مع إشراق "عصر العقل" في القرن السابع عشر، جاءت فكرة المصحات العقلية لتقوم بدور السجن الذي يحبس فيه (فاقدي العقل) ليعزلوا عن المجتمع. واتخذت أوروبا من فكرة الاعتقال تحت مسميات متعددة وسيلة لتقسين المجتمع وعزل الأفراد الذين ترى السلطات والمجتمع أنهم لا يضيفون إلى النهضة، بل ينتقصون منها.
هذا ملخص سريع لخلاصة كتاب تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي للفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، وهو واحد من الكتب التي شكلت مشروعه الفكري حول علاقة السلطات الحاكمة بأجساد الأفراد، ويناقش فيه كيف أصبحت أجساد الأفراد وعقولهم موضوعاً لممارسة السلطات الحاكمة لسيطرتها.
نظرية فوكو عادة ما تجد طريقها إلى أدب الجريمة وأفلام الرعب والواقع المصري، ففي هذه المواضع الثلاث، تكرر أن تستقبل مستشفيات الصحة النفسية والعقلية من حين لآخر "نزلاءً" يتمتعون بكامل قواهم العقلية، بشهادات كل من يعرفهم وبشهادة أبحاثهم ومنشوراتهم ذات الطبيعة الأكاديمية، بعد أن جرؤوا على كتابة أو إعلان معلومات أو آراء تراها بعض الجهات "مهددة ومزعجة". وفي مصر اشتهر مستشفييّ العباسية والخامكة، كموضعين لممارسة السلطة لسيطرتها على أجساد وعقول باحثين ومفكرين وفنانين جرؤوا على الخروج عن الخط المرسوم، وكان إيداعهم في تلك المستشفيات مقدمة للتنكيل بهم إلى درجة وصلت حد الموت، كما في حالة الباحث الاقتصادي أيمن هدهود الذي حل على مستشفى العباسية الشهير الواقع شرق القاهرة في زيارة قصيرة لم تتجاوز أسابيع، قبل أن يقضي نحبه فيها، ويظل جثمانه في ثلاجتها شهراً قبل أن تتمكن أسرته من إنقاذه من مصير، ربما أصاب معارضين غيره من قبل، وهو الدفن في مقابر مجهولي الهوية (الصدقة).
ويجدر التنويه إلى أنه على عكس نماذج أخرى نستعرضها في هذا التقرير، لم يكن الباحث الاقتصادي الراحل أيمن هدهود محسوباً على المعارضة، كما لم يكن ناقداً حاداً للسياسات الاقتصادية التي تتبعها السلطات المصرية، بل كان عضواً في حزب "الإصلاح والتنمية" المحسوب على الكتلة "المؤيدة"، كما أن كتاباته الاقتصادية عنت بالشرح والتفسير لا المدح أو القدح في السياسات المالية والاقتصادية المتبعة.
نظرية فوكو تجد طريقها عادة إلى أدب الجريمة وأفلام الرعب والواقع المصري، ففي هذه المواضع الثلاث، تكرر أن تستقبل مستشفيات الصحة النفسية من حين لآخر "نزلاءً" يتمتعون بكامل قواهم العقلية، بعد أن جرؤوا على إعلان ما تراه بعض الجهات "مهدداً ومزعجاً"
تطور غير مسبوق شهده الملف الحقوقي المصري في الأيام الماضية عقب إعلان أسرة هدهود، إبلاغها من قبل أجهزة الأمن بوفاته داخل مسشفى الأمراض العقلية بعد شهرين من اختفائه. وقالت أجهزة الأمن والنيابة العامة إن قرار احتجازه في المستشفى أتى بعد اتهامه بالشروع في سرقة أحد العقارات وهو يهذي بكلمات غير مفهومة و"فاقد الوعي بالزمان والمكان" اعتبرت النيابة العامة أن "الحالة العقلية" لهدهود هي السبب في وفاته، رغم تأكيدات شقيقه أن الباحث الراحل كان مصاباً بكدمات وبدت على جثته كسور في الجمجمة. وتسبب رفض العائلة دفن فقيدها في مقابر الصدقة الخاصة بمجهولي الهوية في تشريح جثمانه.
