يشهد قصر القبة، أحد أقدم قصور الحكم في مصر، حدثاً انقسم بشأنه المتابعون، فبينما تجاهد الدولة لاستيلاد موارد مالية جديدة في وقت وصلت الضرائب والرسوم حدوداً غير مسبوقة مع تزايد الاحتقان بسبب الغلاء وارتفاع تكاليف المعيشة، تفتق ذهن جهة ما عن تحويل القصور الرئاسية (الملكية سابقاً) إلى مصادر للتمويل.
بعد سنوات من مطالبات تلت ثورة 25 يناير 2011 بتحويل تلك القصور إلى متاحف مفتوحة، استجاب الرئيس عبدالفتاح السيسي فعلاً، وأصدرت رئاسة الجمهورية قراراً بعد أيام من توليه الحكم رسمياً عام 2014 بفتح القصور للجمهور.
لكن شهر رمضان الجاري شهد تحولاً في منهج استغلال القصور الرئاسية لتوليد الدخل للخزانة، إذ ظهرت صفحة على فيسبوك تحمل اسم قصر القبة الرئاسي، واعلنت مع نهاية الأسبوع الأول من رمضان عن إقامة خيمة في حديقة القصر التاريخي، تحمل اسم "ذا بالاس"، على أن تقدم وجبتي الإفطار والسحور خلال شهر رمضان، على أنغام التخت الشرقي والتنورة وعروض كوميديا حية (ستاند أب). وهذا ما أثار الجدل والانقسام بين مؤيدين للفكرة وآخرين أعلنوا تخوفهم من أن يؤثر هذا التوجه سلباً على القصور التاريخية والأثرية المهمة.
تاريخ القصور وقصور التاريخ
اهتم محمد علي (1769- 1849) ومن بعده أبناؤه وأحفاده بإنشاء القصور في القاهرة والأسكندرية. ومن عشرات القصور والسرايات التي اقاموها، احتلت قصور عابدين والمنتزه والقبة والطاهرة مكانة مميزة، كونها قصوراً بناها وسكنها الحكام، وينفرد بينها عابدين بكونه قصر الحكم الرسمي في العاصمة الشتوية (القاهرة) والمنتزه حيث العاصمة الصيفية في الأسكندرية.
استنكر كثيرون إقامة خيمة سهر رمضانية في قصر القبة وتحويل حديقته إلى مطعم، داعين إلى تحويله هو وغيره من القصور التاريخية إلى متاحف ومزارات سياحية تفتح أبوابها للأجانب والمصريين، بينما دافع آخرون عن الفكرة بحجة أن المطعم لا يمس المقتنيات
بحسب بيانات الموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية (المؤسسة التي تدير تلك القصور ومنها قصر القبة)، فقد بني قصر القبة في العام 1867، وأمر ببنائه الخديو إسماعيل – حفيد محمد علي- فوق أطلال منزل والده إبراهيم باشا. وكان أول احتفال يشهده القصر هو حفل زفاف الأمير محمد توفيق (الخديو توفيق) في العام 1873. وهو من أكبر القصور الملكية إذ تبلغ مساحته 190 فداناً تقريباً. ويقع على مقربة من بركة متفرعة من الخليج المصري، أحد أهم فروع نهر النيل التي جرى ردمها لاحقاً.
تواصل رصيف22 مع اللواء ماجد عبدالرازق مدير إدارة المتاحف الرئاسية ومتاحف عابدين برئاسة الجمهورية، للتعرف على الخطة التي تعدها الإدارة للاستفادة من القصور الرئاسية استثمارياً، وما هي الخدمات التي ينتظر أن يقدمها قصر القبة بعد انتهاء شهر رمضان، إلا أن شروطاً رسمية وأمنية متعلقة بالتصريحات أعاقت حصولنا على إجابة.
واستنكر كثيرون إقامة خيمة سهر رمضانية في قصر القبة وتحويل حديقة القصر إلى مطعم، داعين إلى تحويله هو وغيره من القصور التاريخية إلى متاحف ومزارات سياحية تفتح أبوابها للأجانب والمصريين، أو تحويلها لمنتجعات فندقية، بينما دافع آخرون عن الفكرة بحجة أن المطعم موجود في حديقة القصر، دون أي مساس بالقصر أو بمحتوياته التاريخية.
وأعلنت الرئاسة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 عن تجديد قصر القبة، وشمل التجديد الحدائق الداخلية التي تضم العديد من النباتات النادرة، وتجهيز المنطقة الداخلية للنافورة التاريخية، وإنشاء مسارح ومطعم للزوار، وملاعب رياضية، وتجهيز حديقة الورود، قبل افتتاح القصر على أساس تجريبي للجمهور بعد الاستعداد لاستقبال السائحين.
سياحة القصور حول العالم
تعتبر سياحة القصور في عداد أهم أنواع السياحة الغالية الثمن، وتعد فرنسا واحدة من أبرز وجهات سياحة القصور، لما تمتلكه من قصور تنتمي للعهد الملكي، وأشهرها قصر فيرساي، الذي يزوره سنوياً عشرة ملايين سائح. ويعدّ قصر نويشفانشتاين في جنوب ألمانيا أحد أكثر القصور شعبية في العالم، ويستقبل نحو مليون ونصف المليون سائح سنوياً، بينما يزور قلعة برج لندن نحو مليونين و890 ألفاً سنوياً.
