يُفسح معرض "تفكيك" الذي افتُتح في غاليري مدينة الفنون في باريس، المجال لمزاج آخر وفنانين باتوا يستقطبون الاهتمام في بلدان الشرق الأوسط وأفريقيا، ولم تعد أعمالهم مغلقة على الأحلام الشخصية، بل اخترقها صخب الشارع ووجدت نفسها أحياناً منخرطة في العنف.
تكفي نظرة خاطفة إلى أعمال مجد عبد الحميد، عزة أبو ربعيّة، قادر عطية، خالد ضوّا، خلود هواش، كاتيا كاميلي، فرح خليل، رندة مداح، سارة أوهادو وغيرهم، كي ندرك أن الفنون التشكيلية في العالم العربي تطوّرت وصارت على صلة وثيقة بما يجري في الخارج. وبات معظم فنّانينا قادرين على مجاراة التيارات والحساسيات الراهنة، وتكوين سمات خاصة بأعمالهم.
يُفسح معرض "تفكيك" الذي افتُتح في غاليري مدينة الفنون في باريس، المجال لفنانين باتوا يستقطبون الاهتمام في بلدان الشرق الأوسط وأفريقيا، ولم تعد أعمالهم مغلقة على الأحلام الشخصية، بل اخترقها صخب الشارع
تشعّبت التجارب وتصدّعت الهويات وصار الفن نفسه نوعاً من الممارسة الشخصية التي تلغي المدارس والتصنيفات، لكن التهجير والمنفى شكّلا المساحة التي يتحرك فيها المعرض، ومنطلقاً لأعمال ترصد تفاصيل مدن مكللة بالرصاص وأحشاء بيوت مبقورة وذكريات يحاول الفنانون ترقيعها بالطريقة نفسها التي كانت أمهاتنا تصلح بها الثياب.
مبادرة هذه المعرض تمت من قبل جمعية "الأبواب المفتوحة على الفن" بالتعاون مع القيّمة نورا فيليب، التي تقول إنه يسائل قضايا متعلّقة بالاستعمار وما بعد الاستعمار ويحاول ترميم المساحات الذاتية عبر الرجوع إلى الذاكرة. بهذا المعنى يكون "التفكيك" موضوع المعرض مرتبطاً بشكل وثيق بإعادة البناء، وبإنشاء رؤية جديدة في الحاضر، تشتغل على تعديل صورة الماضي بجزئيات فردية خاصة بالفنان وإرثه البصري والذاكراتي، أو جماعية متعلقة بقضايا وطنيّة واجتماعية ملحّة.
تخبرنا المنظِّمة أيضاً أن هنالك عملين أساسيين قد لعبا دور حجر الأساس لهيكلة المعرض هما عمل "هنا قلبي" للفنان السوري خالد ضّوا وهو ماكيت نحتي ضخم لحي متخيل، قام فيه الفنان ببناء مشهد مُدمَّر محاكاة لواقع المدن السورية، مبني من البوليسترين.
خالد ضوّا " هنا قلبي" بولسترين وتقنيات مختلفة
والعمل الآخر هو تركيب من صور فوتوغرافية للفنان الفرنسي ذي الأصول الجزائرية قادر عطية، تظهر فيها وجوه قدامى المحاربين التي شوّهتها الحرب، وبعضها شهير كعلامة فارقة في التاريخ، ممثلةً بشاعة الحرب من جهة، وبدء انتشار التصوير الفوتوغرافي على نحو شعبي ومتاح من جهة أخرى.
ويركز عمل قادر عطية على إصلاح الأضرار الثقافية والنفسية للتاريخ الاستعماري الذي يصفه بالمُخجل، ويتحول أحياناً إلى مؤرخ وعالم آثار وعالم إثنيات، يعتبر الذاكرة "مساحة ينبغي تفكيكها" في سعي للتخلص من الهيمنة الكولونيالية على مجتمعات العالم الثالث وعلى مجتمعات اللجوء والمهاجرين في أوروبا. كما يبحث في مفهوم "الإصلاح" باعتباره عملية تحسين وشفاء نفسي، في نقض لفكرة الإصلاح في الغرب التي تتمثل في إعادة الأشياء إلى حالتها الأصلية ونظامها بحثاً عن الكمال والجمال المثالي.
تكفي نظرة خاطفة إلى أعمال مجد عبد الحميد، عزة أبو ربعيّة، قادر عطية، خالد ضوّا، خلود هواش، كاتيا كاميلي، فرح خليل، رندة مداح، سارة أوهادو وغيرهم، كي ندرك أن الفنون التشكيلية في العالم العربي تطوّرت وصارت على صلة وثيقة بما يجري في الخارج
ولا يتوانى عطية في وضع قناع خشبي إفريقي بجانب وجه محارب مشوّه، في إشارة ساخرة إلى عادة المستعمر في جمع هذه العناصر المثيرة للفضول لوضعها في متاحف الإثنوغرافيا. ولطالما أكّد على أهمية إعادة القطع الأثرية المسروقة إلى بلدانها الأم، وهو وعد قطعه إيمانويل ماكرون، لكن ثبت بأنه أمر صعب بسبب التعقيدات القانونية التي يثيرها.