هدهود يبلغ من العمر 42 سنة، تخرج في كلية إدارة الأعمال بالجامعة الأمريكية، ثم حصل على ماجستير إدارة الأعمال من نفس الجامعة، وعمل ببرنامج الأمم المتحدة الإنمائي لمساعدة الشركات الصغيرة والمتوسطة في محاربة الفساد والرشوة، وحتى وفاته كان يعمل مراقبًا ماليًا في الجامعة الأمريكية. كما شارك في تأسيس حزب الإصلاح والتنمية برئاسة البرلماني السابق وعضو المجلس القومي لمجلس حقوق الإنسان محمد أنور السادات.
وفي وقت تشك الأسرة في وجود شبهة جنائية حول وفاة ابنها، بسبب ما شاهدته من آثار لكدمات على وجهه بعد استلام جثمانة، تقول النيابة العامة إن الباحث المصري توفي في 5 مارس/ آذار الماضي إثر إصابته بهبوط في الدورة الدموية خلال احتجازه بمستشفى الأمراض العقلية، لمعاناته من عدم اتزان واضطراب بدرجة الوعي.
النهاية المثيرة للجدل لقصة هدهود أعادت الحديث عن الاستغلال السياسي للطب النفسي، وهنا رصد لوقائع مشابهة من التنكيل بمعارضين وتحويل مستشفيات الصحة النفسية إلى أماكن احتجاز بديلة ألقي فيها بالأكاديميين والمفكرين والنشطاء والصحافيين الذين رأت الدولة في آرائهم وكتاباتهم سبباً للإزعاج.
إسماعيل المهدوي: 17 عاماً من الغياب
أشهر هذه النماذج المثقف والصحافي الشيوعي إسماعيل المهدوي، وهو أحد أولئك الذي نكل بهم نظام جمال عبد الناصر، وأودعه بمستشفى الأمراض العقلية عقاباً على مطالبته بتنحي ناصر عقب هزيمة 1967، ففي خضم مواجهات النظام الناصري وقادة الحركة الشيوعية في مصر، بسبب اعتراضهم على سياسات نظام الحكم فيما يتعلق بالأداء السياسي والاقتصادي، واجه العديد من أبناء الحركة الشيوعية صنوفاً مختلفة من التنكيل والإقصاء، من بينهم المجموعة التي أسس أفرادها الحزب الشيوعي المصري عام 1958.
وعقاباً لهم على تأسيس الحزب، سارع النظام في يناير/ كانون الثاني عام 1959 باعتقال عشرة آلاف شيوعي تحت اسم "قضية الشيوعية الكبرى"، كان من بينهم إسماعيل المهدوي وزوجته زينات الصباغ"، وفقاً لرواية المهدوي الابن في كتاب حكايات الجوارح والمجاريح.
خلال هذه الفترة، نجح نظام الحكم في تفكيك الحزب الشيوعي المصري، وأجبر أعضاءه على حله عام 1965، واستدرجهم للانضمام إلى الاتحاد الاشتراكي، ومنح الكثير منهم امتيازات بالتعيين في أجهزة الدولة الصحافية والإعلامية والثقافية، مقابل ترويجهم للمشروع الناصري في أوساط النخبة المصرية.
وفي وقت تشك الأسرة في وجود شبهة جنائية حول وفاة هدهود، بسبب ما شاهده شقيقه من آثار لكدمات وكسور في رأسه بعد استلام جثمانة، تقول النيابة العامة إن الباحث المصري توفي خلال احتجازه بمستشفى الأمراض العقلية، لمعاناته من عدم اتزان واضطراب بدرجة الوعي
انخرط الكثير من مؤيدي حل الحزب، ومن بينهم إسماعيل المهدوي، في العمل الصحافي، وأسندت لهم مهام تمجيد المشروع الاشتراكي. وفي هذه الأثناء، عمل المهدوي مراسلاً حربياً ينقل أخبار الجبهة، حتى غيرت هزيمة 1967 هذا المسار، بعدما أصيب بصدمة عنيفة وصب جام غضبه على السلطة بعد شعوره بالمشاركة في المسؤولية عن تضليل الناس، وبدأ في توجيه الاتهامات لكبار قادة الدولة علناً بتعمد إضاعة الوطن، ودعا إلى تنحي رئيس الجمهورية وكبار قادة الدولة عن مواقعهم، وإلى عودة الجيش لثكناته العسكرية وترك العمل السياسي للمدنيين.
