شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
عجائب رمضان في القاهرة… هلال يظهر وسط النهار وسلطان يطلب فتوى بالإفطار

عجائب رمضان في القاهرة… هلال يظهر وسط النهار وسلطان يطلب فتوى بالإفطار

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 13 أبريل 202205:24 م


تنتشر الأغنيات والقصائد التي تمتدح أجواء رمضان في مصر باعتبارها أجواء مميزة في جمالها وروحانيتها، أو هكذا كانت. فالتحولات السريعة التي مر بها المجتمع المصري على مستويات الاقتصاد والعمران جعلت خرائط المدن وأحوال أهلها تتبدل من حال إلى حال. يستمر تفكيك الأحياء وكتلها السكانية، لا سيما في المناطق الشعبية، في "التطوير" ومن قبله البناء على مساحات وساحات كان يجتمع فيها الصائمون عند إفطارهم، فيما تحيط الأسوار المستحدثة ساحات أخرى، لتطرد مرتاديها وتضع حداً لطقوس رمضانية دامت ممارستها مئات السنين، فتختفي عاماً تلو الآخر تلك الملامح الرمضانية التي كانت لا تخلو من طرائف وعجائب سجلتها كتب التاريخ والآثار، خاصة في عهود المماليك والعثمانيين.

حدث في ليلة الرؤية أن أعلن رجال الدين أن الهلال لم يظهر، وفي المقابل أعلن الوالي وأنصاره الجراكسة أنهم رأوه، وكبر الناس وأضاءوا المشاعل، لكن أحد المشايخ نزل غاضباً وهو يصيح: "اطفئوا المصابيح يا حرافيش، أتصدقون الجراكسة وتكذبون العمائم؟"

هلال منتصف النهار

كانت رؤية هلال شهر رمضان إحدى المشكلات التي واجهت المصريين خلال حكم المماليك (1250 - 1517)؛ كون "الرؤية" شرطاً لكي يقر العلماء والمشايخ ببدء الصيام.

ويرسم الكاتب محمد المنسي قنديل، في مؤلفه "لحظة تاريخ"، صورة لليلة استطلاع الهلال في مصر المملوكية بقوله: "شيوخ الأزهر يجب أن يروه بالعين المجردة، ومعظمهم يعانون من ضعف في الإبصار، وغالباً ما تهب من (المقطم) رياح رملية قاتمة، تجعل الرؤية متعذرة حتى من أعلى المآذن. الهلال يظهر أحياناً واضحاً كأنه سن ضاحك، وأحيانا يبقى غائباً. ويمضي اليوم التاسع والعشرون ويحل اليوم الثلاثون، ولكن قد تحدث المفاجأة في منتصفه!".

الواقعة التي يصفها قنديل وقعت في عهد السلطان الظاهر سيف الدين برقوق(1382- 1389). في تلك الواقعة "اضطربت القاهرة اضطراباً كبيراً، عندما ثبت ظهور الهلال في منتصف النهار. ونادى قاضي الشافعية بالإمساك بعد أن كان الغداء قد وُضِع على الموائد. وأسرع السلطان فطرد مدعويه وأمر برفع الصحاف وتجشأ وأعلن الصيام، ولم يكن باقياً على المغرب إلا عدة ساعات".

رؤية الهلال، مسألة سياسية

كعادتها على مر العصور، تدخلت السياسة في مسألة رؤية الهلال، وأصبح الناس في حيرة من أمرهم، أيصدقون العلماء أم الجراكسة حتى وصل الأمر إلى أن قسمت القاهرة نصفين، شطر مفطر، والآخر صائم.

هذه الواقعة أيضاً استعرضها الروائي محمد المنسي قنديل في كتابه بقوله: "ولأن الصراعات كانت محتدمة بين من يحكم ومن يعلم، فقد كانت مسألة رؤية الهلال تخضع أحياناً لوجهات النظر، فقد حدث في ليلة الرؤية أن أعلن القضاة الأربعة (أي قضاة المذاهب السنية الأربعة) ومشايخ الأزهر، أن الهلال لم يظهر، وفي المقابل أعلن الوالي وأنصاره من الجراكسة أنهم قد رأوا الهلال من فوق مآذن مسجد المتولي، وكبر الناس وأضاءوا المشاعل واستعدوا للسهر، لكن أحد المشايخ نزل غاضباً وهو يصيح: (اطفئوا المصابيح يا حرافيش، أتصدقون الجراكسة وتكذبون العمائم)".