قادر عطية "بدون عنوان" كولاج على ورق مقوّى
وسائط متعددة
وعلى الرغم من الجولة البصرية الغنية التي يقدمها المعرض، إذ تنتمي الأعمال إلى أجناس مختلفة، من تصوير وفيديو وتركيب ورسم ونحت وحفر وفنون يدوية، فإن الروابط بين كل هذه الأعمال ليست بديهية وقد تحتمل تأويلات أخرى غير التي تحملها رؤية التنظيم. فنحن بصدد تقديم يفتح مسارات فنية عديدة ويتيح التفكير في مفاهيم متنوعة، دون أن يشير بالتحديد إلى جغرافية أو حالة أو مفهوم أو مادة أو وسيط ما، إلّا في مجموعة من الأعمال التي يربط بينها إعادة إحياء أشكال مختلفة من القطع المنسوجة في صياغات فنية.
في الحقيقة، على غرار ما جاء به مارسيل دوشامب منذ عام 1913 عندما استخدم عناصر من الحياة يومية وأعاد تسميتها وتكريسها كقطع فنيّة (ready-made)، لمجرد أنها تحمل وتعبّر عن فكرته ورغبته، نجد في هذا المعرض أعمالاً توظّف عناصر أوليّة متنوعة، مثل الأثاث والمنسوجات ومواد أرشيفية مثل الصور والخرائط، مواد وأشياء تمّ إعادة النظر فيها والتدخّل من قبل الفنان حتى تعبر إلى تصنيف العمل الفني.
رندا مدّاح "تمارين في غرفة مظلمة" فيديو آرت
النسيج بين الحاضر والماضي
تستحضر المنسوجات المعروضة سؤالاً جوهرياً دائم التجدد حول معنى المعاصرة في الفنون التشكيلية، ومدى ارتباط وأصالة هذا المفهوم في الشرق ومدى مساهمة فنانيه في تطوير الحركة. حيث تسود نظرة عن الشرق تضعه بمقام الوراث للفنون التشكيلية البصرية بتصنيفاتها السائدة (كما قد عرّفها إيمانويل كانط منذ منتصف القرن الثامن عشر، أي فنون النحت والحفر والرسم، وما أُضيف إليها من الفنون التي نشأت منذ نهاية القرن التاسع عشر من تصوير ضوئي وكولاج وتركيب وفيديو آرت).
أعمال الفنانين التي تستخدم القطع القماشية في هذا المعرض تشير إلى رغبة في مواجهة مفهوم الهويّة ومعالجته فنياً والبحث عن التجديد عبر استخراج المعاصر من قلب الممارسات اليدوية التقليدية العريقة في المنطقة، دون أن تنحو نحو المهادنة أو الاستنساخ، فنراها أحياناً تسائل وتهدّم وتفكك، كما هي الحال بالنسبة للقطع التي تقدمها اللبنانية مها يمين.
مها يمين "عد تنازلي" مفرش طاولة مطرّز
تقوم يمين بتنسيق مجموعة من أقمشة كانت قد طُرزّت بتأنِ وإتقان من قبل نساء من عائلتها، هي قطع دائرية صغيرة الحجم لها في الأساس وظيفة جمالية لتزيين أثاث المنزل وإبراز براعة الصانعات. تتدخّل فيها الفنانة أحياناً بتفكيك الغرز، تاركة الأقمشة بفراغات جديدة، تحاول عبر هذا الإجراء نسج ذاكرة أخرى لتاريخ نساء العائلة وخلق روابط جديدة بين الماضي والحاضر.
خلود هواش "أعداء من الجهات الأربع"
أما الفنانة العراقية خلود هواش التي تأثرت أعمالها بمناخات الحضارات القديمة، كالبابلية والآشورية والأكادية، فتعتمد التطريز لصياغة مادة فنية تحتفي بالمرأة وتحتشد بالألوان الزاهية. صحيح أن هذه الممارسة تذكّر بالفولكلور العراقي وبالمنسوجات اليدوية التقليدية من أقمشة أو سجاد تصنع لتزيين الجدران، إلّا أن الفنانة تتجاوز فيها مفهوم الحرفة، فهي تشتغل على البنى اللونية باستخدام قطع قماش مختلفة، وتقدّم فيها مزيجاً بين الأسطورة والحياة الحديثة، عبر كائنات تشبه السحالي تحيط بجسد الأنثى العاري بالإضافة إلى جهاز إلكتروني في الوقت ذاته، وهذا الدمج محمّل بدلالات غرائبية ما نعيشه اليوم.
