اللبنانيون على موعد مع جريمة جديدة يمكن أن ترتكبها السلطة السياسية في أي لحظة. ففي هدم مبنى إهراءات القمح، الذي دمّر انفجار مرفأ بيروت جزءاً منه، يوم 4 آب/ أغسطس 2020، جريمة يبدو أنّ السلطة مستعجلة على ارتكابها في غضون أيام أو أسابيع، حسب ما توحي عجلة اتخاذ القرارات والتوجيهات. ويصبّ ذلك في المسار الطبيعي والاعتيادي المنتهج في لبنان حيث تُقدِم القوى السياسية على جريمة ما، لتعمل على إزالة كل معالمها، في مسعاها إلى طمس التحقيق كلياً.
وكالعادة، يُترك الضحايا وحيدين في ساحة أو خيمة أو اعتصام، طلباً للعدالة والحقيقة، من دون أي محاسبة تُذكر للحؤول دون وقوع جرم جديد. هذا المسار واكب مختلف الجرائم التي تمّ ارتكابها في لبنان على يد السلطات السياسية المتعاقبة خلال مئة عام على تأسيس "لبنان الكبير"؛ أحداث الـ1958، والحرب الأهلية، وإعادة الإعمار، وإفلاس الخزينة، وأموال المودعين، وجرائم الاغتيالات السياسية، وتلك التي تم تنظيمها في حق مثقفين وصحافيين وحتى نواب وقيادات سياسية. يتم ارتكاب الجريمة تلو الأخرى، ولا شاهد فيها ولا قصاصة تحقيق، ليبقى منها ملصق أو صورة، صورة ضحية مع تاريخ الفتك بها، وسؤال مستمرّ عن المجرم الواضح في معالمه وبصماته وهويّته.
مبنى الإهراءات
يوم 4 آب/ أغسطس، كانت المجزرة الأكبر في تاريخ لبنان، والانفجار غير النووي الأكبر في العالم. لكن بخفّة متناهية تحاول السلطة السياسية اللبنانية هدم شاهد الانفجار الذي حمى جنوب العاصمة من الدمار الهائل والشامل. بالمختصر، تعمل الحكومة اللبنانية اليوم على هدم المبنى بحجج مختلفة، فتستند إلى تقرير أعدّته شركة خطيب وعلمي للاستشارات الهندسية (وهي إحدى الشركات المتعهّدة في مشاريع الدولة).
تحاول السلطة السياسية اللبنانية هدم شاهد الانفجار الذي حمى جنوب العاصمة من الدمار الهائل والشامل وتعمل الحكومة اليوم على هدم الإهراءات بحجج مختلفة
يشير التقرير إلى أنّ "الإهراءات آيلة إلى السقوط" حسب ما ينقل وزير الإعلام زياد مكاري، ما يشكّل خطراً على السلامة العامة. أما الحجة الأخرى فتتمثّل في الكلفة المترتبة على عملية إعادة ترميم المبنى، بالإضافة إلى حجة ثالثة بدأت بالظهور تلقائياً بعد بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، وهي الأمن، وتأثير المبنى على الأمن الغذائي والحاجة إلى صوامع جديدة لتخزين القمح. ويتمّ وضع اللمسات الإخراجية الأخيرة لمشروع هدم الإهراءات من خلال تكليف مجلس الإنماء والإعمار الإشراف على العملية وتكليف وزارتي الثقافة والداخلية إقامة نصب تذكاري للضحايا.
المحاججة الضرورية
يلحظ عدد من الخبراء، تحديداً في نقابة المهندسين، أنّ العطب الأساسي يكمن في تكليف الشركات الهندسية "إعداد خطة للهدم وليس دراسة لواقع الإهراءات. وكان بالإمكان الطلب من شركات هندسية إعداد دراسات عن التدعيم حتى، لكن ذلك لم يحصل، كما لو أنّ القرار بالهدم سبق واتُّخذ".
وإن كان المهندسون والفنيّون، ومنهم نقيب المهندسين عارف ياسين، يؤكدون على أنّ كلفة التدعيم أعلى من كلفة الهدم، إلا أنه ما يجب التوقّف عنده أيضاً هو أنّ كلفة الهدم وإعادة بناء مبنى جديد للإهراءات قد يفوقان كلفة الترميم خصوصاً في سيرة السمسرات والفساد الحافلة في لبنان.
وفي هذا الإطار، يؤكد ياسين لرصيف22 على أنه "ليس من مبنى غير قابل للتدعيم أو الترميم بغض النظر عن الكلفة المترتّبة عليه، خصوصاً في ما يخص مبنى الإهراءات الذي يجسّد قيمةً ثقافيةً واجتماعيةً وحضاريةً وسياسيةً خصوصاً بعد مجزرة 4 آب/ أغسطس". وتقنياً، يشير ياسين إلى أنّ "الجزء الشمالي لمبنى الإهراءات غير مستقرّ، بينما الجزء الجنوبي منه مستقرّ تماماً، وتالياً الأعمال تشمل الجهة الشمالية فحسب".