غادر إسماعيل المهدوي القاهرة عقب النكسة قاصداً فرنسا حيث حصل على درجة الدكتوراه من جامعة "السوربون"، بعد موافقة من جريدة الجمهورية التي كان يعمل بها. ولم يتوقف هناك عن دعوة الشيوعيين لإجراء نقد ذاتي النظام. تلقّى المهدوي استدعاءَ من الصحيفة، وإذا لم يحضر يُفصل من العمل، وإذ عاد، اعتُقِل في التو، وعلم لاحقاً بقرار فصله تعسفياً من قبل إدارة جريدته.
واجه المهدوي بعد عودته اتهامات بكتابة مقالات ضد نظام الحكم، وأودع بقرار من النياية مستشفى الأمراض العقلية بدعوى أنه يتفوه بعبارات غير مفهومة من دون أن يحظى بمحاكمة كالتي يحصل عليها المذنبون. فكان وضعه أشبه بالاعتقال في إحدى زنازين الحبس الانفرادي، ولكن داخل مستشفى الصحة النفسية والعصبية التي كانت تعرف باسم مستشفى الأمراض العقلية، بحسب ما أورده نجله طارق في كتاب حكايات الجوارح والمجاريح.
مكث إسماعيل المهدوي في المستشفى قرابة 17 عاماً، إذ خرج عام 1987، بعد أن تجاوز الستين من عمره، وذلك إثر مبادرة من ابنه طارق المهدوي الذي عمل فترات من حياته كدبلوماسي بعدة سفارات مصرية في الخارج وناشر صحافي.
اللافت أن قضية إسماعيل المهدوي حفظت دون أن يتم تحقيق معه داخل مستشفى الأمراض العقلية، فبعث برسالة إلى النائب العام عقب خروجه يتساءل قائلاً: "كيف يحفظ النائب العام تحقيقاً بدون أن يحدث أصلاً؟"، مستشهداً بمحضر إيداعه بـ"مستشفى المجانين" الذي ادعت فيه نيابة أمن الدولة العليا أنها لم تستطع إجراء تحقيق معه بسبب عجزه عن التعبير.
كتب المهدوي الأب بعد خروجه مقالات نقدية في الجماعات الدينية التي صعد نجمها في ثمانينيات القرن الماضي، على غير رغبته، إذ كان يريد استكمال مهمته الفلسفية في نقد الأنظمة الاشتراكية، لكنها كانت الصفقة التي خرج بموجبها من السجن، فما كانوا ليخرجوه من العباسية إلا لخدمة أهدافهم بخوض معركة فكرية نيابة عنهم ضد أفكار التيار الديني المتنامي بشكل يزعجهم ويهدد مصالحهم.
نظرة فإعجاب فـ"مستشفى المجانين"
قصة أخرى دالة على استخدام مستشفى الأمراض العقلية كسلاح للتخلص ممن يزعجون السلطة أو رجالاتها، حتى لو كان الأمر متعلقاً بالرغبة الجنسية، إذ استخدم عبد المنعم أبو زيد سكرتير المشير عبد الحكيم عامر نفوذه من أجل الفوز بالممثلة المصرية سهير فخري، التي أرغمها على الطلاق من زوجها السيناريست محمد كامل حسن.
ورغم رفض سهير فخري ملاحقات سكرتير المشير، طلب الأخير من الروائي أن يطلق زوجته رغماً عنه وعنها، فلما رفض، ألقت قوات الأمن القبض على السيناريست عام 1965 بحجة أنه خطر على المجتمع لـ"عدم سلامة قواه العقلية"، وأودعته إحدى المصحات النفسية لمدة أربع سنوات.