ظل السلطان مصراً، كان يريد أن يفطر ويحافظ على رضا الشرع. ولم يلن المشايخ، برغم أنهم كانوا يرتعدون خوفاً. وتوعدهم السلطان، وأغراهم الوزير، وزمجر الحراس، ثم اهتدى أحد المشايخ إلى الحل: فليسافر السلطان. السفر عذر شرعي للإفطار

ويشير محمد فتحي عبد العال أيضا في مؤلفه "تأملات بين العلم والدين والحضارة" إلى الواقعة ذاتها، فيروي أن "الناس أطفأوا المشاعل، لكن الجراكسة عادوا ومعهم مزيد من الجند، وأصروا على أن الغد هو اليوم الأول من رمضان، فأوقد الناس المشاعل مرة أخرى، وتوافد المشايخ من كل الأروقة، قائلين: ‘أيعلمنا الجراكسة أمور ديننا؟’، فأطفأها الناس للمرة الثانية، وأمسك أحد الحراس بذقن أحد المشايخ فضربه الشيخ بالمركوب، واشتبكت الأيدي وأوقد الناس المشاعل وأطفأوها عدة مرات، ثم صعدوا جميعاً إلى القلعة يحتكمون بين يدي السلطان".

أصبح السلطان في حيرة من أمره، ووفقاً لمؤلف "لحظة تاريخ"، نظر إلى الجراكسة الغاضبين، وإلى الشيوخ بعباءاتهم الممزقة، وإلى السماء المظلمة الخالية من أي أثر، وكان الموقف حرجاً، لا يوجد هلال، لكنه لو خذل الجراكسة فسوف يخذلونه، بينما المشايخ مقدور عليهم، لذلك قد قرر قراره وأعلن أنه أيضاً قد لمح الهلال، وباتت القاهرة مقسومة: صائمة ومفطرة.

السلطان يطلب الفتوى للإفطار

وكان من أشد الأحداث غرابة في رمضان، ما وقع في عهد السلطان الأشرف زين الدين أبو المعالي (1363 – 1377) الذي حيّر العلماء والمشايخ بطلبه فتوى لإفطار الشهر الكريم، بحجة أنه ضعيف ولا يقوى على الصيام.

يقول محمد فتحي عبد العال: "في صبيحة اليوم الأول من رمضان استدعى السلطان الأشرف أبو المعالي، العلماء والمشايخ على عجل، ودخلوا فوجدوه جالساً متجهماً فوق العرش، ووزيره (منجك) بجانبه، وأحسوا بالخوف والحيرة، فظلوا صامتين، وأخيراً تكلم الوزير بهدوء ورزانة قائلاً: السلطان يريد فتوى لإفطار رمضان".

فوجئ القضاة بحديث الوزير، وتبادلوا النظر وعيونهم تنطق بسؤال لا تجرؤ ألسنتهم على النطق به: "وهل يحتاج المفطر إلى فتوى؟". لم يتكلم أحد، وخيّم الصمت حتى قطعه صياح السلطان الغاضب: "هيه يا مشايخ، ماذا تقولون؟".

يكمل المنسي قنديل رواية الواقعة نفسها في كتابه: "تنحنح المشايخ، وبدأ القاضي المالكي بسرد أحكام الصوم ومبيحات الإفطار بصورة عامة، لكن لم يفهم منها أنه لا يوجد في حالة السلطان ما يبيح الإفطار، وهتف السلطان في قوة: ‘أنا مريض يا مشايخ، ضعيف’، وتدخل الوزير ليحاورهم، لكن أحداً منهم لم يستطع أن يقتنع بجدوى حاجة أبو المعالي إلى فتوى كاذبة، إذا كان يريد أن يفطر فليفطر!".

ويؤكد قنديل أن السلطان برغم ذلك ظل مصراً، كان يريد إفطاراً يرضى عنه الشرع. ولم يلن المشايخ، "برغم أنهم كانوا يرتعدون خوفاً. وتوعدهم السلطان، وأغراهم الوزير، وزمجر الحراس، ثم اهتدى أحد المشايخ إلى الحل: فليسافر السلطان. السفر عذر شرعي للإفطار. وصاح أشرف أبو المعالي ووزيره من شدة الانبساط، وفي اليوم التالي أعُلن أنه سيسافر لتفقد قلاع الإسكندرية ودمياط ثم يرحل بعد ذلك إلى الشام".

