في عمرِ السابعة بينما كانت تقف والدتي قبالة طاولة المطبخ لإعداد وجبة العشاء، أتقاسم معها الطاولة وأنا جالسة على كرسيٍ، أضع دفتري لحلِ الواجباتِ المنزليةِ أو لمراجعةِ دروسي. تُساعدني أحياناً وتصحح لي مراتٍ أخرى، ولا تكفُ يداها عن إضافةِ مكونٍ أو تحريكِ قدرٍ أو محاولاتٍ لضبطِ الطعم. هذا مشهدٌ لا يغيبُ عن ذاكرتي. في بيتنا مكتبٌ واحدٌ، ونتقاسم بقيةَ طاولات البيت. أستيقظُ باكراً أيامَ الامتحانات، ومنعاً لإيقاظَ من في الغرفةِ، أتوجهُ مباشرةً نحو المطبخ، أفرشُ كتبي ودفاتري على الطاولة، وسطَ سكونٍ لا يُنغصهُ إلا صوتُ الثلاجةِ. كان الوقت الذي أمضيه في المطبخُ جزءاً من مشواري الدراسي، أطبخُ بينما أستمعُ لكتابٍ صوتي أو محاضرة، أنظفه بينما أستجمعُ فكرةَ نصٍ أو مقالٍ، أنتظر نضوجَ الطعامِ، لأبعثَ ايميلات العملِ، أو للكتابةِ مرةَ أخرى على الطاولةَ.
لم يعد المطبخ مكاناً معنياً فقط بالطعامِ والتحضير، إنه مكان فيهِ من الهدوء الغائب في الغرف بسبِ صوتِ شاشاتِ الهاتفِ والتلفاز، لقد خرجَ المطبخُ من صفته الأساسية للطعامِ بالنسبةِ لي، وبالنسبة لكثيراتٍ سوفَ يسردن تجاربهن وعلاقتهنَ بالمطبخِ بعيداً عن العملِ والدراسةِ وقلق الحياة.
معَ هذا يبدو أن رواد وسائل التواصلُ الاجتماعية، التي ما زالت تؤمنُ بتقسيم الأدوارِ جندرياً، قرروا بالموازاةِ مع الكثيرِ من الأدوارِ التي اختاروها وألصوقها بالنساءِ، اضافةَ جملتهم الشهيرةِ لإنهاءِ كل جدالٍ (سياسي، اقتصادي أو اجتماعي) بطريقةٍ ساخرةً متهكمة: "بلاصتك في الكوزينة" أي "مكانكِ في المطبخ"، متبوعةً بتساؤلٍ: لماذا خرجتِ منهُ، ارجعي اليه. فبرغمَ الطرق التي تيسرت للمرأة في الحياة مقارنةً بأجيالٍ سابقةٍ، من التعليم والحصولِ على شهاداتٍ عاليةٍ، إلى العمل، يظلُ الكثيرون يعتبرونَ أن "المطبخ" هو المكان الأنسب، بل هو المكان الحقيقي الذي خٌلِقت لأجله، واستعمالهِ وسيلةً للانتقاصِ منها إن لم يكن الطبخُ واحداً من اهتماماتها في الحياة، أو لإيهامها أنهُ مكانها "الطبيعي" و"الحصري".