بعد تخلصه من زوجها بهذه الطريقة، أجبر سكريتر المشير سهير فخري على رفع دعوى قضائية لطلب الطلاق، بدعوى التضرر من غياب زوجها، ليتزوج هو منها بعد الهزيمة عام 1967 وانتهاء نفوذ المشير ورجاله، خرج السيناريست محمد كامل حسن من معتقله في المستشفى، ولكن للحفاظ على أمن النظام، صدر قرار بإبعاده عن مصر ليحيا في منفاه في لبنان.
الحكاية تم تجسيدها بصورة درامية في مسلسل "سوق العصر"، الذي سلط الضوء على فساد بعض الضباط الأحرار والحاشية المحيطة بهم. جسد شخصية السيناريست الفنان كمال أبورية، ولعب الفنان الراحل محمود ياسين دور ضابط صعد نجمه عقب حركة الضباط الأحرار عام 1952، وانتهى الأمر في العمل الدرامي بمحاكمته، كما جرى في الواقع، وعثر في مكتب المشير عبدالحكيم عامر حينها على فواتير مالية من المصحة بـ"علاج" السيناريست المعتقل.
الهروب من الخانكة
عمل فني آخر اقترب من استخدام السلطة لمستشفى الأمراض العقلية في التنكيل بمعارضيها، إذ حاول فيلم "الهروب من الخانكة"، إنتاج عام 1987، أن يتناول استخدام مراكز القوى بعد عام 1952 مستشفى الأمراض العقلية كسجن لأصحاب الرأي، وعرض التهم الموجهة للمفكرين بأنهم عملاء وممولون من الخارج.
الفيلم الذي أنتج خلال عهد الرئيس المصري الراحل أنور السادات، كان محتواه سياسياً بالدرجة الأولى، فناقش الفساد والمحسوبية داخل أروقة الدولة واعتقال شخصيات معارضة والتنكيل بهم بعد ثورة 1952، وإدخال أصحاب الرأي مستشفى الأمراض العقلية. وهو من الأفلام التي منعت من العرض لمحتواها السياسي المباشر.
نجيب سرور... لا حاجة للشرح
الشاعر والمخرج المسرحي والمنظر السياسي نجيب سرور كان في عداد ضحايا الاستخدام السياسي لمستشفى الأمراض العقيلة خلال حقبتي الستينيات والسبعينيات.
اشتهر سرور بجرأته الشديدة في انتقاد سلبيات النظام الناصري، وامتدت انتقاداته اللاذعة إلى النظام الساداتي، ليدفع الثمن سنوات من حياته قضاها بين السجون والمعتقلات التي تعرض فيها للتعذيب، ثم أكره على دخول مستشفى الأمراض العقلية بدعوى اهتزاز سلوكه.
انتقدت قصائد سرور سياسة حكومة أنور السادات تجاه الوطن والشعب، فيما يخص قمع الحريات العامة، لتلفق له الحكومة اتهامات مختلفة، قبل أن تزج به في مستشفى الأمراض العقلية، التي قضى بها آخر أيام حياته حتى أعلنت وفاته عام 1978.
يقول الناقد والمؤرخ الأدبي شعبان يوسف إن فترة الستينيات شهدت صنوفاً مختلفة من الممارسات الأمنية القمعية بحق المعارضين من اليسار والإسلاميين، وردت بمذكرات المثقفين المصريين الذين ذاقوا مرارة التعذيب في سجون عبدالناصر، ومنهم من قضي نحبه داخل السجون من اشتداد جرعات التعذيب بسجن أبو زعبل مثل الكاتب والمناضل الشيوعي شهدي عطية، عام 1960، إلا أنه لم يكن شائعاً وقتها الاستخدام السياسي للمصحات النفسية.
