في بيوت بسيطة وطرق ضيقة وشوارع يكسوها التراب، لا يجدون من المتعة سوى القليل، ولا يعرفون من الدنيا إلا ما هو متاح عبر شاشة التلفزيون أو في صفحات كتاب مدرسي. لذلك كان الوصول إليهم واجباً فرضته دِميانة مكرم الصعيدية ابنة محافظة المنيا على نفسها قبل نحو ثلاثة أعوام. فجابت القرى والنجوع المحيطة بها لتفتح للصغار نافذة يطلون منها على الثقافة والفنون.
دِميانة التي تبلغ من العمر 37 عاماً بدأت قصتها مع أطفال القرى الصعيدية عام 2019 عندما قررت أن تحمل قصصاً ولوحات وألواناً وصلصالاً ودفاتر رسم، اشترتها بجزء من مدخراتها، إلى إحدى القرى القريبة منها كي تهب أطفالها ساعات من المتعة في يوم كان عادياً، إلا أنه أصبح علامة فارقة بعد زياراتها.
قضت دِميانة في "مجراية" نحو ثلاثة أعوام تعلمت فيها تدريس الأطفال المسرح والموسيقى والرسم وإعادة التدوير. كانت تعد نفسها دون أن تدري لمهمة إنسانية خاصة جداً
الأمومة كانت السبب
أنهت دِميانة دراستها للسياحة والفندقة قبل أكثر من عشر سنوات، وعملت بعد تخرجها في مجال السياحة بمدينة الأقصر. وسرعان ما تزوجت وأنجبت طفلاً جميلاً اسمه باتريك، يبلغ من العمر الآن عشر سنوات. قررت دِميانة أن تتفرغ لرعايته وتبدأ معه أولى خطواته في طريق المعرفة. كانت تبحث عن وسائل تعليمية غير تقليدية، وهذا ما دفعها للقراءة في أساليب التعليم وتنمية المهارات. ولظروف خاصة لم ترغب في الحديث عنها في لقائها مع رصيف22، تركت الأقصر وعادت إلى مسقط رأسها في "ملوي" بمحافظة المنيا، وكان عليها البحث عن فرصة عمل. لكن هذه المرة لم تكن السياحة مقصدها. فقد وجدت شغفها في مجال التربية وتنمية المهارات بعد تجربتها مع طفلها الوحيد، وهي التجربة التي أرادت أن تنقلها بكل تفاصيلها إلى غيرها من الأمهات.
فازت دِميانة بفرصة عمل بمؤسسة "مجراية" للثقافة والفنون بالمنيا، ومن خلالها طورت مهارات التواصل مع الأطفال، واكتسبت خبرات عديدة وتواصلت بشكل فعلي مع أمهات وأطفال كُثر من خلال المعسكرات التي كانت تقيمها المؤسسة.
التقت دِميانة بأطفال القرى من دون حواجز، لتكتشف أن لديها مهارات الحكي التفاعلي، وهي مهارة لم تكن تعرف أنها تمتلكها وتتقنها إلى حد أبهر الجميع. فقد تميزت بتقليد أصوات الحيوانات، وتقمص أدوار الأبطال، والتفاعل بملامحها وجسدها مع الأحداث التي تحكيها، وهي المهارات التي ألغت كل الجواجز بينها وبين الأطفال، وشجعتهم على التفاعل معها والتعبير بحرية من دون خجل. تقول دِميانة: "وهو أمر لو تعلمون عظيم في تلك البيئات المنغلقة".
قضت دِميانة في "مجراية" نحو ثلاثة أعوام تعلمت خلالها تدريس الأطفال المسرح والموسيقى والرسم وإعادة التدوير. فقد كانت تعد نفسها دون أن تدري لمهمة إنسانية خاصة جداً.
