منذ الصغر، أجلس قريبةً من التلفاز حتى أستطيع الرؤية بوضوح. وفي الصف الثاني الابتدائي، كنت أيضًا أجلس في الصفوف القريبة من السبورة، لأنّي إذا جلست في أحد المقاعد الخلفية، كنت أنقل بعض الكلمات والأرقام في كرّاستي بشكل خاطئ.
لاحظت أمي هذا الأمر، وأخذتني إلى الطبيب الذي أخبرنا بأنّي أعاني ضعفًا في البصر، ويجب أن أرتدي نظارة طبية. ارتديت النظارة بشكل منتظم خمس سنوات إلى أن تحجّبت. ولاحظت أن مظهر النظارة مع الحجاب لا يُعجبني، فقررت ألا أرتدي النظارة إلا داخل المنزل.
أما الموقف الأكثر إزعاجاً، فكان عندما ألمح شخصاً أحبّه من بعيد، لكنّي أرى صورته متذبذبة.
كان يزعجني عدم ارتداء النظارة في بعض المواضع. مثلًا، كنت أذهب لحضور عرض مسرحي وأجد المقاعد الأولى ممتلئة، فاضطر إلى الجلوس في الصفوف الأخيرة. إذ ذاك لا أستطيع رؤية تعبيرات وجوه الممثلين بوضوح. كذلك الأمر عندما كنت أذهب إلى السينما حيث أعاني عند قراءة الترجمة. أما الموقف الأكثر إزعاجاً، فكان عندما ألمح شخصاً أحبّه من بعيد، لكنّي أرى صورته متذبذبة.
برغم ذلك، لم أفكر يومًا في ارتداء العدسات الطبية لأني أشعر بصعوبة لدى الاعتناء بها، كما أشعر بعدم الراحة في ارتدائها. وفكرت في إجراء عملية تصحيح النظر، ولكن حينما أسأل نفسي "هل بالفعل أريد تصحيح نظري؟" لا أجد إجابة قطعية عن السؤال.
فكما هناك مواقف تزعجني فيها عدم الرؤية بوضوح، كذلك هنالك مواقف أخرى أحمد الله فيها على أنّي لا أرى جيدًا.
هوس النظر في المرآة
أنا شخص يحب النظر في المرآة كثيراً، ولديّ هوس بإنقاص وزني وخوف من أن يزيد بطريقة خارجة عن السيطرة. لذا، أقف كثيرًا قبالة المرآة وأنظر إلى جسدي، واسأل: هل زاد وزني؟ وإذا قال الميزان أن وزني زاد، أدقق النظر أكثر فأكثر لأرى ما إذا كانت الزيادة ملحوظة.
وأما عن وجهي، فمثل كثير من الفتيات، أقف قبالة المرآة وأتفحّصه بعناية لأرى ما ظهر عليه من حبوب جديدة أو للتأكد من أني انتهيت من نتف حاجبيّ بشكل صحيح. وبدون نظارة، لا تكون هذه التفاصيل واضحة مئة في المئة، بل بالعكس، أتغافل كثيراً عنها بسبب رؤيتي غير الواضحة للأشياء، مما يُثلج قلبي ويجعلني أهبط إلى الشارع بارتياح.
يقولون إنّي اجتماعية وبإمكاني الحديث بشكل جيد أمام حشد من الناس، ولكنّي في الواقع أخشى الأمر كثيراً حتى أنّي كدت أرفض أخيرًا مناقشة كاتب أحبّه بسبب خجلي من الحديث أمام الناس. ولكن كانت فكرة أنّي لا أرى الناس بشكل واضح تطمئنني، فانطلقت في الحديث
أمان زائف
عندما أهبط إلى الشارع دون نظارتي الطبية تصبح لدي صورة للأشياء غير واضحة، وبخاصة للبشر. بمعنى آخر، لا ألاحظ تفاصيل المارّين بجانبي أثناء السير، ولا أرى نظرة هذا الرجل الذي يتفحص جسدي، ولا أستمع إلى الكلمات البذيئة التي تُلقى في وجهي من رجال آخرين فتعكر صفو مزاجي طوال اليوم. فغالباً ما نسمع ممن يرتدون النظارات الطبية الجملة التي تضحكنا عند سماعها: "دعوني أرتدي النظارة أولاً حتى أسمعكم". بالفعل، دون نظارتك الطبية تشعر بأنّ جميع حواسك تعمل بكفاءة أقل. ولأنّي منذ سنوات اعتدت عدم ارتدائها، صرت أستطيع التواصل دونها. وحتى عبور الشارع في مكان ليس فيه إشارة مرورية يكون أقل وطأة دون نظارة لأن الأشياء عندما لا تبدو واضحة تماماً من الصعب أن تكون المشاعر حقيقية تجاهها. لهذا، حين أكون رفقة صديقاتي، أنا التي تأخذ دائماً الخطوة الأولى لعبور الشارع.
يقولون إنّي اجتماعية وبإمكاني الحديث بشكل جيد أمام حشد من الناس، ولكنّي في الواقع أخشى الأمر كثيراً حتى أنّي كدت أرفض أخيرًا مناقشة كاتب أحبّه بسبب خجلي من الحديث أمام الناس. ولكن كانت فكرة أنّي لا أرى الناس بشكل واضح تطمئنني، فانطلقت في الحديث.
نسمع ممن يرتدون النظارات الطبية الجملة التي تضحكنا عند سماعها: "دعوني أرتدي النظارة أولاً حتى أسمعكم". بالفعل، دون نظارتك الطبية تشعر بأنّ جميع حواسك تعمل بكفاءة أقل.
الإبصار هو النهار والألوان الفاقعة
بالقياس نفسه الذي قد أحب فيه أن يكون بصري قوياً في بعض الأوقات، وأحمد ضعفه في أوقاتٍ أخرى، أحب كذلك النهار والضوء في مواضع بعينها وأكرهها في أخرى.
في الأساس، أنا كائنة نهارية وأستطيع إنجاز الأعمال أثناء النهار أكثر من الليل، وبخاصة فيما يخص الأعمال الإبداعية. فأنا لا أستطيع الكتابة ليلًا إلا إذا كنت مضطرة فقط. وأحب فصل الصيف أكثر من فصل الشتاء بسبب شمسه الساطعة. لستُ ممّن يحبون أجواء الشتاء التي تجعل النهار يشبه الليل. وعند مشاهدة الأفلام، أحبّ تلك التي تُصوّر مشاهدها في النهار، والتي تحضر الألوان فيها، حتى لو لم تكن الألوان فاقعة. لا أحب المشاهد ذات الإضاءة الخافتة إلا فيما ندر، ربّما لأنها تشبه بصري الذي يمنعني من الرؤية السليمة.
في الظلام
أحب القاهرة ليلًا ونهارًا، ولكن يزداد حبّي لها ليلاً. فالظلام مثل ضعف البصر يحجب رؤية أشياء وأفعال وضيعة تحدث ولا نحب أن نراها، وبخاصة في الشوارع. وأعتقد أن الصورة الوحيدة الجميلة للقاهرة لا تظهر إلا ليلًا.
مثلما أحبّ النوم في الظلام الدامس، لن يمكنني إقامة علاقة جنسية سوى في الظلام، أو على الأقل في إضاءة خافتة
ومثلما أحبّ النوم في الظلام الدامس، لن يمكنني إقامة علاقة جنسية سوى في الظلام، أو على الأقل في إضاءة خافتة. وبعكس ما قلته سابقاً عن أن الإنسان لا يمكنه تكوين مشاعر حقيقية تجاه شيء غير واضح، فإنّ هذا هو الموضع الوحيد الذي يمكنني فيه الإحساس بمشاعر حقيقية دون الحاجة إلى النور أو الإبصار. لهذه الأسباب أحمد الله أيضًا على خلق الظلام مثلما أحمده على ضعف بصري.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...