ظل السلطان يصيح: "لا عيد يوم الجمعة"، إذ شاع أن السلطان إذا دُعِي له مرتين في يوم جمعة (مرة في صلاة العيد ومرة في صلاة الجمعة) يزول ملكه. إلا أن الليلة كانت داكنة ولم يظهر الهلال، وصام الناس الخميس وعيّدوا الجمعة، ودعوا للخليفة مرتين ودعوا على السلطان مرتين فاستجاب الله الدعاء!

أريد أن يكون العيد غداً!

الوقائع السابقة كانت مع بداية شهر رمضان، لكن تجدر بنا الإشارة هنا إلى واقعة أخرى وقعت في نهايته، لا تقل غرابة عما ذكر آنفاً، أثناء حكم سلطان مملوكي آخر هو الناصر أبي السعادات (1482 - 1498).

يكنب قنديل تفاصيل هذه الواقعة: "في اليوم التاسع والعشرين [من رمضان] اشتد الحر، وعز وجود السقائين، وتكالب الناس على الزوايا والجمال، حتى تعاركوا بالعصى، وفي وسط هذا التوتر أمر السلطان أن تدق (الكؤوسات) في القلعة، وصاح فيمن حوله: ‘أريد أن يكون العيد في الغد من هذا الشهر، سواء رأوا الهلال أم لم يروه’".

أشيع هذا التهديد بين الناس، فركب قاضي القضاة الشافعية بغلته (دابة مثل الحمار) وصعد إلى القلعة، وأبلغه أن العيد لا يجوز إلا إذا تمت رؤية الهلال في تلك الليلة، لكن السلطان كان مصراً حتى إنه همّ بعزل القاضي. إذ لم يكن يريد للشهر أن يتم.

والسؤال هنا لماذا لم يرد الناصر أبي السعادات أن يتم شهر رمضان؟ هذا ما أجاب عنه قنديل بصورة توحي بمعتقدات غريبة كانت في رؤوس السلاطين آنذاك. يقول: "لأنه لو تم فسوف يكون يوم الجمعة هو أول أيام العيد، وسوف يُدعى للخليفة من فوق المنابر مرتين، مرة في خطبة صلاة العيد، ومرة في خطبة صلاة الجمعة، والدعاء للخليفة مرتين علامة على نهاية السلطان، هكذا يعتقد كل الناس، ويعتقد أبو السعادات نفسه".

وبحسب الكاتبة وداد الكواري في مؤلفها "كما تحب: رسائل أدبية"، ظل الناصر أبي السعادات يصيح: "لا عيد يوم الجمعة"، لكن القاضي كان مصمماً على أنه لا بد من رؤية الهلال، وصعدوا جميعاً إلى أعلى جزء في القلعة، و"انتقى السلطان من رجاله أحَدّهم بصراً وبثهم في كل مكان، فوق مآذن الأزهر وجامع المؤيد والمقطم وجلسوا يترقبون والسلطان يقضم أظافره والليلة مظلمة، داكنة، ولم يظهر الهلال، وصام الناس الخميس وعيّدوا الجمعة، ودعوا للخليفة مرتين ودعوا على السلطان مرتين فاستجاب الله الدعاء!"

حيلة العفو لاجتثاث المعارضين

وكانت هناك عادة لدى سلاطين المماليك، هي إعتاق ثلاثين عبداً في رمضان، والإفراج عن بعض المساجين، إلا أن تطبيق العفو لم يكن دوماً على نفس الوتيرة لدى جميع السلاطين، فقد استخدمها بعضهم للقضاء على معارضيه، مثل الناصر فرج بن برقوق.

تفاصيل هذه الواقعة، أوردها المؤرخ يوسف بن تغري بردي، في كتابه الأشهر "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة": "ثم إن السلطان نادى في أول شهر رمضان من سنة أربع عشرة وثمانمائة في القلعة بالأمان، وأنهم عتقاء شهر رمضان، ثم تتبعهم بعد الأمان وأمسك منهم جماعة كبيرة، حتى إنه لم يخرج الشهر (ينتهي) حتى أمسك منهم أزيد من أربعمائة نفر وسجنهم بالبرج من القلعة".