تستحضر المنسوجات المعروضة في معرض "تفكيك" سؤالاً جوهرياً دائم التجدد حول معنى المعاصرة في الفنون التشكيلية، ومدى ارتباط وأصالة هذا المفهوم في الشرق
تقول خلود هواش: "دأبت النساء في العراق على تصنيع الأفرشة والبسط من بقايا الأقمشة والثياب القديمة لإنتاج جزء من الأثاث المنزلي. وقد قمت باستعارة تلك التقنية مع الحس الشعبي التصويري للفلكلور والموروث العراقي سعياً لتكثيف العلاقة بين التقنية والشكل وتعميق الحس الجمالي للمنتوجات".
فرح خليل "مذكرة السرير" تجهيز
وتؤسس التشكيلية التونسية فرح خليل لفضاء بصري شديد التشابك لكنه قابل للتفكيك، إذ يترك لنا مفاتيح كثيرة هي جزء من نتائج وتوثيقات بحثية في البيئة المحلية. عملها "مذكرة سرير" يعتمد على قطع من حياكات دقيقة وضعتها تحت زجاج قطع الأثاث التي تعرضها، بهدف التحريض على التفكير بالفنون المعاشة. بمعنى آخر، تلفت الفنانة النظر إلى الفن خارج جدران المتاحف، فتجمع جزئيات نراها في حياتنا اليومية، ربما تكون بديعة تضاهي المتعة البصرية التي قد تحملها لوحة كلاسيكية.
مجد عبد الحميد "خط الحدود سوريا، العراق، تركيا" تطريز على قماش
ونشاهد لدى الفنان الفلسطيني مجد عبد الحميد مطرّزات تجريدية صغيرة برّاقة باللون الأحمر غُرزت على قصاصات قماشية بيضاء، فتبدو كأنها وحدات زخرفية قد تم تفكيكها واقتطاعها من بنية واحدة لتُحاكي بشكل غير مباشر فكرته عن الحدود الجغرافية وقضية الانتماء القومي.
أعمال الفنانين التي تستخدم القطع القماشية في معرض "تفكيك" تشير إلى رغبة في مواجهة مفهوم الهويّة ومعالجته فنياً والبحث عن التجديد عبر استخراج المعاصر من قلب الممارسات اليدوية التقليدية العريقة في المنطقة
ويصف عبد الحميد استخدامه للتطريز بأنه "تدخُّل" في الزمن: "كيف أستطيع تحويل الزمن بصرياً؟ أنا أعرف كيف يمر الزمن، لكن كيف أستطيع إيقافه أو الإمساك به؟". مثل الصور الفوتوغرافية، فإن لوحات التطريز تقبض على لحظات في الزمن وتجمّدها. لكنها أيضاً تشير إلى عملية بطيئة ومجهدة تتضاءل أمامها آنية الفوتوغرافيا الرقمية. يقول: "عالمنا يتسارع أكثر فأكثر وهذه طريقة لإبطائه".
سارة أوهادو "تطوان" تطريز على قماش
أما عمل الفنانة البصرية المغربية سارة أوهادو فيركز على العلاقة بين التقاليد الحرفية والتقنيات المعاصرة، وقد حاولت في هذا العمل إقناع الحرفيات في تطوان بإدخال بقايا المطاط المُعالج في المشغولات اليدوية، لإنشاء حوار حول الهوية المغربية وموقعها من العولمة. البحث المرتبط بالمادة يتقاطع هنا مع فكرة أعمق متعلقة بإعادة قراءة التراث، تطرح سؤالاً عن جماليات مستجدّة لمواد غير نبيلة من ناحية القيمة الماديّة.
وربما تسعى الأعمال جميعها من خلال التداخل بين ما هو يوميّ وما هو فنيّ، بين الفن المعاش والمتحفي إلى نظرة معاصرة تبتعد عن استنساخ المفاهيمية الأوربية، عبر إعادة النظر في الماضي والمواد المتاحة. كما أنها تستدعي التأمل في الحضور المؤنث في الفنون الشعبية، فمعظم أعمال الحياكة والتطريز والنسج في الشرق تقوم بها النساء كفعل يومي له غايات واضحة لإمتاع البصر.
يستمر المعرض حتى العاشر من يوليو/ تموز 2021 ويمكن الاستماع إلى لقاءات مع الفنانين تنظمها منسّقة المعرض عبر جلسات فيديو متاحة على قناة جمعية الأبواب المفتوحة على يوتيوب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.