الكثيرون يعتبرونَ أن "المطبخ" هو المكان الأنسب للمرأة، بل هو المكان الحقيقي الذي خٌلِقت لأجله، واستعمالهِ وسيلةً للانتقاصِ منها إن لم يكن الطبخُ واحداً من اهتماماتها في الحياة، أو لإيهامها أنهُ مكانها "الطبيعي" و"الحصري"
"ما فائدةُ امرأة لا تجيد الطبخ؟"
لأنها تجهل معلومةً تخص موضوعاً في نقاشٍ تم تداوله، جاءها الردُ الجاهز: بلاصتك في الكوزينة. صراح (30 عاماً) تعمل بقسم تسيير الموارد البشرية في شركةٍ خاصةٍ. رغم ذلك تؤكد أن هذه الردود يجب أن لا تكون استفزازيةً بل يجب التدرب على أنها ردٌ جاهزٌ لا يجب إعطاؤه وقتاً أو حرقِ أعصابنا لأجله، لكن يختلفُ الأمر إذا كان ممن يعنينا أمرهم، مقربين لنا كالزوج، شخصٌ نرتبط به، ففي ذلك خطر أن يفرضَ علينا هذا النموذج المرسخِ في لا وعيهِ. تُشارك مريم (20 عاماً)، طالبةٌ جامعية بقسم الآداب الانجليزية، الموقف مع صراحَ، إذ أخبرها أحد الأصدقاء أن المرأة التي لا تجيد الطبخ، لا فائدةَ مرجوةً منها، في نقاشٍ حول بعض الأطباق التي لا تجيد صنعها، لتضيفَ أن الأمر بالنسبةِ لها غيرُ مقترنٍ بجنسٍ معين ولا بمستواهِ الثقافي، ولا أسمحُ لتحديد قيمتي من خلال ما أجيد، فهذا يدعو إلى قولبةِ الإنسان حسب الجنسِ والمستوى الثقافة.
علاقتي بالمطبخٍ ممزوجةً بالحنين، إذ تذكّرني روائح الطعامِ والجلوس فيهِ مطولاً، بكلِ ما كانت تقوم بهِ جدتي وأنا طفلةً أتابعها بعين الملاحظة والحُب
الطهو طريقةٌ للتعبير عن الحب وأمي كانت ترسمُ لوحاتها في المطبخ.
بالنسبةِ لخديجة، (29 عاماً) مهندسة معمارية تعملُ بدبي، لا علاقةَ لممارسةِ فعلِ الطبخِ بمستوى ثقافي أو دخلٍ مادي. تقول : "تعودتُ مساعدة والدتي في المطبخ منذ كنت في الحادية عشرَة من العمر، بحكمِ أن والدتي امرأة عاملةٍ" وتضيف أن الفعلَ نفسهُ هو طريقة للتعبير عن الحب للأشخاص الذي نطبخُ لهم، عائلة أو أصدقاء أو حبيب، بعيداً عن كون ذلك إلزامياً أو واجباً، لربما يتحكم في ذلك الآن ضيق الوقت بسببِ شؤون الحياة، لكنه يظلُ بالنسبةِ لي فعلُ غاية في المتعةِ، يمنحنِي تجريب وصفاتٍ جديدة من مطابخ أخرى غير المطبخِ المحلي شعوراً جيداً، كما يترجمُ فعل الطهو بداخلي أنه إنتاجية، خاصةً في أيامِ العطل إذ يمكنني طبخَ صنفين وأكثر. تحكي أيضاً عن مشهدٍ لطالما ألِفته قبل أن تغادرَ الجزائر لاستكمال دراستها في الخارجِ ثم العمل، أينَ كانت والدتها ترسم لوحاتها في المطبخِ بينما تنتظر نضوجَ الطعامِ.
تقول خديجة: "لا تضاد بين العلمِ والابداعِ وممارسة الطهو، بل هي عمليةُ متكاملةَ، لا يمكن تنميطها وربطها بمستوى ثقافي أو مادي".
