اختارت قناة "الشروق TV" أن تبثّ هذا الموسم الرمضاني المسلسل الجزائري "بابور اللوح"، وهو العمل الدرامي الثاني الجزائري للمُخرج التونسي نصر الدين السهيلي، بعد مسلسل "أولاد الحلال" في رمضان عام 2019.
حقق مسلسل "بابور اللوح"، بحسب "الشروق أون لاين"، نسبة متابعة تخطت عتبة ثمانية ملايين مشاهدة على اليوتوب، بعد عرض سبع حلقات منه.
المسلسل الجزائري من إنتاج أيمن جوادي، ويحضر فيه نجوم جزائريون اشتهروا في مسلسل "أولاد الحلال" الذي تصدر الأعمال الدرامية سنة 2019، بينهم عبد القادر جريو، ياسمين عماري، الممثل البارز مصطفى لعريبي، المغنية ذات التأثير نوميديا لزول، الممثل الجزائري محمد خساني، وابنة خالته سهيلة معلم، والممثل الشاب رابح عبد الكريم.
ويسلط المسلسل الضوء على "الحرقة" (الهجرة غير الشرعية أو غير النظامية)، التي اتسعت رقعتها بشكل كبير في المجتمع الجزائري في السنوات الأخيرة، إذ تم إحباط محاولة هجرة 6426 شخصاً بطريقة سرية خلال 2021، حسب الإحصائيات التي كشفتها وزارة الدفاع الجزائرية.
انتصر لقاع المجتمع
تدور أحداث هذا المسلسل في مدينة وهران المعروفة بـ "لؤلؤة" الجزائر، والملقبة بـ "باريس الصغيرة" أو مدينة "الأسود"، ذات الصيت في مقاومة المحتلين، والتي صُوِّرت على أنها نقطة انطلاق القوارب الخشبية أو المطاطية، ونقل المسلسل بشاعة ما يحدث في قاع المجتمع الجزائري، كاسراً بذلك النمطية المعتادة في العديدة من المسلسلات الرمضانية، التي لطالما صُورت في أفخم القصور والفيلات.
يتناول المسلسل قصة الشاب "حسني"، أدّى دوره الممثل عبد القادر جريو، يعاني من مشاكل نفسيّة وعائليّة، بسبب ظروف اجتماعيّة قاسية، فهو يعمل بائعاً للملابس في سوق شعبي، وتظهر عليه علامات الغضب، التمرد على الواقع والتعصب، وهذا ما أثّر على علاقته بزوجته وابنته.
تسوء حالة حسني بعد اكتشاف مرض ابنته بالسّرطان الخبيث، أمّا شقيقه فيظهر مشتت الفكر، متعصباً، قلقاً، فاشلاً في علاقته مع زوجته وأمه وابنته، وقد أثّر ذلك عليه، فاختلى بالكاباريه وعاقر الخمر، وأقام علاقة مع مغنية الملهى كنوع من التعويض.
ويروي العمل الدرامي كذلك قصة إلياس العاشق، المتيم بالغالية التي تحبه كأخ وصديق لا كحبيب وزوج، وناصر الذي خان زوجته جملية، ومراد الذي ضاع كل ما خطط له في حياته سدى وهباءً، وبات يفكر هو الآخر في الهجرة السرية، غير أن الموت خطفه قبل أن يحقق حلمه.
البطل شاب، مشتت الفكر متعصب، قلق، فاشل في علاقته مع كل النساء، زوجته وأمه وابنته، يقيم علاقة مع مغنية ملهى، ويعاقر الخمر... هل صور المسلسل فعلاً التيار العريض للشباب الجزائري اليوم؟
ويعكس تفكير مراد وحسني تفكير آلاف الشباب الجزائريين، الراغبين في الخلاص عبر "الحرقة"، غير آبهين بتعاظم أمواج البحر، وإن كان سيلفظهم جثثاً هامدة، ويلقون نفس مصير محمد، الشاب الجزائري ذي الـ 21 ربيعاً، من بلدة "بني صاف"، التابعة لمحافظة عين تيموشنت، والذي غادر سنة 2009 تاركاً وراءه رسالة لوالدته يطلب منها السماح والمغفرة، قال فيها: "سامحيني يا أمي، إذا لم أتصل أدع لي بالرحمة، مللت من الحقرة والتهميش والفقر، بلغي سلامي لكل العائلة، إذا بلغت الضفة الأخرى سأتصل بك، وإذا لم أفعل ادعي لي بالرحمة، اعتنوا كثيراً بشقيقتي، آسف يما (أمي) أنت أعز ما لدى في الدنيا".