يوضح يوسف لرصيف22 أنه رغم وجود وقائع حدثت بالفعل باستخدام رجال عبدالناصر نفوذهم في حبس أشخاص بمستشفى الأمراض العقلية، لكنها لا تشي بأنه كان توجهاً أو فلسفة عقابية في أدبيات القمع المصرية. ويقول: "الأجهزة لم تكن بحاجة إلى مستشفى المجانين، لديها سجون، والمعتقلات كانت مفتوحة على مصرعيها للشيوعيين والإسلاميين".
يدلل صاحب "لماذا تموت الكاتبات كمداً" على ذلك بما حدث مع الشاعر نجيب سرور وما أشيع أنه احتجز بمسشتفى الأمراض العقلية بسبب معارضته لنظام الحكم، ويقول: "واقعة نجيب سرور مبالغ فيها لأنه كان يعاني من خلل حقيقي، ودخل المستشفى أكثر من مرة".
ينفى يوسف، الذي يعدّ كتاباً عن حياة صاحب قصيدة "الأميات"، تعرُّض سرور للاضطهاد الأدبي في مصر بسبب مواقفه السياسية، فكان منخرطاً في الحياة الثقافية وكان هو المسرحي الأول للبلد في الستينيات، وكان يعرض له ثلاث مسرحيات في الموسم، قبل أن تنقلب أموره.
بحسب شعبان، عانى نجيب سرور من خلل نفسي أثر على سلوكه، فسافر إلى أوروبا وتشاجر مع ضابط سوفياتي ورُحل إلى المجر، قبل أن يتوسط مقربون له ومحبون لإبداعه لإعادته إلى مصر، مشيراً إلى أن الأطباء النفسيين أكدوا معاناته من خلل يدفعه للإفراط في تسفيه الآخرين والهجاء اللاذع.
هناك تباين الكبير بين الروايتين الرسمية والأهلية، فالباحث اختفى قبل شهرين وتوفي في مطلع مارس، ولم يتسلم ذووه جثمانه إلا بعد شهر من الوفاة، وكانت هناك محاولات للتخلص من جثمانه من دون علم الأسرة، لتبقى قضيته مفتوحة مثل مختفين آخرين، منهم المونتير الشاب مصطفى محمود "ماصوني" والسياسي والبرلماني السابق مصطفى النجار
أما فيما يتصل بواقعة الكاتب محمد كامل حسن، أحد أشهر مؤسسي الرواية البوليسية المصرية، يؤكد المؤرخ الأدبي شعبان يوسف أنه عانى من ظلم حقيقي، بسبب زواجه فنانة أعجب بها أحد رجال المشير عبدالحكيم عامر، وقد نفت الفنانة برلنتي عبدالحميد - أرملة المشير- في مذكراتها تلك التهمة، في محاولة منها للدفاع ضد اتهامات استغلال زوجها الراحل ورجاله نفوذهم من أجل مصالحهم وأهوائهم الشخصية.
يحاجج يوسف في المدة التي قضاها محمد كامل حسن في المستشفى، حيث يقدرها بالفترة البسيطة، بينما توجد تقارير صحافية تشير إلى أنها امتدت إلى أربع سنوات، مشيراً إلى أن الكاتب المصري عبدالرحمن الخميسي توسط لدى السلطات للإفراج عنه وترحيله من البلاد بدلاً من إبقائه داخل المستشفى، ليتم ترحيله إلى لبنان، ويبدأ في تدوين ما حدث له على يد رجل المشير عبدالحكيم عامر في مذكرات لم تجمع كاملة حتى الآن.
أما من أفرطت الأجهزة الأمنية خلال الحقبتين الناصرية والساداتية، في عقابه وأذيته، بحسب شعبان يوسف، هو الصحافي إسماعيل المهدوي، مبيناً أن المهدوي "لم يكن معارضاً بالمعنى السياسي"، لكنه عانى كثيراً باحتجازه 17 عاماً في مستشفى الأمراض العقلية، مشيراً إلى أن آلة العقاب كانت حاضرة بشدة في العهد الناصري، لذا لم تكن بحاجة إلى اختراع إجراءات عقابية أخرى في ظل سياسة الصوت الواحد وسيطرة الدولة على جميع وسائل الإعلام.
