علامة فارقة، بحبر أسود أو ملوّن، تخبرنا شيئاً عنك: ربمّا أنّك تحبّ/ين القهوة، أو والدتك، أو مدينة اسمها بيروت. الوشم هو أحد أساليب التّعبير عن النّفس، يعترض عليه الأهل، غالباً، كما يعترضون على كل ما يفرّقنا عن المجتمع شكلاً أو مضموناً.
الدراسات الأولى ربطت بين الوشم واضطرابات الشخصيّة التي يمكن أن تتحول مع الوقت إلى سلوكيات إجرامية. اليوم نضحك على تلك الادّعاءات، بينما تظهر دراسات عدة فوائد الوشوم وأثرها على تقدير الذات، ووجود رابطٍ وثيق بين الوشوم والشفاء من تجارب مؤلمة أو صادمة. ثمة دراسات بحثت في تأثير الوشوم على الخارجين من تجربة عنف منزلي، كطريقة فاعلة لاستعادة السيطرة على أجسادهم، كما بيّنت دراسات أخرى الأثر الكبير للوشوم على التعافي العاطفي للناجين من السرطان.
بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 آب/ أغسطس 2020، احتلت بيروت حيّزاً كبيراً في الخطاب العام وعلى منصّات التواصل الاجتماعي، ولكن ما كان لافتاً هو رؤيتها وهي تأخذ حيزاً على أجساد الناس، وتوشم بتصاميم مختلفة على أجسام الناجين والناجيات.
ازدواجيّة الألم والسّعادة
المقصود بتلك الازدواجية ليس المازوشيّة، بل ردّة الفعل الفيزيولوجية الناتجة عن الشعور بالألم. تتحدث كلوي أنطون، رسّامة وشوم لبنانية، عن مفهوم "Tattoo high"، وهو الشّعور بالسّعادة الذي يولّده الحصول على وشم جديد. التقيت كلوي في غرفتها، وهي أيضاً مكان عملها الحالي. تشرح أنه عندما نتعرض للإصابة، أو نتألم، تفرز أجسامنا الإندورفين، وهي مادة طبيعية تساعد في تخفيف الألم وتساهم في الشعور بالسعادة. "يمكن أن يشعرك الإندورفين الذي يفرزه جسمك أثناء الوشم بالرضا والبهجة" تقول، وتضيف: "الأمر شبيه أيضاً بفرحة شراء شيء جديد".
تكرّر السؤال عن وشوم "بيروت" خلال السنة الماضية، بحسب كلوي، حتى أصبحت تستبق أي شخص يبادرها بالسؤال عن وشم جديد وتتوقع ما يريده. فبعد انفجار المرفأ، راح اللبنانيون يبحثون عن آليّات للتعايش مع الواقع السوريالي الجديد، وإحدى هذه الآليّات كانت الوشوم باختلاف تصاميمها ومعانيها.
خطوة ناقصة في اتّجاه العلاج النفسي
يمكن اعتبار عمليّة الحصول على وشم، بما يتخلّلها من أحاديث وتشارك للتجارب، في ذاتها علاجيّة. "النّاس تثق برسّامي الوشوم بشكل غريب"، تقول جوانا أنطون، رسّامة وشوم محترفة تعمل في لبنان منذ أربع سنوات، وتضيف: "عندما يجلس الزبون مع الرسام، يخبره كل شيء لسبب ما، خصوصاً عندما يكون للوشم سبب أو قصّة شخصية".
بعد انفجار 4 آب/ أغسطس، شعرت جوانا أنّ عليها مسؤوليّة أن تكون قويّة لأن "فريق العمل كان في حالة صدمة". "حاولت أن أكون قويّة لكي يبقى الفريق قوياً. لم أستطع أن أشعر بالصدمة جراء ما حدث"، تروي.
أذكر جيداً عندما قال لي أحد الزبائن الّذين طلبوا الحصول على وشم بيروت: لأن ماتت أنا عملتها…
ربما يشبه كرسي الوشم في أستوديو جوانا ذاك الذي نراه في عيادة المعالج النفسي في الأفلام، لكن رسّامي الوشوم ليسوا أخصائين نفسيين يمكنهم الاستماع إلى قصص زبائنهم. ورغم أنه لا مفرّ من ذلك، إلّأ أن هذا "لا يخوّلهم إعطاء النصائح أو المساعدة بشكل فعّال"، توضح جوانا.
وتتابع: "كنتُ حزينة جداً لكنني لم أكن أظهر هذه المشاعر لأنني أعلم أن الذين يقصدونني أيضاً متعبون. عندما يأتون إلينا، يكونون ضعفاء جداً".
تروي جوانا أنه بعد الانفجار، أصبح إنجاز وشم صغير يتطلب ساعتين من الوقت، حتى يخبر الشخص قصته مع الانفجار، أين كان موجوداً حينذاك، ماذا فعل، ولماذا اختار هذا الوشم بالتحديد.
"أذكر جيداً عندما قال لي أحد الزبائن الّذين طلبوا الحصول على وشم بيروت: لأن ماتت أنا عملتها…"، تقول جوانا.
تؤكد كلوي أيضاً على الأمر وتقول: "الزّبائن كانوا يخبرونني قصصهم قبل البدء بالوشم أو بعد الانتهاء منه، وكنت أبدأ بالانهيار معهم".
