شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
تفجير مرفأ بيروت... أن نجرؤ على كل شيء ونعجز أمام أم فقدت ابنها

تفجير مرفأ بيروت... أن نجرؤ على كل شيء ونعجز أمام أم فقدت ابنها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 4 أغسطس 202104:59 م

بقلمي وأسئلتي أتقدم من "أهالي ضحايا انفجار مرفأ بيروت"، للأسف، هكذا صار اسمهم. عبارة تحمل ما يكفي من الوجع والخسارة والقهر. شيء ما يرجعني إلى الوراء، شيء كعصف تفجير الرابع من آب.

هي لحظات الانفجار والفقدان والبحث عن غال ومن ثم نبأ الخسارة، تسيطر على ذاكرتي، تجعلني أعجز من أن أسأل أماً عن ابنها الذي خسرته، أخاً عن أخيه أو أخته، عن العدالة التي ينتظرها الجميع، عن معركة مع نظام تسلل بإجرامه إلى جدران بيوتهم وأسقطها عليهم، عن زجاج منازل فجأة صار عدو أصحابها، فطعنهم في ظهورهم وغيّر في ملامح وجوه بعضهم وأنهى حياة آخرين.

أقول لنفسي: "ربما عجزي هذا ليس فشلاً مهنياً وإنما نجاح إنساني".

أقول لنفسي أيضاً: "لا، بل إنه انفجار استهدفني ومن أحب، وأني، ككل من في المدينة، في صف الضحايا، ولست مجرد إعلامية تنقل الحدث".

لكن الحقيقة الأهم أن لا ألم أعظم من ألم من فارقوا أحباءهم دون وداع، ومن وجع شخص لم يجد حتى جثة ليعانقها.

قصص الضحايا بمواجهة وقاحة القاتل

لدى الاقتراب من هؤلاء الأهالي شيء ما يهزّ كياني. قليل من القهر مصحوب باللاعدالة لا يحتمل، فكيف بقهر بحجم تفجير مدينة فوق رؤوس ساكنيها حيث توقفت الحياة، فيما يعيش القاتل عيشاً رغيداً، فيخرج بوقاحة ليقمع ضحاياه، حيث يصبح الكلام عن العدالة ممنوعاً. يعطي أوامر بالاعتداء على الجرحى وأمهات القتلى؟

إلا أنّ شيئاً من العدالة سيبقى في الحكايات التي لم تعد بحاجة لمن يرويها. روايات باتت راسخة في أذهاننا وستظل تحمل ذات الألم، عسى أن تحمل معها مشانق القتلة في يوم ما.

قليل من القهر مصحوب باللاعدالة لا يحتمل، فكيف بقهر بحجم تفجير مدينة فوق رؤوس ساكنيها حيث توقفت الحياة، فيما يعيش القاتل عيشاً رغيداً، فيخرج بوقاحة ليقمع ضحاياه؟

أقف بين أهالي ضحايا وبين جرحى بعد حوالي سنة، حاولت خلالها الهرب، قدر المستطاع، من وجوه هؤلاء ومن قصص من قضى ومن غرس فيه التفجير جراحات عميقة. سنة أكدت أنه لن يمضي يوم على ذلك التفجير قبل أن تتحقق العدالة.

أدرك أننا عالقون نحن في 4 آب 2020، وأن حركة الأيام ومضيّها رهن بمعاقبة من شارك في الجريمة.

هي مهنتنا لكنه ثأرنا أيضاً

الصحافة مهنتنا صحيح، مع ما يحمله ذلك من فضح ما اقترفته سلطة مجرمة بمئات الآلاف دفعة واحدة. لكنه أيضاً ثأرنا، فكلنا أولياء الدم وأصحاب الثأر. كلنا ضحايا، نجونا من الموت لكننا أُصبنا في الصميم.

ومجدداً، ها هم الأهالي يعتصمون أمام بوابة المرفأ من حيث خرج اللهيب. لا يطلبون عودة بناتهم وأبنائهم إلى الحياة، لا يطلبون عودة الزمن أو شطب ذلك اليوم من التاريخ، لا يطلبون المستحيل. يطلبون أقل الممكن، حقهم في معرفة الحقيقة كاملة وبمعاقبة المجرمين. وها هو الإعلام يلاقيهم هناك، إلا أنا. أنزل بينهم فأعجز عن ملاقاتهم. كلما أردت محاورة أحدهم خجلت من هول ما حدث، خجلت أمام قصته/ها، أمام خسارته/ها.

في الساحة والدة "الياس خوري" تحمل صورته، أراقبها، أقرر الاقتراب منها، بينما تلبي دعوات الاعلام لمقابلتها. أتردد وابتعد، فيما تبحث هي عن العدالة لابنها. تريده ألا يموت بينما تموت هي قهراً. فقد صيّره الإجرام صورة بين يديها، دليلاً كيف يحمل الأطفال في بلادي رفات أصدقائهم، ويمضون لدفنها كمن يدفن مستقبله، فيما يحيا المجرمون عمراً مديداً.

هل فعلاً نجونا أو أن ما قُتل فينا شيء أكبر من الجسد والروح، شيء جعلنا فقدانه ننتظر المجزرة المقبلة؟

في تلك اللحظة، وأمام الإعلام، تخرج الأم الثكلى من اللحظة الأولى للفاجعة، لحظة تلقت نبأ قتل ابنها. تخرج لمناشدة العدالة، تعضّ على جراحها لتطلب حقاً لا يأخذ إلا بالقوة. أما أنا فتغرقني الصورة في وجه "الياس" وتأخذني للحظات موته، أتمنى أن تتحول ضحكته فيها لضحكة نصر بعد أن يبشّر القاتل بالقتل. أفكر أيضاً كيف ستعود والدته للحظة فقدانه الأولى، للعزاء المستمر الذي تقيمه له منذ سنة.

ما قُتل فينا أكبر من الجسد والروح

في الساحة أيضاً ضحايا آخرون، منهم من نجا من الموت ومنهم من لم ينج من فقدان عزيز.

يتجه الإعلام نحو طفلة صغيرة خلّف التفجير ندوباً في وجهها. يحاوطها الزملاء يسألونها يصورونها. أتساءل عمّا تريده هي فعلاً وأعجز أن أتوجه إليها بسؤال. فماذا يمكن أن تسأل طفلة أصرّ المجرم أن يضع وسماً على وجهها؟

مجدداً أنظر إلى الحاضرين/ات، إلى العشرات يطالبون بالعدالة في تفجير خلّف أكثر من 200 قتيل/ة وأسقط أكثر من 6000 جريح/ة وهجّر 300 ألف شخص من بيوتهم/نّ، فأسأل: أين أولياء الدم؟ أين أصحاب الثأر؟ جميع سكان المدينة ضحايا جريمة استهدفتهم بالمباشر.

مجدداً أسأل: هل فعلاً نجونا أو أن ما قُتل فينا شيء أكبر من الجسد والروح، شيء جعلنا فقدانه ننتظر المجزرة المقبلة؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard