"حبيبي". خيّل إلي وأنا أقرأ العنوان أن المسرحية تتضمن مشاهد حميمية ورومانسية بين ممثلي العمل المسرحي، لكنها في الواقع غير هذا، فأحداثها تروي قصة زوجين، امرأة مثقفة، رصينة، صاحبة رؤية، ومتعلمة، حاصلة على شهادة عُليا، وزوجها زميلها السابق في الوظيفة.
منذُ شهرين كاملين وعلى فترات متقطعة، تقدم السويسرية سيلفيا باريروس بالتنسيق مع المخرج الجزائري عمر فطموش، مسرحية "حبيبي"، التي تمخضت عن عمل مشترك بين سويسرا وتونس والجزائر، فهي من إنتاج تعاونية مسرح "السنجاب" لبرج منايل في الجزائر، والمسرح السويسري "إبسارا"، ومسرح وفرقة العلاج بواسطة الفن "تيراب إرت" التونسية.
وتحولت الفتاة المتعلمة والمثقفة بعد ارتباطها عن قصة حب إلى ضحية عنف ممارس عليها من طرف زوجها، الذي ورث هذه الظاهرة عن آبائه، رغم أنه شاب وقور، شهم، خلوق ومتواضع ومتعلم وصادق، لتنتفض وتقرر كسر الصمت ووضع حد لسلوكياته العدوانية الخطيرة.
وتعكس مشاهد المسرحية صورة حية عن العلاقات الزوجية كما هي في الواقع، فتنتهي في غالب الأحيان بالطلاق أو الموت، مثلما حدث مع سيدة جزائرية في العقد السادس من عمرها، لم يحالفها الحظ منذ أيام في النجاة، ففارقت الحياة بعد تلقيها عدة ضربات على الرأس على يد زوجها البالغ من العمر 70 عاماً.
الزوج فقد الحزام
مُستهلُ المسرحية التي تجوب أنحاء الجزائر، يُجسّد العنف الممارس ضد المرأة خلف أبواب الحياة الزوجية، واختارت السويسرية سليفيا باريروس أن يكون المطبخ هو المكان، الذي سيحتضن مشاهد الكراهية، والسلوكيات النرجسية والعنف اللفظي، الجسدي والمعنوي، الذي يمارسه الزوج ضد زوجته، لأنه فقد (السبتة) أو الحزام الذي ورثه عن أجداده.
ولأن البطلة في القصة شخصية مثقفة وواعية، وتهتم كثيراً بترابط وتماسك أسرتها، خاصة بعد أن رُزقت بطفل، وتريده أن يظل دائماً بين أحضانها وأحضان والده، فضّلت في البداية التزام الصمت، وهو تفضيل يومي تختبره كل النساء المعنَّفات في الجزائر.
ذروة الدراما في المسرحية، التي تُعرض في الجزائر من 22 إلى 28 يناير/ كانون الثاني بمشاركة ممثلين/ات تونسيين/ات، وبتنسيق من الكاتب المسرحي الجزائري عمر فطموش، تنطلق من انتفاضة وتمرد الزوجة، إذ قرّرت البطلة كسر حاجز الصمت حيال العنف اليومي الممارس عليها من طرف من اختارته عن حب، وهو المشهد الذي لا يعكس النساء المعنّفات في الجزائر، فأغلبهن مُكبلات، مقيدات بـ"الخوف" وثقافة "العار" و"العيب".
وصفت السويسرية سيلفيا باريروس صمت الجزائريات بـ "الملاذ الوحيد في وسط رجعي مدمّر، لا يزال رهينة العقلية القبلية والموروث المتخلف، الذي ينظر للمرأة نظرة دونية".
وتقول سليفيا باريروس، رئيسة الفرقة المسرحية السويسرية "إبسارا"، ومخرجة مسرحية "حبيبي": "ظاهرة العنف ضد النساء عرفت منحى خطيراً، بالأخص في فترة الحجر الصحي، وهو السبب الذي دفعني لإنجاز هذا العمل، بالتنسيق مع السفارة السويسرية في تونس والجزائر معاً".
"ولا يمثل العنف الزوجي ضد المرأة نمطاً استثنائياً خاصاً بالمجتمع الجزائري فقط، بل تفاقم في جميع أنحاء العالم، كسويسرا وإسبانيا وفي أمريكا اللاتينية والهند وآسيا أيضاً".
عندما تتمرد الزوجة تبدأ الدراما
وحول عنوان المسرحية "حبيبي"، قالت سيلفيا، بحسب تصريحات منشورة، إن هذه الكلمة علقت في ذاكرتها حين كانت تستمع لأغاني أم كلثوم، وأيضاً لأن كلمة "حبيبي" تعني أن الرجل يريد من خلال هذا اللفظ أن يؤكد للمرأة أنها ملك له، حتى وإن ضربها وعنفها، فهي ستسامحه بعد أن يتلفظ بتلك الكلمة.
ولتصوير هذا السلوك العنيف المتعمد في غالب الأحيان ضد المرأة، تبنت سليفيا باريروس نبرة حادة لا تخلو من الغضب والسلوك الانفجاري الذي طبع معظم مشاهد هذا العمل، في مدته المستغرقة 75 دقيقة، عاكساً صفات الرجل المتسلط والمتحكم و"الكياد"، وهي نزعات "ذكورية سامة" لا تزال سائدة في الجزائر.
واقع مر ونفس ثوري
من ناحية أخرى، كان صوت البطلة في القصة أكثر رقة، يتسم بالأدب الرصين، وسيطر عليه الكثير من التبلّد، ونوع من الرهاب والخوف النفسي، إلا أن أحداث المسرحية أخذتنا لتطورات أخرى، عندما تمردت المرأة على زوجها وقررت تحدي رجولته السامّة؛ طفح كيلها وفاضت الكأس بعد سقوط القناع وتأكدها من أن الحياة مع زوجها أضحت مستحيلة، فاستجمعت كل قواها، وأصبح لها نفساً ثورياً ضد الواقع المر الذي كانت تعيشه، ووضعت حداً لهذه الممارسات حتى لا يرثها ابنهما الصغير، مثلما ورثها هو عن أجداده.
وطغت على المسرحية مشاهد عنف وسلوكيات عدوانية، ففي أحد المشاهد، ظهر بطل القصة الذي كان يرتدي سروالاً أسود، وقميصاً أبيض اللون، والبطلة مستلقية في حوض الاستحمام، المكان الوحيد الذي تجد فيه منفذها، بينما هو يقتحم ويتوغل في طقوس طهارتها، لأنه زوجها ويحق له أن يطالب ويفعل ما يشاء، فهو الذي يحاكم ويعاقب في نفس الوقت كأجداده السابقين، وكانت فاقدة للوعي وهو يحاول إيقاظها بعد أن انهال عليها ضرباً وشتماً، وتسبب ذلك في بروز كدمات زرقاء اللون على وجهها.
وظهرت البطلة في مشهد آخر وهي تحتمي بابنها ثمرة زوجها، بينما كان البطل غاضباً على وشك الانفجار عليها، وهنا وفي هذا المشهد بالذات ظهرت ملامح الخوف والذعر على محياها، وهو نفس السيناريو الذي تواجهه العشرات من النساء يومياً.
وجاء هذا الإنتاج المسرحي المشترك بين سويسرا والجزائر وتونس، التي سبق وأن عرضت هذا العمل في سياق فعاليات الدورة الثانية والعشرين لمهرجان "أيام قرطاج" المسرحية، على خشبات عدد من المسارح في ديسمبر/ كانون الثاني 2021، في ظرف تصاعدت فيه ظاهرة العنف الجسدي واللفظي ضد النساء في الجزائر، وفق ما كشفته صفحة مخصصة لحصر جرائم قتل النساء "فيمينسيدز ألجيري".
وبحسب أحدث الأرقام التي أعلنت عنها الصفحة فقد تم تسجيل أربع نساء مقتولات في جرائم منفصلة منذ مطلع 2022، وفي عام 2021 قتلت 75 امرأة جزائرية، من مختلف الأعمار وصولاً حتى الـ 80 عاماً، بأيدي أبنائهن وآبائهن وإخوانهنّ وأنسابهن، وحتى بأيدي غرباء، بينما فارقت 54 امرأة الحياة في عام 2020.
وتكشف آخر الإحصائيات الرسمية المعلن عنها من طرف الأمن الجزائري، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 عن تسجيل 8 آلاف قضية تتعلق بالعنف ضد المرأة خلال الأشهر الثمانية الأولى.
ووفقًا للأرقام التي تم الإعلان عنها، خلال الطبعة الثانية لملتقى الصحفيين لمكافحة العنف ضد المرأة والبنات، الذي نظمه برنامج الأمم المتحدة للسكان ومكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة بالتنسيق مع الحكومة الجزائرية والسفارة الهولندية في الجزائر، فإن 2% من هذه الحالات لأفعال غير أخلاقية وتحريض على أفعال جنسية بينما تعرض 1% منهن للتحرش الجنسي.
وينص قانون العقوبات الجزائري على أن كل من أحدث عمداً جرحاً أو ضرباً بزوجته يعاقب بالسجن من سنة إلى 20 سنة، بحسب درجة خطورة الإصابة، أما في حالة الوفاة فالعقوبة هي السجن المؤبد.
كما ينص القانون على المعاقبة بالسجن من ستة أشهر إلى سنتين، "لكل من يمارس على زوجته أي شكل من أشكال الإكراه أو التخويف ليتصرف في ممتلكاتها أو مواردها المالية".
ويسلط قانون العقوبات الجزائري الضوء على التحرش الجنسي الذي ينص على السجن بين شهرين إلى ستة أشهر أو الغرامة المالية ضد "كل من ضايق امرأة في مكان عمومي بكل فعل أو قول أو إشارة تخدش حياءها".
وقال المخرج الجزائري عمر فطموش، في مؤتمر صحفي، إن مثل هذه الأعمال تعتبر ضرورة ملحة كونها تسمح للمسارح المحلية بالانفتاح على العالم الخارجي، وحتى اكتشاف طرق وأشكال جديدة للتعبير، وأشار إلى أن "تعاونية مسرح السنجاب" تعتزم عرض أعمال أخرى ضمن تجربة العلاج بالفن، والتي سبق وأن خاضتها في عدد من القرى المتضررة من الحرائق التي اندلعت في عدد من المناطق الجزائرية صيف عام 2021.
يؤدى العرض في الجزائر بمشاركة الممثلين التونسيين من الكاتب المسرحي الجزائري عمر فطموش، مع خلفية موسيقية لأوندينا دواني، وسينوغرافيا من إعداد قيس رستم، وأعيد العرض تقديمه في الجزائر حسب مقاييس ومعايير أصيلة زادتها أزياء واكسسوارات نوال لصودا جمالاً.
المرأة تتحول لقنديل البحر
تعلق صارة زقاد، الباحثة في علم الاجتماع لرصيف22، قائلة: "إن تجسيد وقائع العنف ضد المرأة في الأعمال الفنية في الجزائر قديمة النشأة، قدم السينما والتلفزيون، لكن يبقى خالياً من الحلول لأن الفن ينقل ويجسد فقط، أي يعمل على التوعية أو نقل الواقع إلى أكبر عدد ممكن من المشاهدين/ات، وهو ما يعتبر نوعاً من أنواع المساندة النفسية، فكل امرأة عاشت نفس القصة تجد نفسها في بطلات العمل الدرامي".
ومن بين الأعمال الفنية التي استحضرتها صارة زقاد فيلم "امرأتان" الذي عرض لأول مرة سنة 1992 على شاشة التلفزيون الجزائري، وأخذ دور البطولة فيه كل من الممثلين القديرين، بهية راشدي وعثمان عريوات، فأحداث المسلسل لخصت لنا واقعاً مريراً تعيشه المرأة المتزوجة، والتي تتعرض للخيانة الزوجية، ثم العنف اللفظي والمعنوي والجسدي، إلى أن يصل بها الأمر إلى خيارين، إما أن تتقبل الزوجة الثانية أو أن تتقبل الطلاق. وبحكم التضحية التي تقوم بها المرأة دائماً، فهي تتحمل كل المتاعب من أجل تنشئة سليمة لأطفالها، خاصة الذكر، إذ تفقد السيطرة عليه، حسب أحداث الفيلم، لينتهي به الأمر تاركاً مقاعد الدراسة ثم التوجه للعمل ثم الاعتداء على والده انتقاماً منه ومن الحالة المزرية التي آلت إليها الأسرة، من تفكك وتشرد وفقر، بسبب نزوة الأب.
"كلمة "حبيبي" تعني أن الرجل يريد من خلال هذا اللفظ أن يؤكد للمرأة أنها ملك له، حتى وإن ضربها وعنفها، فهي ستسامحه بعد أن يتلفظ بتلك الكلمة"، هل تتفقون/ن مع المخرجة السويسرية؟
وتقول الأخصائية الاجتماعية إن هذا الفيلم قد عالج في محتواه العديد من القضايا والظواهر التي يعيشها المجتمع، ونقلها بكل مصداقية وإتقان، لدرجة أن المشاهد للفيلم يستشعر تفاصيله وصدقه.
نجد كذلك المسلسل الدرامي "كيد الزمن" الذي بُثّ هو الآخر على الشاشة الجزائرية الصغيرة في رمضان من سنة 2000، تلعب فيه دور البطولة الممثلة القديرة جميلة عراس، التي جسدت دور فتاة تقع في الحب، ثم تصطدم بواقع العادات والتقاليد المجحفة والفوارق الطبقية كونها من أسرة فقيرة، ثم تتعرض للعنف من طرف الأخ الأكبر، لتضطر إلى الهروب من المنزل ثم "الانحراف"، إن صح التعبير، بعد أن تم تضليلها واستغفالها من طرف شبكة إجرامية تتاجر بالمخدرات.
وتؤكد صارة أن هذا العمل الفني قد سلط الضوء على رفض المجتمع لكل أشكال الحب العفيف بحكم الفوارق الاجتماعية بين الأسر، ثم العنف الممارس بشتى أنواعه، الذي أدى إلى نتائج وخيمة راحت ضحيتها تلك الفتاة التي لم تتحمل الظلم.
وتذكر المتحدثة أيضاً فيلم "قنديل البحر" الذي عرض في 2016 بمهرجان وهران، وأثار جدلاً واسعاً لما جسده من تحرر ومعالجة لقضية العنف بأسلوب جريء جداً على عكس ما شهدناه، لكنه نقل لنا واقعة اغتصاب لامرأة متزوجة، حيث تحولت إلى قنديل بحر، وقامت بالانتقام من مغتصبيها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...