وأنت تتجول في وهران "الباهية"، كما يطيب لأهلها تسميتها، عاصمة الغرب الجزائري، مدينة خلابة تنام على ساحل البحر الأبيض المتوسط، ومستغانم "محروسة العلماء"، وعين تيموشنت في الغرب الجزائري على الساحل الوهراني، وصولاً إلى بومرداس، ومدينة دلس في الشمال المركزي للجزائر، ستصادف الكثيرين أمثال حسني ومراد ومحمد الذي غادر ولم يعد، ممن يعملون بكد وجد من أجل جمع أموال "الحرقة"، ويبررون ذلك بالقول: "خليني نروح... لا أمل ولا مستقبل"، أما المستفيد الأكبر من هذه العملية هي الشبكات التي تتاجر بأحلام الشباب، فالشاب حسني وكلاي ودينغا، كانوا صورة مطابقة لـ "مافيا" تهريب البشر، التي تخاطر بأرواح المهاجرين السريين مقابل الملايين.
"حرقة" النساء وزواج القاصرات
سلط المسلسل الضوء على "حرقة" النساء، من خلال شابة جزائرية في العقد الثاني من عمرها، كانت الفتاة الوحيدة من بين عشرات الشبان الجزائريين الذين شقوا البحر، كانت جالسة على قاع القارب وهي ترتعد من تلاطم الأمواج. تبكي تارة، ربما خوفاً من القادم على أرض غير أرضها، وتضحك تارة أخرى لأن حلمها تحقق.
كما نجد قضايا أخرى عالجها هذا المسلسل، من بينها زواج القاصرات بالجزائر عبر شخصية ليديا، فتاة صغيرة في مقتبل العمر (17 عاماً)، سرقت طفولتها بعد أن زوجها والدها برجل أربعيني مقيم في فرنسا، فوجدت نفسها أمام واقع مرير.
وتكشف آخر الإحصائيات التي أعلنتها الأمينة العامة للاتحاد الجزائري للنساء، عن تسجيل 500 زيجة لقاصرات جزائريات دون الـ 17 سنة خلال عامي 2017 و 2018، بينهن قاصرات في عمر الـ 13 و14 سنة، وهو مخالف تماماً للقانون الذي يجرم تزويج القاصرات، وينتشر هذا النوع من الزواج بالمدن الداخلية والصحراوية.
انشغلت مواقع التواصل الاجتماعي بأحداث "بابور اللوح"، واعتُبر أول عمل درامي جزائري يسلط الضوء على ظاهرة الهجرة السرية، إذ بقيت محور أشرطة وأفلام سينمائية قصيرة، وبعض الإنتاجات التلفزيونية التي تعاطت مع الظاهرة بشكل سطحي، ومن أبرز هذه الأعمال فيلم "روما ولا انتوما" (روما أفضل منكم) وهي العبارة التي ترمز للهجرة غير الشرعية، وتتصدر الجدران في الأحياء الشعبية، للمخرج الجزائري طارق تقية، وبطولة كل من سميرة قدور ورشيد عمراني، في دور شابين جزائريين يسعيان لترك الجزائر بعد "العشرية السوداء" التي عاشتها الجزائر في تسعينيات القرن الماضي، وكان هذا الشريط حاضراً وبقوة في عدد كبير من المهرجانات الدولية.
وفي عام 2007، برزت أعمال مشابهة، سلطت الضوء على الهجرة السرية، أبرزها الفيلم القصير (ثلاثون دقيقة) "حلم لم يتحقق" للمخرج الجزائري أحسن تواتي، عُرض في قاعات السينما، ويروي حكاية خمسة شبان وفتاة جميلة في مقتبل العمر، يحاولون بمختلف الطرق الهجرة بعد أن اشتد عليهم الخناق في وطنهم الأم، غير أن محاولتهم الأولى باءت بالفشل، بعد أن ألقت مصالح الأمن الجزائري القبض عليهم، وتم إيداعهم السجن، وبعد استنفاذهم لعقوبتهم، كان من المرتقب أن يتراجعوا عن المغامرة غير أنهم التقوا مجدداً، وحاولوا إعادة الكرة.
