الزوايا، أوّلها خصّصت للأعمال ذات الحجم الكبير (160X250) وعددها ثمانية، وأخرى من الحجم الصغير وقّعها آدم باسم اسكيتشات (70X50) وعددها عشرة. أبطال هذه اللوحات شخصيّات حيوانيّة وبشريّة، تطالعنا أحياناً كمسوخ هجينة مسكونة بالريبة والخوف.
كلما غاب التشكيلي السوري سبهان آدم قليلاً، يعود بكائنات آتية من العدم ووجوه مريبة تُطالعنا بالدهشة نفسها التي ننظر بها إليها. أعماله هدمت جملة من القواعد والقيم البصرية المحلية، وها هو يواصل في معرض "قبلاتي لبيروت" تقديم نسخ جديدة من شخصيات غامضة ومشوّهة
لنتفحّص بعض العناوين: "رجل محترم نوستالجي يسافر إلى الماضي"، "طبيبة نفسيّة من الشّرق الأوسط"، "السّهر في ملاهي دبي"، "الوفيّة والخائنة معاً"... ويمكن أن نتساءل عن إمكانيّة وجود سرديّة ما خلف هذه اللوحات، ونحاول أن نلتقط القصّة والتفاصيل ونخمن ما يفعله هؤلاء الأشخاص في الحانات والشوارع.
كما يضم المعرض مجموعة من الأعمال التشكيلية التي يخاطب فيها الفنان بصرياً واقع المدينة اليومي والحياة فيها، ويتتبع رجلاً بزيّ أزرق، يخترق شوارع بيروت ممتطياً حماره، ونسوة شبه عاريات عالقات في فضاء ساكن.
أحيانا نرغب بإيجاد سبب لهذه الفوضى واللامبالاة في تحريف الجسد وتشويهه، فقد يعود الأمر لطفولة آدم التعيسة في مدينة الحسكة، أوأيام الشقاء التي مرّ بها، حين كان يقطع مسافات طويلة في شوارع دمشق سيراً على الأقدام لأنّه لم يكن يملك ثمن تذكرة باص. ويفترش في ليالي الشتاء القاسية رصيف "كلية الفنون الجميلة" حين لا يجد غرفة تؤويه. لكن محاولة الفهم لن تفضي إلى شيء، فالمنطق ينتهي حين تبدأ اللوحة، ويؤكد سبهان آدم لرصيف 22: "لا تملك لوحاتي أية رسالة سوى تلك الرغبة العارمة في نقل أحاسيس إيجابية للمتفرّج. هذه عبارة عن أعمال قديمة تعود لأواخر الألفيّة المنصرمة. انتظرت وتمهّلتُ في عرضها إلى أن نضجت. تجربة قديمة عزيزة على قلبي، تلتها أعمال مشابهة ومختلفة ومعاصرة أيضاً. هذه اللوحات اشتغلتها في غاليري دومينيك بولاد هاردوان بباريس، ولا أعلم ماذا سيأتي بعدها... السؤال محيّر!".
سمعنا من قبل تصريحات غريبة من قبل منظمي عروض سبهان آدم، ففي إحدى المرات طلب شراء أربعين كيلو تفاح لتزيين القاعة بها قبل افتتاح المعرض، إضافة إلى الكثير من الورد الأحمر. كذلك اشترط أن يُحضر معه من الحسكة شراب الورد ليقدمه للزوّار، ومن يدري المفاجأة التي تنتظر زوار غاليري Mission Art هذه المرة.
"كوليكتيف 1200".. مساحة تواصل فوتوغرافية
تحت عنوان "أصداء من غرفة مزدحمة" يجمع غاليري آرت لاب في شارع الجميزة اثني عشر فناناً يعملون في مجال التصوير الفوتوغرافي، وينتمون جميعهم إلى جيل شبابي مبادر ومقبل على الحياة. أسسوا فرقة "كولكتيف 1200" كمكان استثنائي بكل ما فيه من أمنيات وأحلام وخيبات، يمكنه أن يحرر العمل الفني من المقولات الجاهزة.
للوهلة الأولى يخالُ النّاظر أمام لوحات سبهان آدم أنه أمام رسوم طفولية، لكن هذه الانطباعات سرعان ما تنقلب إلى نقيض محيّر
ولدت فكرة collectif من الضرورة الملحّة للتعبير والتواصل ضمن مساحة فنيّة مشتركة، ومن أجل إيجاد متنفّس بعيداً عن الضغوطات المحيطة، وشكّلت نوعاً من العلاج الجماعي والحصانة في مواجهة الظروف الصعبة التي أعادت تشكيل حياة اللبنانيّين.
بدأت عملها باجتماعات منتظمة في بيت الفنانين في حمانا، وانتقلت تدريجياً نحو العالم الافتراضي، لاستيعاب تشتت بعض أفرادها الذين غادروا البلاد، ونقرأ في افتتاح المعرض: "في زمن مليء بالرّيبة والشّكوك والانقسام، قرّرنا أن نحوّل أعمالنا الفردية إلى محادثة مفتوحة".