رضا هلال... من العباسية إلى الغياب
لم يخل عهد الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك الذي عرف بقبضته الأمنية الحديدية، من استخدام الطب النفسي في إقصاء المعارضين، وتظل قضية إخفاء الصحافي السياسي رضا هلال منذ عام 2003، بعد إيداعه مستشفى الصحة النفسية بسبب ما انتباهه المبكر لمشروع التوريث، من أكبر الألغاز التي يعرف حلها الجميع.
لم تبدأ تحقيقات النيابة العامة في قضية اختفاء رضا هلال إلا بعد مرور ست سنوات من تاريخ اختفائه، وفتح التحقيق مجدداً عام 2011، بعد نشر تحقيقات في صحف محلية عن تورط رجال وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلي في جريمة إخفاء هلال، إذ أكد صحافيون في شهاداتهم أمام النيابة العامة أن رجال العادلي قاموا باختطاف هلال وإيداعه مستشفى الأمراض العقلية بالعباسية عنبر الخطرين تحت اسم مستعار بتاريخ 25/9/2003.
في دراسته "الاستغلال السياسي للطب النفسي في الاتحاد السوفياتي والصين" يصف عالم النفس الأميركي ريتشارد بوني كيف دأبت تلك الحكومات على استغلال الطب النفسي في إقصاء المعارضين من خلال استخراج شهادات رسمية تفيد بإصابة الأشخاص المغضوب عليهم بالجنون
في هذا السياق، لا تتذكر الدكتورة عايدة سيف الدولة، مؤسِّسة مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب (أغلقته السلطات من دون سند قانوني)، أن المركز الذي بدأ عمله عام 1993 لم يستقبل حالة مشابهة لحالة الباحث الاقتصادي أيمن هدهود على مدار تاريخه الطويل في توثيق العنف وتأهيل الضحايا، إذ يتعامل المركز باستمرار مع حالات الاختفاء القسري التي تزايدت في مصر في السنوات الأخيرة، لكن النهاية ما زالت المفتوحة في حالات كثيرة حتى الآن.
تقول سيف الدولة إن مصر عرفت ما نطلق عليه الاستخدام السياسي للطب النفسي في حقبتي الستينيات والسبعينيات من خلال وقائع سردناها في هذا التقرير، لكن العقود الماضية لم تشهد هذه الظاهرة بهذه الطريقة، وهو ما يعكس التطور غير المسبوق في التعامل الأمني مع الملف الحقوقي في مصر.
ملاحظات سيف الدولة على واقعة أيمن هدهود تتجلى في التباين الكبير بين الروايتين الرسمية والأهلية، فالباحث اختفى قبل شهرين وتوفي في مطلع مارس/ آذار، بينما لم يتسلم ذووه جثمانه إلا بعد مرور شهر من الوفاة، وكانت هناك محاولات من السلطات للتخلص من جثمانه سريعاً من دون علم الأسرة لتبقى قضيته مفتوحة مثل مختفين آخرين، منهم المونتير الشاب مصطفى محمود "ماسوني" والسياسي والبرلماني السابق مصطفى النجار. وتواصل سيف الدولة: "لم تبين جهات التحقيق دافع شخص بقيمة باحث اقتصادي درس في الجامعة الأمريكية لسرقة منزل أو اقتحامه بأي دافع، بينما تؤكد أسرته أنه كان بكامل قواه العقلية ولم يهتز كما يقال. وبحسب شهادة شقيقه فقد ألقي القبض على هدهود بجوار منزل الأسرة في الزيتون وتلقت الأسرة اتصالاً من مباحث قسم الأميرية القريب يفيد بوجود أيمن لديهم وليس في الزمالك كما يقول بيان النيابة العامة".
تتابع الطبيبة النفسية مؤسسة مركز النديم: "ما حدث ينسف أي كلام عن الإستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان. مصر أطلقت الإستراتيجية لكي تقول إننا عملنا إستراتيجية، لكنها لم تفعِّل أياً من بنودها. لا تزال الناس تختفي وتحتجز في أماكن غير معروفة وآخرون يعانون في السجون".