وتضم إسبانيا قصر الحمراء الأثري الذي يعود تاريخه إلى مملكة الحكم العربي لشبه جزيرة أيبريا (الأندلس)، ويعود تاريخ إنشائه إلى القرن الثالث الهجري/ العاشر الميلادي. يزوره نحو مليونين و300 ألف سائح سنوياً، في حين يزور قصر شونبرون في العاصمة النمساوية فيينا نحو مليونين و800 ألف سنوياً.
أستاذ في الآثار: القصور التابعة لرئاسة الجمهورية "هي الأسعد حظاً"، بينما القصور التي تتبع وزارتي الآثار والثقافة تخضع لمحاولات غير ممنهجة من حين لآخر لإحيائها وترميمها
وفتحت بكين أبواب المدينة المحرمة حيث القصر الأمبراطوري بعد انتصار الثورة الشعبية وإنهاء مئات السنوات من حكم سلالة مينغ. ويزور المدينة المحرمة نحو 15 مليوناً و340 ألف سائح سنوياً، وتعرف مدينة أوكيناوا في اليابان بقصر شوري التاريخي الذي يزوره نحو مليون و750 ألف سائح سنوياً، وفي اسطنبول قصر باب العالي، ويزوره نحو ثلاثة ملايين و335 ألفاً سنوياً، ويزور قصر الشتاء في سانت بطرسبرغ في روسيا نحو ثلاثة ملايين. بحسب بيانات نشرتها شبكة CNN الأمريكية.
عقبات الترميم
من القصور الرئاسية الستة الرسمية، تضم مصر عدداً من القصور ذات القيمة التراثية والأثرية والتاريخية المهمة، منها قصر المانسترلي وقصور البارون والأبلق والأمير طاز والأمير بشتاك وألكسان باشا وعدة قصور للأمير يوسف كمال، وصاروفيم باشا والأميرة عزيزة فهمي والسلاملك وسراي الحقانية والأميرة شويكار وشامبليون. ويبلغ إجمالي عدد القصور الأثرية 45، منها 10 تحتاج إلى تطوير وترميم بتكلفة تراوح بين 30 و150 مليون جنيه لكل قصر، بحسب تصريحات سابقة لوزير السياحة والآثار الدكتور خالد العناني.
ويوضح لرصيف22 السعيد حلمي، رئيس الإدارة المركزية لمنطقة آثار القاهرة والجيزة، رئيس قطاع الآثار الإسلامية والقبطية السابق بوزارة الآثار، أن وزارة الآثار معنية بالقصور الأثرية المسجلة لديها فحسب، أما القصور المصنفة مباني ذات طبيعة تراثية، والقصور الرئاسية، فهي مسجلة على قائمة التراث وتتبع جهات أخرى، مشيراً إلى أن لدى مصر قصوراً أثرية منذ نشأة التاريخ مثل قصر قارون في الفيوم. وهناك قصور مهمة من العصر الفاطمي ثم الأيوبي كالحرملك والسلاملك والأبلق، وحصل إزدهار القصور وعمارتها في العصر المملوكي، وأهمها قصر الأمير طاز.
ويؤكد السعيد أن هناك عقبتين تواجهان ترميم القصور التاريخية لتصبح مزارات سياحية، إذ إن معظمها يقع داخل مناطق سكنية، وتكلفة الترميم باهظة والعملية نفسها تستغرق عدة سنوات، مشيراً إلى أن الدولة انتهت من ترميم عدة قصور مثل: البارون إمبان، قصر عابدين، قصر السكاكيني والأمير محمد علي، وهي مفتوحة حالياً لاستقبال الزوار. ولفت إلى أن القصور التي تقع تحت إشراف رئاسة الجمهورية مثل عابدين والقبة والمنتزة تتمتع بعناية فائقة، مشدداً على أن الدولة تخطط لترميم المزيد من القصور الأثرية ضمن مشروع القاهرة التاريخية الذي يتبناه الرئيس السيسي.
وتقوم وزارة السياحة والآثار التي يشرف السعيد على إحدى إداراتها بإتاحة قاعات في القصور الأثرية وأبرزها قصرا الأمير محمد علي بالمنيل والبارون إمبان بمصر الجديدة للتأجير، وإقامة حفلات الزفاف والعشاء والموسيقى للأفراد والشركات.
ويرجع السعيد إقامة خيمة رمضانية داخل قصر القبة الرئاسي إلى محاولة تنشيط السياحة المحلية واستقطاب السياح العرب، في الوقت الذي تراجعت فيه السياحة الدولية بسبب الحرب الأوكرانية الروسية، نافياً أن يكون ذلك إخلالاً بقيمة الأثر لأنه لا يتم المساس بالحوائط الأثرية أو إهانة الأثر بإدخال الشيشة والمشروبات الروحية، لافتاً إلى أنها محاولة لتعريف الناس بالمكان وأهميته، وإلى وجود دراسات لتحويل عدد من القصور التاريخية إلى فنادق على غرار الماريوت والميناهاوس.