وتتلخّص "كوليكتيف" بأنّها مجموعة من الفنّانين المصوّرين، الذين يستخدمون نفس الوسيلة، لكن كل واحد منهم طريقته وأسلوبه المتفرد، تختلف الآراء لكن الهيكل الأساسي الذي يجمع الفرقة هو التساؤل الدائم والشّك الذي يحرض على التفكير.
تحت عنوان "أصداء من غرفة مزدحمة" يجمع غاليري آرت لاب في شارع الجميزة اثني عشر فناناً يعملون في مجال التصوير الفوتوغرافي، وينتمون جميعهم إلى جيل شبابي مبادر ومقبل على الحياة. أسسوا فرقة "كولكتيف 1200" كمكان استثنائي بكل ما فيه من أمنيات وأحلام وخيبات
لذلك قد تبدو الأعمال المعروضة ضمن "أصداء من غرفة مزدحمة" غير متجانسة، لكنها حصيلة نقاشات وآراء ومشورة مستمرّة بين أفراد الفرقة، تضعنا على تماس مباشر مع إشكالية تمثيل الذات، ومكان الفرد في الجماعة ومدى تأثيرها عليه. إنها محاولة لتحليل مفهومي الهوية والانتماء من دون شروط مسبقة، ما يجد صدى بين شريحة واسعة من الشباب.
"تحت سقف واحد" لطارق البُطيحي: شخوص المعاناة
تستضيف غاليري "آرت أون 56" المعرض الفردي الثالث للتشكيلي السوري طارق البطيحي. المعرض الذي يحمل اسم "تحت سقف واحدة" يضمّ أعمالًا تتوزّع بين اللوحات الضخمة والورقيّات والاسكيتشات المشغولة على فترة ممتدّة بين 2018 و 2020، إضافة إلى ثمانية أعمال مشغولة قبل شهرين من تاريخ بدء العرض.
تستضيف غاليري "آرت أون 56" المعرض الفردي الثالث للتشكيلي السوري طارق البطيحي. المعرض الذي يحمل اسم "تحت سقف واحدة" يضمّ أعمالًا تتوزّع بين اللوحات الضخمة والورقيّات والاسكيتشات المشغولة على فترة ممتدّة بين 2018 و 2020
ويأتي العنوان ليؤكد وحدة الظروف الصعبة التي يعانيها العالم. وفقدان الأمان والحماية، خاصة لدى الأطفال الذين يعتبرهم البطيحي "مرآة لواقعنا". وقد اعتدنا في لوحاته على انفعالية اللمسة، حِدَّة الخطوط والتباين بين الألوان والدرجات للتعبير عن قسوة المشاهد التي تُصوِّر المتسولين، الأطفال الذين ينامون في الشوارع وبائعي الورود، سعياً منه لتوثيق لحظات المرحلة الصعبة التي تُذكِّر كل سوري بآخر عشر سنوات مضت، وما وصل إليه من تغريب وضياع.
وكان البطيحي قد انتقل إلى بيروت مع انطلاق الحرب، ولكن أعماله بدأت تأخذ بُعداً جديداً منذ عودته إلى دمشق، وشرع يرسم محنة مَن حوله من أشخاص يتشاطرون معه الانكسارات التي خلفتها الحرب. والمفارقة الوحيدة في ظل هذا البحث عن ملاذ واستقرار، أن الرسام ينقلها لنا بألوان الأكريليك الزاهية.
اللّوحات والأعمال المعروضة تنأى عن ثيمة المرأة التي طغت على معارضه السّابقة، وتشهد على انتقال البطيحي من مرحلة رسم المناظر اليومية القاسية التي عاشها في سوريا، إلى مرحلة جديدة، تنتصر للتقنية والصنعة على حساب المعنى. فالرهان هنا يكمن في السعي إلى خلق بنية شكلية تحفيزية للمتلقي، أكثر من تحميل العمل قصة محددة.
وتلفتنا لوحة "ندبة" التي كانت معلّقة على نفس الجدار يوم انفجار 4 آب، تحضيراً لمعرض في ذلك الوقت، تضرّرت اللوحة في أنحاء كثيرة، لكن الفنان وبعد تفكير قرّر عدم ترميمها بطريقة تطمس معالم الجرح، وأراد أن يعرضها كما هي دون رتوش ويتصالح مع الندوب التي تشبه ندوب بيروت.
وعلى هامش المعرض يؤكد البطيحي لرصيف22 أنه يحاول ألاّ يستدرج المتلقي إلى تعاطف مباشر مع مواضيع أعماله: "أحبُّ أن أضيء على هوية الإنسان في اللوحة وأعبر عن حالاته المختلفة، سواء عن طريق الملامح، أو عن طريق تحوير الجسد وتغييره وتغييب أجزاء منه. أجدُ أنّني في الفترة الأخيرة أعبّر عن المعاناة، ولكن بشكل غير واضح، فأنا ألجأ للألوان الفرحة ولا أعوّل على اللّوحة المباشرة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...