وفي 2009، أنتج السينمائي الجزائري مرزاق علواش، شريطاً جديداً حول تجربة الهجرة السرية، يروي قصة عشرة شبان انطلقوا على متن قارب صيد من مدينة مستغانم (غربي العاصمة الجزائرية) نحو جزر الكناري الإسبانية، وقد اعتمد السينمائي، في العمل الذي صوره بين الجزائر وفرنسا، على قصص مستوحاة من الواقع استقاها من الصحف المحلية، إضافة إلى شهادات حقيقية لأشخاص قابلهم.
وانقسم الجزائريون بين من يؤيدون أحداث مسلسل "بابور اللوح"، ويرون أنها تجسد الظاهرة بكل صدق وعفوية، ومن يرونها تمس بقدسية شهر رمضان الكريم، ولذلك استدعت "سلطة ضبط السمعي البصري" الجزائري، مديرة قناة "الشروق" إثر ما تلقته حول بعض التجاوزات التي رأتها "تمس بمبادئ ديننا الحنيف".
جيل الثمانينات يخطف الأضواء
ومن تغريدات المعجبين، كان هناك اهتمام كبير بقصة الملاكم مراد، الذي جسد دور الرياضي الجزائري "المحقور" المهمش، فكتب أحدهم: "قصة الملاكم مراد في مسلسل بابور اللوح، قصة مقتبسة من واقع بعض الرياضيين الجزائريين، وكم من رياضي تم تهميشه واستبعاده من المنتخب، وإعطاء مكانه لرياضيين آخرين خدمة لمصالح شخصية، وكم من رياضي فكر في الحرقة بقوراب الموت، هذا المشهد يظهر دور المربين المكونين الذين يعملون على تكوين أبطال، ودور بعض المسؤولين والمدربين في تكسير وتحطيم المواهب".
وقالت مغردة أخرى: "لأول مرة أتابع مسلسل يجسد حقيقة الواقع المعاش، بدون أي تزييف، فاللقطات الدرامية تجسد حياة الشباب الاجتماعية في مجتمع حيث لا يجد سبيلاً للنجاة من الواقع، عندما لا يجد هؤلاء الشباب الضائع سبيلاً غير الطريق الخاطئ".
ومن أبرز ما استحسنه بعض المشاهدين، سيطرة اللهجة الجزائرية الدارجة على العمل الدرامي، والعفوية التي سيطرت على الممثلين والممثلات، خاصة من الشباب الموهوبين مثل: مروى بكير، فتاة جزائرية في مقتبل العمر، سجلت أول ظهور لها على شاشة التلفزيون، إضافة إلى الممثل الجزائري يوسف قواسمي، وهو فنان وممثل ومخرج مسرحي من وهران، جسد شخصية ضابط شرطة، أناني، فاسد وانتهازي.
وأيضاً الفنان الجزائري عبد الله مربوح، الملقب بـ "عبدو" من محافظة سيدي بلعباس (غربي العاصمة الجزائرية) جسد دور دينغا، شخصية "المافيا" في "بابور اللوح"، وأحد المشرفين على الرحلات السرية نحو الضفة الأخرى من المتوسط.
وقال أحد المغردين: "عندما تشاهد بابور اللوح تحس العفوية واللهجة القريبة من المواطن الجزائري، وأهم شيء أن العمل صور في أحد الأحياء الشعبية يعكس الصورة الحقيقية للواقع المعاش".
وكتب محمد علال، الناشط والصحفي الجزائري: "بابور اللوح مسلسل جدير بالمتابعة رغم بعض الأخطاء الفنية وتباين أداء الممثلين، وتسارع الأحداث بشكل غير متناسق درامياً".
"هو واحد من أهم الأعمال الجزائرية المنجزة خلال العشر سنوات الأخيرة، سيظل محفوراً في الذاكرة، وسنكتب عنه في المستقبل أنه أول عمل درامي جزائري يتناول قضية الحرقة (السينما سبقت التلفزيون إلى هذه القضية بأفلام من توقيع علواش وموسى حداد)".
وأردف: "موضوع الحرقة وبكل ما يحمله من عواطف محزنة، هو من بين أكثر المواضيع تعقيداً، لبعدها الإنساني وصعوبة تصوير مشاهدها، لهذا كانت المهرجانات العالمية تكرم المخرجين الذين يخوضون هذا النوع من المغامرة (مثل فيلم "فوكوملري" لجيافرانكو روزي، جائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين)".