"بوكت مامي"
لأنها مرت بالتجربة نفسها من دون معين، كانت دِميانة تفكر دوماً في معاناة الأمهات الحديثات العهد بالأمومة. وتتذكر كيف كانت تقضي ساعات طويلة في البحث والقراءة بغية الوصول إلى معلومة واحدة تساعدها في اكتشاف الطريقة المناسبة لتربية ابنها باتريك. لذلك حلمت بتأسيس تطبيق خاص اسمته "بوكت مامي". قررت أن توفر عبره المعلومات التي تحتاجها الأم في تربية ابنائها من عمر يوم إلى عمر عشر سنوات. تطبيق واحد يجمع كل ما يتعلق بالتربية بشكل مختصر ومفيد.
تقول دِميانة: "كل ما يتعلق بالتربية وتنمية المهارات، بات متاحاً طوال الوقت على الشبكة العنكبوتية. لكن أغلبها مقالات ودراسات أو فيديوهات طويلة ومتشعبة، يحتاج الاطلاع عليها والاستفادة منها إلى وقت ومهارات خاصة قد لا تمتلكها كل أم. لذلك فكرت في "بوكت مامي"، وهو تطبيق يقدم كل المعلومات التي تحتاجها الأم في رحلة تربية أطفالها وقتما تشاء، وبشكل مختصر".
ألغت مهاراتها - التي اكتشفتها حديثاً- كل الجواجز بينها وبين الأطفال، وشجعتهم على التفاعل معها والتعبير بحرية من دون خجل. تقول دِميانة: "وهو أمر لو تعلمون عظيم في تلك البيئات المنغلقة"
قدمت دِميانة فكرتها في مسابقة أقامها مركز تكنولوجيا المعلومات والابداع "تيك"، التابع لمحافظة أسيوط تحت عنوان "هي رائدة"، وفازت بالمركز الثالث. وبدأت خطوات فعلية لتحويل حلمها إلى واقع. لكن جاءت جائحة كورونا وأوقفت المشروع، وأُصيبت دِميانة بالاحباط. لكن سرعان ما عاودت النشاط بقرار واضح. تقول: "قررت أن أقدم ما أملك من معلومات من خلال ما هو متاح من وسائل. فإن كان مشروع التطبيق توقف فوسائل التواصل الاجتماعي متاحة طوال الوقت".
وعليه، قررت دِميانة ان تشارك في تجمعات الأمهات المختلفة، وتقدم ما في جعبتها من معلومات في فيديوهات مصورة، أو في بث مباشر. ولاقت التجربة إقبالاً كبيراً دفع بها للتفكير في الإجابة عن سؤال مهم: "سألت نفسي: ماذا عن نساء القرى البعيدة اللواتي لا يملكن حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي؟ وماذا عن أطفالهن؟ فنساء المدن لديهن مجالات واسعه للتعلم من خلال الورش أو الدورات أو حتى الإنترنت، وكذلك أطفالهن يمتلكون الألعاب وحولهم أماكن الترفيه. طب وطفل القرية وأمه؟".
من هذا المنطلق جاء قرار دِميانة الذي فتح لها عالماً مختلفاً وجدت فيه شغفها، وأدركت أن كل ما مرت به في السابق كان تمهيداً لتلك الرسالة التي اختارها لها الله. فجابت القرى المحيطة بها وهي تحمل ما استطاعت شراءه بأموالها القليلة من مواد وأدوات مكنتها من إقامة ورش فنية لأطفال تلك القرى. ورش منوعة بين الحكي والتلوين وإعادة التدوير. علّمتهم كيف يصنعون ألعابهم بأيديهم من أدوات بسيطة لتهبهم السعادة والمتعة.
لم تهتم دِميانة بالأطفال فقط. لكن كان هناك نصيب وافر من ورشها للأمهات. حاولت أن تقدم لهن بطريقة مبسطة أهم طرق التربية السليمة. وعلمتهن طرقاً عديدة لاكتشاف مواهب أبنائهن وتنمية مهاراتهم وتقويم سلوكهم ودفعهم للاختلاط في المجتمع من دون خجل.