عقدة الناجين
تثبت الوشوم، بطريقة أو أخرى، شرعية سرديتنا، كونها تعبيراً عن موقف تضامني علني. "مرّت فترة طويلة بعد الانفجار قبل أن يبدأ الناس بطلب الحصول على وشم لبيروت" تقول جوانا، وتضيف: "أولئك الّذين لحقهم أذى مباشر من الانفجار تأخّروا أكثر في الحصول على وشم، أمّا مَن كانوا بعيدين نسبياً، فلجأوا إلى وشم بيروت لأنّهم لم يتأثّروا صحياً أو نفسياً كغيرهم من النّاس داخل المدينة".
لا يعود الوشم يعني "بيروت" فقط، بل يصبح تصريحاً مفاده أنّ حامل هذا الوشم مرّ أيضاً بصدمة انفجار مرفأ بيروت، حتّى لو لم تكن خسائره تقارن بخسائر غيره.
يرتبط ذلك بحسب جوانا بعقدة الذنب التي تأتي مع النجاة من حدث مأساوي. انتشر الحديث عن عقدة الناجي Survivor's guilt بكثرة بعد تفجير آب/ أغسطس، واللجوء إلى الوشوم كان إحدى طرق التعامل مع هذا الشعور.
تعتقد كلوي أنّه "عندما يحصل شيء صادم، يريد البعض منا إبقاء شيء ما منه على أجسامهم". وهكذا لا يعود الوشم يعني "بيروت" فقط، بل يصبح تصريحاً مفاده أنّ حامل هذا الوشم مرّ أيضاً بصدمة انفجار مرفأ بيروت، حتّى لو لم تكن خسائره تقارن بخسائر غيره. "هو بطريقة غير واعية وغير مباشرة يدافع عن حقّه في اختبار الحزن والغضب واليأس وكل ما أتى به 4 آب من مشاعر سلبيّة"، تقول كلوي.
ذاكرة الوشم
"كان البعض يقول لي إنّه يريد شيئاً متعلّقاً بانفجار المرفأ، لكنه لا يريد أن يرى الانفجار على جلده، لذا اختار وشماً مرتبطاً ببيروت"، تقول كلوي. أما جوانا، فتعتبر أن ما حصل في بيروت كان الأكثر تأثيراً على اللبنانيين. "حتى مَن لا يريد وشماً مرتبطاً بالانفجار، كان يريد وشم 'بيروت' لأنّه سوف يغادر لبنان مثلاً ويريد أن يترك ذكرى البلد معه".
فمَن لم يدفعه الانهيار الاقتصادي وأزمة القطاع الصحي إلى المغادرة، كان انفجار مرفأ بيروت كفيلاً بإقناعه. "وشم بيروت منبّه يذكّره إمّا بسبب مغادرته، أو بما تركه وراءه. ما يتذكّره من المدينة يحدّد معنى الوشم بالنّسبة له"، تقول جوانا، وتضيف: "أكثر الأوقات يحصل الفرد على وشم بعد حدث ما يريد أن يضعه على جسمه، إمّا ليتذكّر هذا الحدث وتالياً يتذكّر أن يمضي ويتغلّب عليه، أو ليبقي هذه الذكرى معه دائماً".
استُبدلت كلمة بيروت أحياناً برموز تعيدنا إلى نفس شريط الذّاكرة، فبحسب جوانا، "لم تكن كلمة بيروت فقط ما يطلبه الزبائن، بل تاريخ الانفجار، أو صور أشخاص فقدوهم، أو تفاصيل مرتبطة بالانفجار".
مو مهنّى، مصمّم "Calligraffiti" يعتمد بشكل أساسي في تصاميمه على الخط العربي. يقول إن أحد أبرز أسباب الحصول على وشم هو "تخليد ذكرى شخص أو حدث ما". تؤكد كلوي على الأمر بالقول: "يلجأ الناس للوشوم كلّما مروا بحدث بارز أو فترة حسّاسة. مثلاً بعد أوّل حجر منزلي عندما اكتشفنا ما يعنيه كوفيد-19 وكنّا جميعاً خائفين، أراد الكثيرون الحصول على وشوم تذكّرهم بما مرّوا به خلال هذه الفترة".
تخبرنا الوشوم الكثير عن أصحابها، وعلاقتهم بالذّكريات وطريقة تعاملهم مع الأزمات. يرى مهنّى أن الوشوم تميّز أصحابها ويعتبر أنّ "أجمل ما في الوشم هو أنه يعبّر عن الكثير من النضوج، لأن على الشخص أن يتخذ قراراً بإبقاء شيء على جسمه لمدى حياته، والتّعايش معه. هذا النضوج ليس موجوداً إلّا عند أصحاب الوشوم، إذ لديهم القدرة على أن يكونوا أوفياء للوشم طوال حياتهم".
أنجزت هذه المادة ضمن مشروع "شباب22"، برنامج تدريبي لموقع رصيف22 يرعاه مشروع دي- جيل D-Jil، بالاعتماد على منحة من الاتحاد الأوروبي تشرف عليها CFI.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نايف السيف الصقيل -
منذ 4 ساعاتلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 4 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ 5 أيامحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أيامالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ أسبوعمع الأسف