ولعل أبرز ما لفت انتباه الصحفي الجزائري، هو أن هذا العمل يمثل جزءاً مهماً من حكاية جيل الممثلين من مواليد الثمانينيات، الذين قرروا صناعة سينماهم وأفلامهم ومسرحياتهم. جيل يأتي من بعيد، وقد عاش طفولة هي الأصعب في تاريخ أجيال الجزائر، خاصة التسعينيات التي أتت على كل شيء جميل، وقد تركت قحطاً فنياً في نفسية كل واحد منا لعشر سنوات كاملة.
"جيل الثمانينات وأبناء وهران ورفقاء عبد القادر جريو، يحاربون، اليوم في كل الاتجاهات من أجل النهوض بالفن الجزائري المتعثر للأسف منذ سنوات، وسط وحل المحاكمات الأخلاقية والفيسبوكية المنتشرة هنا وهناك، والتي للأسف تحولت إلى إرهاب جديد، يسير أحياناً بتزكية من السلطات الرسمية".
محور دراسة أكاديمية
وسيكون هذا المسلسل الدرامي محور دراسة أكاديمية، ستشرف عليها الكاتبة والأديبة والناقدة الجزائرية، الدكتورة سامية غشير، تقول لنا إن "هذا العمل الدرامي يعرّي بشاعة ما يحدث في قاع المجتمع المقموع، الذي يعيش على الهامش، بعيداً عن الرفاهيّة، حيث ما تزال بعض السّلوكيات تطبع الواقع، فنجد صور القهر الاجتماعي تجاه المرأة، والإكراه على الزواج، والعنف بصوره الجسديّة والمعنويّة، وتهميش الأبطال ودفعهم إلى الانتحار، مثلما حدث مع شخصية مراد".
وتردف قائلة: “إن بطل المسلسل (عبد القادر جريو) سيطر طولاً وعرضاً على أحداث وتفاصيل المسلسل، مقارنة بالشخصيات الأخرى الرئيسة والثانوية؛ إذ تمظهرَ في صورة القائد الذي يقود ويؤثر في مسار الأحداث وتطوّر الحبكة، كما أن المخرج ركّز على إبراز انفعالاته الكثيرة، وصراخه، وعدم اتّزانه نفسياً وعقلياً في كثير من الأحايين، وقد أسهمت اللّقطات القريبة في تجسيد ذلك".
وأبرز ما لفت انتباه نشطاء السوشال ميديا، أن هذا المسلسل يمثل جيل الثمانينات، بعد أن عاش طفولة هي الأصعب في تاريخ أجيال الجزائر، فالتسعينيات أتت على كل شيء جميل، وقد تركت قحطاً فنياً في نفسية كل واحد منا لعشر سنوات كاملة
وأشادت سامية بالإخراج، "فقد أفلحت كاميرا المخرج "نصر الدّين السهيلي" في تأطير الشّخصيات، والمكان، فكان ينتقل بعدسة الكاميرا ويركّز على اللّقطات القريبة، التي تجلي الأبعاد الدراميّة للشخصيات والمكان، فوجدنا صدقاً كبيراً وحرفيّة في نقل الأحداث والوقائع، على الرّغم من بعض الانفعالات غير المبرّرة وشدّة الصُراخ، والغضب المبالغ فيه، إلّا أنّه أفلح في رسم الشخصيات، وتشكيل المكان الذي تجلّى قاسياً، صعباً، مأساوياً، أثّر في الرُدود السلبيّة الانفعاليّة للشخصيات".
وتنتقد سامية كذلك "ارتباك" السيناريو، توضح: "يفتقد إلى الترابط، وتغيب الحبكة، وتفلت القصّة، فنجد مرات مشاهد متفرّقة غير متّصلة ببعضها".
وتنهي سامية حديثها قائلة: "من خلال مشاهدتي للحلقات الإحدى عشر، يمكنُ القول إنّ مسلسل "بابور اللّوح" قد نجح إلى حدّ بعيد في نقل وتصوير وتجسيد واقع جزائريّ مهمّش، مقموع ومأساوي، في مناطق من مدينة وهران، بعيداً عن المركزيّة العاصميّة، وقد وفّق المخرج كثيراً في إدارته الإخراجيّة، رغم بعض الهنات والنقائص في السّيناريو، والّتي نأمل أن تُصحّح في باقي الحلقات".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...