المطبخ علمني الصبر وخلّصني من التوتر
تؤكد مروة (25 عاماً)، آخر سنة طب أسنان، أن علاقتها بالمطبخٍ ممزوجةً بالحنين، إذ تذكّرها روائح الطعامِ والجلوس فيهِ مطولاً، بكلِ ما كانت تقوم بهِ جدتها وهي طفلةً تتابعها بعين الملاحظة، ماذا تخلط بماذا، وكم تضعُ من هذا وذاكَ مع مشهدٍ للثوم والبصل المعلقين، وأكياس القماش الممتلئة بالسميد والكسكسي وباقي التحضيرات السنوية. تتعارض مروة مع الفكرة الرائجة لتجنيس المطبخِ وجعلهِ فعلاً وصفة ومكاناً خاصاً بالنساء إذ تقول: "من شأن كل إنسانٍ يجوع ويأكل أن يطبخِ طعامهِ". هكذا في تعبيرٍ واحدٍ قاطع، لتضيف أن فعل الطبخِ وإعداد الطعامِ مع موسيقى في الخلفية يجعلها هادئة، ويخلصها من التوتر، نتيجة أصوات المكونات التي تغلي على النار. ملمس التوابل وروائحها يُدخلها عالماً منفصلاً بعيداً عن الدراسةِ وضغوطها، والتخلص من روائحِ الأدوية والمشافي، وضغطِ المشاريع الدراسية حيث تتشاركُ معها مريم في ذلك مصرحةً أن المطبخ علمها الصبر عكس طبيعتها الراكضة السريعةِ.
الطبخ لا يُلغي قدرتي على العمل والترجمة
"سوسن" (35 عاماً) كاتبة ومترجمة حرة، انتقلت علاقتها بالمطبخ من الابداع والتجريبِ قبل الزواج إلى فعلٍ يومي فرضه نمطُ الحياة الجديد، إذ تتقاسم الفعلَ نفسه مع زوجها مراتٍ حسبَ ظروف عملهما، ومتى يسمحُ الوقت لكليهما بدخولِ المطبخِ وإعدادِ وجباتِ الطعامِ دون أي تقسيمٍ للمهام حسبَ الجنس، تصرح: "أحياناً أعدُ أطباقاً تقليدية تحتاجُ وقتاً ومعرفةً في أيامِ العطلِ أو المآدب، هذا بالتأكيد لا يُلغي قدرتي على العملِ أو الترجمة مثلاً، هل أغيّر بمجردِ لمس المكوناتِ طريقةَ تفكيري؟ على العكس هو أمر يحتاج للتعلم والممارسةِ أيضاً، ويمكن أن يكون مشواراً كاملاً من الهواية إلى المهنية.
من التدريس الجامعي إلى البحث في تاريخ المطبخِ الجزائري
لعل ياسمينة علام خير مثال للمرأة التي تختار المكان الذي تريد أن تكون فيهِ، دونَ لعبةِ الابتزاز والانتقاصِ من قيمتها أو حصرها في مكانٍ واحدٍ. لقد ظهرت السيدة علام في برنامج ماستر شاف بنسختهِ الجزائرية، كشيف عضو في لجنة التحكيم لثلاثةِ مواسم. وهي صرحت في حواراتٍ كثيرةٍ للإعلام بأن ظهورها في البرنامج كان خروجاً من منطقةِ الراحة ولم يكن سهلاً، وإن كانت البداية منذ الصغر بانتمائها لعائلة تمارس الطبخَ وتعلمه لبناتها. لم يكن أمراً جديداً إذ كانت تصنعُ الحلويات منذ بلوغها السابعة، لكن أدوار الحياة الأخرى ومسيرتها الأكاديمية بالجامعة كأستاذة محاضرة لمدةِ 29 عاماً، المهنة التي تحبها بالاضافةِ إلى مسؤوليات الأمومة، كانت حائلاً دون مواصلة شغفها في المطبخِ. بعد التقاعد تفرغت ياسمينة لمشروعها، وأنشات مطعم "دار جدي" حيث تطبخِ الوصفات الجزائرية على الطريقة التقليدية، كما أنشأت مخبرا في سطحِ منزلها لإنتاج الهريسة مع كلِ مراحل التعقيم والتغليف. ولم تتوقف عند ذلكَ، بل زاوجت بين العلم والبحث وأصدرت كتابها مع بدء معرض الكتاب الدولي بالجزائر عام 2022 بعنوان Mémoire culinaire de l’Algérie (ذاكرة المطبخ الجزائري) التي تعرض فيه أصل الوصفات التقليدية الجزائرية وعلاقتها بالحضارات التي مرت بالجزائر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...