تقول دِميانة: "أرتب زيارتي للقرى من خلال التواصل المباشر مع مجلس المدينة أو مع أبناء تلك القرى. هدفي ليس تقديم المتعة أو الترفيه فقط، إنما أسعى دائماً لتعليم الأطفال والأمهات مهارات وفضائل أخلاقية من خلال الفن. وبأدوات ورسومات وأسلوب شرح بسيط ".
من أين لَكِ هذا؟
الجهود التي تبذلها دِميانة تدفع بالكثيرين لسؤالها عن مواردها المالية. وهو السؤال التي تضحك كثيراً حين تسمعه. فالكل يتخيل أنها مدعومة من مؤسسات ثقافية كبرى لكبر جهودها. لكن الحقيقة أنها تقدم ورشها بمجهود فردي وترفض أن تتلقى أي دعم مادي من أي جهة أو شخص. تقول: "كنت أدخر مبلغاً كل فترة وأخصصه لزيارات القرى. أبتاع الأدوات من مكاتب الجملة، وأشتري أعداد القصص القديمة بسعر متدنٍ. لكن بعد تكرار الزيارات شعرت أنني لن أستطيع ان أدبر الأدوات. فقررت أن أدعو أصدقائي للمشاركة في التكلفة عبر حسابي على فيسبوك. أطلب ما احتاجة من أدوات وأصر على أن يشتريها صاحبها. فأنا لا أقبل نقوداً من أحد".
جهود الأم والناشطة الثقافية الشابة لفتت انتباه الكثيرين، فبدأت تتلقى طلبات بالمشاركة في نشاطها من خلال من يريدون التطوع للمساعدة. تقول: "عندما لمست جمال التجربة قررت ألا أبخل على الآخرين بالمشاركة، ودعوت البعض لمشاركتي في تقديم الورش، كل شخص حسب مجاله ومهاراته. وعندما أدركت أهمية الموضوع وأثره الكبير على أطفال القرى، فكرت في تكوين فرق من المتطوعين. لكن الكورونا اشتدت فتوقفت، لكنني أنوي استعادة نشاطي قريباً. فأنا أحلم بزيارة كل قري الصعيد من المنيا حتى أسوان".
قوافل الفرحة
إذا اختارت دِميانة بنت المنيا أن تعلم أطفال قرى الصعيد وتنمي مهاراتهم. فقد اختارت رنا بنت دمياط أن تهب أطفال الشوارع والقرى الفقيرة الفرحة.
رنا صلاح سمك، 35 سنة، متزوجة وأم. وهي محامية وفنانة تشكيلية، وقعت في غرام الرسم منذ طفولتها، فقررت، منفردةً، أن تؤسس مشروعها الخاص "بيت رنا للفنون" الذي أطلقت من خلاله مبادرات مجتمعية، هدفها تقويم سلوك الأطفال وعلاجهم بالفن وخاصة أطفال الشوارع. وزارت من خلالها قرى في محافظات الدقهلية ودمياط وكفر الشيخ. تقول لرصيف22: "أنا باحب أفرح الأطفال، وخاصة اللي ليهم ظروف خاصة، سواء أطفال شوارع أو أيتام أو ذوي همم. بدعمهم بالرسم والفن وبفرحهم. وأختار دايماً الأماكن اللى مافيهاش اهتمام بالفنون. بسافر لها بعربيتي وباعلن قبلها على صفحتى الخاصة لو حد حابب يشارك".
كثيراً ما تصطحب رنا طفلها في رحلاتها وترافقها أحياناً صديقاتها المحبات للفن مع أطفالهن، فيشترك الجميع في الرسم على وجوه الأطفال واللعب معهم وحكاية القصص لهم. تقول سمك: "بنحاول ندخل الفرحة على قلوبهم بأبسط الطرق الممكنة". وتختم: "كتير لما ظروفي المادية بتسمح، باخد معايا ألعاب وألوان وقصص. كلها حاجات بتبقى بسيطة بس فرحتهم بيها أد الدنيا. نفسي ألف قرى مصر كلها وأفرح كل أطفالها".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 4 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...