منشأة البقاع
أما على مستوى الحجة المتعلّقة بالأمن الغذائي وتخزين القمح، فيلفت ياسين إلى المنشأة التابعة لمصلحة الأبحاث العلمية الزراعية الموجودة في رياق (البقاع)، والتي كان يتمّ تخزين القمح فيها حتى عام 2014، واتُّخذ قرار بإقفالها بسبب سوء ظروف التخزين.
في رياق، منشأة تتسع لكمية توازي 400 ألف طن من القمح، أي أكثر من ثلاثة أضعاف الكمية التي يمكن تخزينها في مبنى الإهراءات في المرفأ
وفي رياق، منشأة تتسع لكمية توازي 400 ألف طن من القمح، أي أكثر من ثلاثة أضعاف الكمية التي يمكن تخزينها في مبنى الإهراءات في المرفأ المقدّرة بـ120 ألف طن. وتالياً، بدل أن تنكبّ الدولة اللبنانية على إعادة تأهيل منشأة البقاع، قبل انفجار المرفأ وبعده، وقبل أزمة الأمن الغذائي وبعدها، عملت على تأمين مخازن بديلة بكلفة أكبر، وتُركّز اليوم على مشروع هدم إهراءات المرفأ.
وشكّل الكشف عن وجود منشأة البقاع صدمةً بين الوزراء والسياسيين، إذ اتّضح أنّ المسؤولين اللبنانيين كانوا يغفلون عن وجودها. فعلى ما يبدو أهل السلطة في لبنان "ليسوا أدرى بشعابها".
الإهراءات بالأرقام
عرض مدير إهراءات المرفأ، أسعد الحداد، تاريخ إهراءات المرفأ، ويشير إلى أنّ بناء المنشأة الخاصة بالحبوب بدأ عام 1968، بدعمٍ من الدولة الكويتية عبر قرض من الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية. وانتهت أعمال البناء عام 1970، وضمّت المنشأة 104 صوامع للقمح قدرتها التخزينية تصل إلى 125 طناً من القمح، بارتفاع 48 متراً عن الأرض.
وحسب مديرية الدراسات والمنشورات اللبنانية في وزارة الإعلام، فإنّ المنشأة حوت على 48 مخزناً كان يستوعب كل منها 2،500 طن، بالإضافة إلى 50 مخزناً صغيراً يستوعب كل منها نحو 600 طن. وكان يتمّ في مبنى الإهراءات تخزين ما نسبته 85% من إجمالي حبوب لبنان وقمحه. وتشير الدراسة نفسها إلى أنّ الانفجار أدى فقط إلى تلف 15 ألف طن من القمح كانت مخزّنةً في الإهراءات قبل 4 آب/ أغسطس 2020.
سيرة الهدم
قبل أن تعلن الحكومة اللبنانية عن تكليف مجلس الإنماء والإعمار الإشراف على عملية هدم الإهراءات يوم 15 نيسان/ أبريل 2022، يمكن التوقّف عند بعض التواريخ الأساسية في سيرة مشروع الهدم. فيوم 5 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2020، أي بعد ثلاثة أشهر على انفجار مرفأ بيروت، أعلن وزير الاقتصاد السابق راوول نعمة، أنّ هدم المنشأة ضرورة. في 6 نيسان/ أبريل 2021، كشف تقرير شركة "أمان إنجنيرينغ" السويسرية أنّ "كتلة الصوامع المشلّعة هيكل غير مستقرّ ومتحرّك".
تحاول السلطة السياسية هدم مبنى الإهراءات بالرغم من أن الترميم سيكون أقلّ كلفة، إلا أن المعلومات تتحدث عن بدء السمسرات بين أطراف الحكومة في امتداد لسياسات كانت المسبب في الانهيار الذي يشهده لبنان
في 9 شباط/ فبراير 2022، أعلن وزير الاقتصاد أمين سلام، البدء باستدراج عروض لمناقصة الهدم. وفي 9 آذار/ مارس الماضي، أصدرت نقابة المهندسين بياناً أكدت فيه على ضرورة تدعيم الإهراءات للمحافظة على الذاكرة الجماعية للمدينة. بعدها بأيّام، أي في 12 آذار/ مارس، وافقت الحكومة على توصيات اللجنة الوزارية المخصصة، وأصدرت الحكومة قراراً بالهدم. وفي 18 آذار/ مارس، أعلن وزير الثقافة محمد مرتضى، عن إدراج الإهراءات على لائحة الجرد للأبنية التاريخية، ما يمنع هدمها. ثم عاد في 25 آذار/ مارس الماضي ليتراجع عن موقفه مؤكداً على الهدم "شرط تأمين بديل لحفظ الذكرى وإقامة نصب". في 7 نيسان/ أبريل الحالي، زار مرتضى محترف النحات اللبناني رودي رحمة، معلناً العمل على إنشاء معلم تذكاري لـ"فاجعة 4 آب/ أغسطس".