الواقع القانوني
بحسب التعديل الأخير بموجب القانون 106 لسنة 2015 في قانون السجون، فإن كل مسجون محكوم عليه نهائياً يتبيّن لطبيب السجن أنه مصاب بخلل في قواه العقلية، يُعرض أمره على مدير إدارة الخدمات الطبية للسجون لفحصه، فإذا رأى المدير إرساله إلى مستشفى الأمراض العقلية للتثبت من حالته، نفذ ذلك فوراً. وإذا اتضح أنه "مختلّ العقل" ظل بالمستشفى، ويبلّغ النائب العام ليصدر أمراً بإيداعه فيها حتى يبرأ. وعند شفاء المسجون تبلّغ إدارة المستشفى النائب العام بذلك، فيأمر بإعادته إلى السجن وتستنزل من مدة عقوبته المدة التي قضاها في المستشفى.
بالرغم من وضوح قانون تنظيم السجون فيما يتعلق بالمسجونين المصابين بخلل في قواهم العقلية، والذي ينص على الإجراءات اللازمة لإيداعهم المستشفيات المختصة، فإنهم يكونون داخل السجون مع باقي المسجونين ويتعرضون للانتهاك المستمر، لكونهم يأتون بأفعال قد لا يكونون مسؤولين عنها أو غير مدركين لها، معرضين أنفسهم لأذى مستمر من الإدارة ومن باقي السجناء، وفقاً لورقة بحثية صادرة عن المبادرة المصرية للحقوق الشخصية.
روى المحتجزون السابقون عن بعض المرضى النفسيين الذين تصادف وجودهم معهم في نفس المكان، قائلين: "إنهم كانوا يستغلونهم كأداة تسلية ويُضرَبون ضربًا لاإنسانيّاً في حالة إتيانهم بأفعال غير مقبولة، كما كانوا يتركون حتى تسوء حالتهم، ولا يتم تشخيص حالة أي منهم رسمياً من قبل الطبيب، وبالتالي لم يتم تحويلهم إلى مستشفى الأمراض النفسية".
"ورا الشمس"... تاريخ الاستغلال السياسي للطب النفسي
في دراسته "الاستغلال السياسي للطب النفسي في الاتحاد السوفياتي والصين" يصف عالم النفس الأميركي ريتشارد بوني ما فعتله الدولتان بحق مواطنيهما خلال القرن العشرين، بأنه أحد أشكال القمع الأكثر إيذاء، إذ دأبت تلك الحكومات على استغلال الطب النفسي في إقصاء المعارضين من خلال استخراج شهادات رسمية تفيد بإصابة الأشخاص المغضوب عليهم بالجنون.
وفي السنوات الأخيرة، توسعت الصين وإيران في استغلال الطب النفسي من خلال إجبار الحزب الشيوعي للمعارضين السياسيين وأفراد الأقليات المضطهدة على الذهاب إلى مستشفيات للصحة النفسية وتلقي علاج لأمراض لا يعانون منها، وأودعت الأجهزة الأمنية في طهران السجناء السياسيين والنشطاء المدنيين في مستشفيات الأمراض النفسية.
يصف الباحث اليساري إلهامي الميرغني أسلوب السلطة في إيداع أشخاص معارضين لها في مستشفى الأمراض العقلية بأنه عقوبة "ورا الشمس"، في إشارة إلى مكان لا نسمع عن عالمه إلا ما يصلنا منه بإرادته، باعتباره أحد أشكال القاسية للعقاب.
يقول الميرغني لرصيف22 إن "استخدام المستشفى كمؤسسة عقابية يعرض حياة أناس كثيرة للخطر، فالمواطنون من حقهم إيداعهم بأماكن احتجاز قانونية معروفة وضمان حقوقهم الإنسانية في رؤية ذويهم والاطلاع على موقفهم القانوني بشكل مستمر، وعدم التعسف ضدهم بأي شكل من الأشكال، وهو ما بات حلماً في هذه الأيام".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...