زفاف وديفيليه في القصر
يؤكد الدكتور حمدي أحمد السروجي، أستاذ الآثار بكلية الآداب بجامعة طنطا، أن مصر تمتلك عدداً كبيراً من القصور التاريخية ينتمي أغلبها لعهد محمد علي باشا، ويبلغ عددها منذ عهد الفراعنة حتى الآن نحو 1200، منها نحو 400 قصر ملكي. يقول: "لم يقتصر بناء القصور الفخمة على الملوك والأمراء فقط، بل كان لبعض رجال الدولة قصور تضارع في جمال عمارتها وعظمة مبانيها قصور الملوك والأمراء"، مثل قصر إسماعيل باشا المفتش (يستخدم حالياً كأحد مخازن المهمات لوزارة التربية والتعليم). وفي الصعيد نحو 300 قصر تاريخي، "وللأسف أغلب هذه القصور في حال يرثى لها، مما يُصعِب الاعتماد عليها في مجال السياحة، فبعضها يتبع وزارة الآثار، وبعضها الآخر يتبع وزارة الثقافة، وبعضها تحول إلى مبان تابعة لرئاسة الجمهورية أو الوزارات. وثمة قصور آلت ملكيتها بالوراثة إلى أشخاص يطمعون في هدمها وبناء أبراج سكنية، وأحياناً يقومون بإغراقها بالمياه حتى تتفكك أساساتها ثم يضرمون فيها النيران"، وفق قول السروجي.
ويرى السروجي أن القصور التابعة لرئاسة الجمهورية "هي الأسعد حظاً"، بينما القصور التي تتبع وزارتي الآثار والثقافة تخضع لمحاولات غير ممنهجة من حين لآخر لإحيائها وترميمها، إلا أن المبالغ التي تستهلكها ضخمة، مثل قصر إسماعيل باشا المفتش، الذي رُصد لترميمه نحو 200 مليون جنيه، وقصر البارون إمبان الذي بلغت تكلفة ترميمه نحو 175 مليون جنيه، وفُتح أمام الجمهور، كما جرى تحويل بعض القصور إلى متاحف، مثل قصر الأميرة فاطمة الزهراء الذي سُمي متحف المجوهرات الملكية.
ويدعو السروجي للحفاظ على "هذه الثروة المهدورة" وتحويلها إلى مصدر للدخل القومي، عبر الحصر الشامل لكل القصور التاريخية، مع وضع خطة دورية لترميمها. مشيراً إلى إمكانية استخدام بعض الحدائق الخاصة بهذه القصور لإقامة احتفالات للمصريين أو الأجانب، شريطة ألاّ يضم مكان الحفل نباتات أو أشجاراً نادرة، وأن يُخصص للدخول والخروج باب يبعد عن الأجزاء الحيوية للقصر. ولفت إلى أن استخدام حديقة قصر الأمير محمد على بالمنيل يمكن أن يدرّ نحو 400 مليون جنيه سنوياً.
ويُرحب أستاذ الآثار على مضض بإقامة خيمة رمضانية في قصر القبة، شريطة أن تكون مقامة في حديقة القصر بعيداً عن النباتات النادرة التي يعود عمر بعضها إلى عهد الخديو إسماعيل، مؤسس القصر. ويتابع: "يجب أخذ التدابير لحمايتها (النباتات النادرة) من الرواد الجُدد، والأفضل توفير حديقة قصر بديل لقصر القبة لا يتمتع بنفس القيمة التاريخية والسياسية".
تقليل من قيمة الأثر
أما الخبير السياحي أسامة كرار فيرفض إقامة خيمة رمضانية بـ"القبة" ويصفه بأنه "قرار فقير"، واعتبر التحرك "تقليلاً من القيمة التاريخية والأثرية للقصر التاريخي"، مرجعاً ذلك إلى الأسباب الاقتصادية، وداعياً الدولة لاستغلال المكان للاستثمار السياحي بدلاً من ذلك، بالإضافة إلى توعية الناس من قبل وزارة الآثار بالأهمية التاريخية لمثل هذه القصور، وتوجيه الدولة للاهتمام بها ووضعها على خرائط السياحة العالمية في البورصات السياحية.
ويضيف أن هناك اهتماماً بالآثار المصرية القديمة أكثر من الآثار الإسلامية التي تنتمي لها غالبية تلك القصور من حيث الترميم والدعاية، برغم وفرة القصور والبيوت التاريخية الإسلامية ذات التاريخ المهم والمعمار الفريد. ويختم: "كل دولة في العالم تتمنى أن يكون لديها قصر تاريخي حتى تنهض به للجذب السياحي. وبرغم أن لدينا تلك الثروة، فهي مهدورة بسبب التكلفة الكبيرة للتطوير بينما وزارة الآثار لا تملك المال لتطوير أي شيء وتعتمد على الدولة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...