الأهالي
من جهتهم، لا يزال أهالي ضحايا انفجار مرفأ بيروت وشهدائه، يتمسّكون بموقفهم الرافض لهدم مبنى الإهراءات. وفي هذا الإطار، يقول ويليام نون، الذي خسر شقيقه في التفجير، وهو من أبرز الذين يقودون حملة المطالبة بكشف الحقائق، لرصيف22: "نرفض هدم الإهراءات وكذلك نرفض أي عمل يمكن أن يبدأ في المرفأ قبل جلاء الحقيقة، وتحقيق العدالة في مجزرة 4 آب/ أغسطس".
في 9 آذار/ مارس الماضي، أصدرت نقابة المهندسين بياناً أكدت فيه على ضرورة تدعيم الإهراءات للمحافظة على الذاكرة الجماعية للمدينة
نظّم الأهالي، أربع وقفات احتجاجية على مدى العام الأخير، رفضاً لهدم الإهراءات، كان آخرها يوم 14 نيسان/ أبريل الجاري أمام المرفأ. يتمسكون بورقة التحقيق بحثاً عن المحاسبة المطلوبة في انفجار المرفأ، مع العلم أنّ السلطة السياسية حرّفت موقف المحقق العدلي القاضي طارق البيطار تجاه هدم مبنى الإهراءات، إذ قال وزير العدل هنري خوري، إنّ بيطار "يرى أنه لم يعد من داعٍ للمحافظة على ما تبقى من مبنى الإهراءات".
ولحظت "المفكرة القانونية"، أنّ ما جاء في موقف البيطار "أُخرِج من سياقه، إذ تبيّن أنّ البيطار كان يردّ على ما ورد إليه من إحدى الوزارات عبر النيابة العامة التمييزية، بأنّ الخبير الفرنسي إيمانويل دوران، أبلغ السلطات اللبنانية المختصّة بأنّ صوامع الكتلة الشمالية من المبنى مالت سبعة سنتيمترات منذ شهر تموز/ يوليو الماضي، وأنّه يتوقع سقوطها نهاية السنة الجارية بسبب العوامل الطبيعية في فصل الشتاء".
الوعد الكويتي
عند سؤال مواطنين لبنانيين عن مشروع الهدم الذي تنوي الحكومة تنفيذه، تكون الأجوبة على نمط: "بالتأكيد ثمة سمسرة أو عمولة"، و"قد يكون ثمة خطر من الإهراءات، لكن خطر الاختلاسات أكبر"، و"شو بدهم يسرقوا بعد؟".
وكانت دولة الكويت وعدت أنها ستعيد بناء الإهراءات، إذ كشف السفير عبد العال القناعي، يوم 23 آب/ أغسطس 2020، أنّ "الكويت ستعيد بناء الصوامع لتظل عنواناً شامخاً للأخوة، ولكيفية إدارة العلاقات بين البلدين الشقيقين: يحترم أحدهما الآخر ويشعر الأخ بأخيه". وعلى ما يبدو عيون السياسيين اللبنانيين على هذه الأموال، بدل الاستفادة منها لتدعيم المبنى الحالي، وبناء آخر، أو حتى إعادة ترميم منشأة البقاع وتأهيلها.
لماذا لا يكون مبنى الإهراءات برج بيزا اللبناني الشاهد على جريمة العصر، والمجزرة التي تم ارتكابها في بيروت يوم 4 آب/ أغسطس؟ لأنّ هذا مسار الأمور في طمس الحقائق والجرائم في لبنان
ولدى سؤال مراجع سياسية عن مشروع هدم الإهراءات، تشير المجالس في بيروت إلى صراع قائم بين رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وبعض المكوّنات الوزارية حول موعد الإقدام على جريمة هدم المنشأة. ثمة بين هذه الأوساط الحكومية من يشدّد على وجوب التحرّر من الإهراءات في وقت قريب وعاجل، وحتى قبل الانتخابات النيابية، خوفاً من نتائجها، بينما يحاول رئيس الحكومة إبعاد هذه الكأس عنه حتى لا يوصم بأنه الرئيس الذي هدم الإهراءات.
أما مجالس أخرى، فتؤكد على أنّ ملف هدم الإهراءات، ومنافعه المالية، دخل إلى حيّز ملفات أخرى ذات مردودات مالية، منها ملف التنقيب عن الغاز. هذا المسار المعتاد الذي تتّبعه السلطة السياسية ومكوّناتها، لا جديد فيه. وتأتي جريمة هدم الإهراءات استكمالاً لجريمة انفجار مرفأ بيروت، ولو على حساب هوية المدينة وحقوق ضحاياها وثقافتها العمرانية.
لماذا لا يكون مبنى الإهراءات برج بيزا اللبناني الشاهد على جريمة العصر، والمجزرة التي تم ارتكابها في بيروت يوم 4 آب/ أغسطس؟ لأنّ هذا مسار الأمور في طمس الحقائق والجرائم في لبنان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...