اعتبر السلطان أن  قدوم رمضان فرصته للتمتع ببعض الحرية، حيث انشغال الناس بالصيام والاحتفالات. واعتاد أن يصدر أوامره لكبار رجال الدولة في رمضان ألا يحضروا إلى قصره حتى ينتهي الشهر، "ويتسنى له اللعب بالحمام مع أوباش الناس"

لم تتوقف مهازل السلطان المذكور عند هذا الحد، وإنما بحسب بن تغري بردي: "ذبح في ليلة ثالث شوال أزيد من مائة نفس من المماليك السلطانية الظاهرية المحبوسين بالبرج، ثم ألقوا من سور القلعة إلى الأرض، ورموا في جب مما يلي القرافة، واستمر الذبح فيهم".

ويشير مؤلف كتاب "تأملات بين الدين والعلم والحضارة" إلى أن السلطان فرج ابن برقوق كان يغافل المماليك المختلفين معه، وكلما ظهرت مجموعة كان يقبض عليها في سرية تامة، دون إشعار الآخرين، ونقل عن "المقريزي" قوله: "إنه لم يمض الشهر الكريم إلا وكان أكثر من أربعمائة مملوك في السجن".

الحمام يمنع آذان العصر

واقعة غريبة وطريفة أخرى وقعت في رمضان، كان بطلها السلطان حاجي بن الناصر محمد بن قلاوون (1331 - 1347)، وتتصل بتربية الحمام. فقد اعتبر السلطان أن  قدوم الشهر فرصته للتمتع ببعض الحرية، حيث انشغال الناس بالصيام والاحتفالات. واعتاد أن يصدر أوامره لكبار رجال الدولة في رمضان ألا يحضروا إلى قصره حتى ينتهي الشهر، "ويتسنى له اللعب بالحمام مع أوباش الناس".

وبحسب محمد فتحي عبد العال، كان السلطان "يتعرى ويلبس ثياب جلد ويصارع أوباش الناس".

ويصف ابن تغري بردي حالة حاجي بن الناصر بن قلاوون، فيقول: "أعاد حضير الحمام (مقامرة على سباق الحمام) وأرباب الملاعيب من الصراع والثقاف والشباك، وجري السعاة، ونطاح الكباش، ومناقرة الديوك والقمار، وغير ذلك من أنواع الفساد، ونودي بإطلاق اللعب بذلك بالقاهرة، وصار للسلطان اجتماع بالأوباش وأراذل الطوائف من الفراشين والبابية ومطيري الحمام، فكان السلطان يقف معهم ويراهن على الطير الفلاني والطيرة الفلانية".

ويصور المؤرخ الكبير الحالة التي وصل إليها السلطان بقوله: "بينما هو ذات يوم معهم (أوباش الناس) عند حضير (مقامرة) الحمام، أذن العصر بالقلعة والقرافة، فابتعد الحمام وتطاير، فغضب وبعث إلى المؤذنين يأمرهم أنهم إذ رأوا الحمام لا يرفعون أصواتهم (أي يرفعون الأذان). وكان يلعب مع العوام بالعصى، ويصارع معهم بالرمح والكرة، فيظل نهاره مع الغلمان والعبيد، وصار يتجاهر بما لا يليق به أن يفعله".

"أجهل من حمار"

ومع انهيار الحكم المملوكي، واستيلاء العثمانيين على مصر، وقعت أحداث مؤسفة، منها ما ذكره محمد فتحي عبد العال: "العثمانيون أوكلوا إلى قاضي حنفي تركي مهمة استطلاع الهلال، وبحسب المؤرخ ابن إياس  فقد كان القاضي جاهلاً بالقواعد الفقهية المنظمة لاستطلاع الهلال، حتى وصفه معاصروه بأنه كان (أجهل من حمار)".

وقد شهد استطلاع هلال شهر رمضان لعام 924 هـ (الموافق 1518 ميلادية) في بدايات حكم العثمانيين تخبطاً في تحديد أول أيام الصيام وأول أيام عيد الفطر، حتى أن أهالي الأسكندرية ودمياط صاموا قبل سكان القاهرة بيوم، وقد ذكر ابن إياس أن "الناس في مصر المحروسة (القاهرة) صاموا يوم السبت، بينما صام أهالي الأسكندرية ودمياط يوم الجمعة. ولم يعلم الناس بهذا الخطأ إلا بعد انقضاء أيام العيد".

وعندما علم الناس بالأمر، هاجم الشعراء القاضي التركي، فقال أحدهم:

يا قاضياً بات أعمى

عن الهلال السعيد

أفطرت في رمضان

وصمت في يوم عيد


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard