نشبُّ على ماكينة الخطاب الأبوي البخارية، في مجتمعات تحثّ الصبية على أن يكونوا بمعزل عن العاطفة، مستنكرةً حاجاتهم النفسية، فتضرب بيد من حديد إذا ما رأتهم يشذّون عن سراط الذكورة. وإن غابت سماتُ الخشونة والشدة عن طباعِ طفل فكأنما غاب عنه ما يمايزه عن الأنثى، وكأنما لا وجود لرجل دون تكوين سيكولوجي وفيزيائي مسبق، يناقض كل سمة باطنية وظاهرية يمكن لفتاة أن تتسم بها أنوثتها.
لولا أني منذ الطفولة أميل للوحدة لكانت أيام مراهقتي كلّها محاولات لإقناع المجتمع بأني "ذكر" بما يكفي لمحق كل سلوك رقيق في شخصيتي.
هكذا تنظر مجتمعاتنا للهوية الجنسية من منظور بيولوجي تقليدي، رافضة كل حوار ومفترضة أن الرجولة قالب تصكه الهرمونات، متجاهلة عملية التكوين النفسانية والاجتماعية والأسرية المعقدة، مستعيضة عنها بالكليشيهات ذات القطبين المتباعدين والمتضادين باستمرارية عمياء. فعلى الأطفال أخذ صكّ الهوية الذكورية هذا مرّة واحدة، من الأب والمعلّم والجار والمجتمع. فيُرسل الأطفال إلى ورشات الرجولة، وتُجنّد كل الوسائل لنحت صورة الرجل الكلاسيكية في جوف عظامهم الغضّة، بدءاً من المناهج التربوية الأصولية التي تأخذ شرعيّتها على يد الآباء والمعلّمين، الذين يُحمَدون على أسلوبهم إذا ما نالوا، بعنفهم اللفظي والجسدي، من ذات الأطفال، بغية جعلهم رجالاً أشدّاء، ومروراً بأحاديث الجيران البراغماتية عن الرجل "الحمش" ذي "الدم الحامي"، الذي يستنسخ بدوره المجتمع، محوّلاً إياه لمسرحٍ دموي تتقاطع وتتسلسل فوق خشبته أمجاد التّعنيف "العفيف"، ثم انتهاء بالثقافوية عند الروايات الملحمية، بدءاً من نزال جلجامش مع الثور السماوي الهائج، وحتى شخصية الرجل الهوليوودية ذي القلب الميت، الذي يملك كل شيء تحت السيطرة، في مشاهد يعتليها العنف الذكوري كفعل مشروع لا يمكن للخير أن يُحصّل من دونه.
بعدسة: أيهم مليشو
مكثت في سنوات مراهقتي طويلاً تحت وطأة فوبيا عدم القدرة على إتمام الاختلاف الظاهري التام بين القطبين، فوجدت نفسي في سعيٍ مستمر لأدخل "مصنع الذكورة" وأُثبت أني ذكر، كذاك الذي تغنّى به المعلمون في الصفوف الابتدائية حين ضربونا بالعُصيّ البلاستيكية على أكفنا، وزادوا ضرباً كلّما بكينا، وقالوا:
"خليك رجال ولا تبكي متل النسوان! أنتَ الرجل في البيت! امشي مثل الرجال! احكي مثل الرجال!
كُن رجلاً ولا تقل يوماً أنك تعبتَ أو خِفتَ أو رقّ قلبكْ! كُن رجلاً وصاحب ألف صبية وتزوج مَن لم تصاحب يوماً أحداً!
كُن رجلاً واغسل شرف العائلة والأمة والدين! لا تبكِ، لا ترأفَ! اضرب وكن قاسياً وفظاً وخشناً كالرجال!
كُن رجلاً وسيطر على رغباتك ومشاعرك وسلوكياتك الرقيقة المؤنثة، ومن الأفضل لو استطعتَ محقها تماماً!".
وجدت نفسي في سعيٍ مستمر لأدخل "مصنع الذكورة" وأُثبت أني ذكر، كذاك الذي تغنّى به المعلمون في الصفوف الابتدائية حين ضربونا بالعُصيّ البلاستيكية على أكفنا، وزادوا ضرباً كلّما بكينا، وقالوا: "خليك رجال ولا تبكي متل النسوان!"
جمل كهذه تُستعمل في اللغة العربية لبثّ الانضباط شديد القسوة في أنفس الصّبية ومكافحة "الانحلال الاصطلاحي" ضد هويتهم البيولوجية. لطالما فتكت هذه الجمل بي وبأصدقاء كثر، ظلّوا إثرها في حرب داخلية شعواء لإثبات رجولتهم، بطرق عدوانية غالباً، دمّرتْ ما حولهم ودمّرتهم، ظناً أنهم سيجدون معها ما يشفي عقدتهم.
ولولا أني منذ الطفولة أميل للوحدة لكانت أيام مراهقتي كلّها محاولات لإقناع المجتمع بأني "ذكر" بما يكفي لمحق كل سلوك رقيق في شخصيتي، وبأني ذكر بما يكفي لأنهال على أختي -التي تكبرني بعامين- بالضّرب، فقط لأني شاهدتها تحدّث رجلاً غريباً، وأني ذكر بما يكفي لأحكي لشلّة الصبيان عن الفتيات اللاتي قابلتهن كأن جميعهن "شراميط"، أو أن أدخل عراكاً "مُخيّمجيّاً" ولا أخرج منه دون "تشطيب".
ثم أيقنتُ أن لعبارة "أنتَ لست رجلاً حقيقياً" وقعاً مختلفاً عن عبارة "أنتِ لستِ امرأة حقيقية"، وأن كليهما تختلفان جذرياً عن بعضهما فيما يتركان من أذية، ذلك لأني –ولحسن الحظ- رأيت باكراً الكثير من النساء اللاتي يفتخرن بامتلاكهن خصالاً خشنة، يتحدين المجتمع بسحب تلك الصفات من بوتقة الذكورية، وجعلها صفات تتحلّى بها النساء المستقلّات أيديولوجياً واقتصادياً وجنسياً عن لبلابة الرجل، ليحرّرن رقابهن من النظام الأبوي الذي يفتك برجاله كي يفتكوا بنسائه.
إلى جانب تعنيف الزوجة والأخت والابنة، يكون تعنيف الرجل للرجل الآخر استراتيجية أدائية، يتبنّاها من يرى رجولته مهددة، في مجتمعٍ أحد أهم أدوات سلطته الذكورة المهيمنة التي لا تقبل إلا بسياسة القضيب الواحد.
في حين أن العبارة الأولى "أنتَ لست رجلاً حقيقاً" أشدّ وطأة وأذى على الصبية والمراهقين، فلا طفل يريد أن يبكي أمام رفاقه كيلا يُنعت بالـ "حريمة"، ولا طفل يريد أن يلعب مع البنات أو يجرّب أدوات التجميل كيلا يُطرَد من شلّة الصبيان، ويتّهمه الأهل بخَللٍ في رجولته، ولا أخ يريد أن يعترف أمام أبيه أن له صديقة أيضاً مثلما لأخته صديقاً، وأنه لذلك لا يجد سبباً لملاحقتها وتأنيبها وتعنيفها، لكنه رغم ذلك يلاحقها ويؤنبها ويعنّفها، ليس خوفاً من أبيه، بل من ذات ذكورته التي تعشّش مع الوقت والعادة في اللاوعي.
أما إشارة سن البلوغ الخضراء، فتبدأ بالإضاءة عندما يبدأ الطفل بملاحقة أخته وأمه وكل بنات عائلته "على الدعسة"، محولاً مستقبلهن التعليمي والمهني والزوجي، وشعرهن وجلودهن وأصابعهن وآذانهن وألسنتهن، إلى شرف، يصير هو صاحبه بين ليلة وضحاها. وكأن مصنع الذكورة هذا هو الطريق الأكيدة لصبية مجتمعاتنا كي يعبروا به سراط المراهقة الجهنمي، تحت وطأة مجتمعٍ ورث الذكورة مع سلطة بلاد فاشية، فلا يفكّ يجلد مراهقيه ويبثّ في أدمغتهم كل تطرّف معياري ولغوي حتى يبدؤوا بجلد أخواتهم، فإذا صار الطفل رجلاً ثمّ أباً، أعاد صُنع ما صُنِع به وقال: "بل نتبعُ ما ألفينا عليه آباءنا"، وبأن هذا ما صنع منا رجالاً يتحدّون فوضى الحياة الظالمة، في وطن تعلموا بأن يضحوا بأجسادهم وعمرهم كمحاربين لأجله، وأن يتحلوا بالرجولة التي تميّزهم عن "الجماعات المنحطة أخلاقياً"، كالرجال الليبراليين جنسانياً، وغيرهم من المنشغلين جداً بأنفسهم، بحيث لا يكرسون شهواتهم وأجسادهم للوطن والذكورة والدين والأمة.
بعدسة: أيهم مليشو
للهوية الذكورية الجمعية مزاياها كدحض خوف الرجال من الوحدة التي تأتي لو فقدوا دورهم في الهرم الجنسي التقليدي، الذي يشكّل عمق وقرار ثقافة ينكرون كونهم رجالًا بدونها، فيُنبذ الشبان الذين كبروا في بيئة خلت منها السلطة الأبوية أو سلطة الأخ الكبير، لأن الآخرين الذين شبّوا على سِياطها وبَلطاتها، هم وحدهم من يستطيعون أن يطبّقوا سُنتها، ليعيشوا تفوّقهم "المُفتَرض" جنسياً واجتماعياً على النساء، كما على رجال آخرين تمّ إسقاطهم من الهوية الذكورية، لإظهارهم سلوكيات لا تأبه بما هو "صحي" بالمعنى المتعارف عليه، ضمن أيديولوجيا الذكورة.
في ظلّ القيم الأسرية المحافظة، وفي المجتمع المتطرّف بقوميته، تم تلقيننا العنف صغاراً، أنا وأنت وهو، ومن لم يستطع إخراج نفسه من تلك المدارس ظلّ طيلة حياته –حتى وإن ردعته ذاته الأخلاقية عن العنف- ظل مهيأ في لاوعيه لأن يضطهدَ ويعنّف ويتحرّش بالنساء، وأن يُهين ويستهين وينظر بدونية، أوتوماتيكياً، لكل رجل يطبق الانحلال الحدودي بين الأنوثة والذكورة.
في ظلّ القيم الأسرية المحافظة، وفي المجتمع المتطرّف بقوميته، تم تلقيننا العنف صغاراً، أنا وأنت وهو، ومن لم يستطع إخراج نفسه من تلك المدارس ظلّ طيلة حياته –حتى وإن ردعته ذاته الأخلاقية عن العنف- ظل مهيأ في لاوعيه لأن يضطهدَ ويعنّف ويتحرّش بالنساء
للعنف على مر التاريخ وظائفه التأسيسية أو التدميرية على حد سواء، ولست هنا بصدد خلق عالم يوتوبي يتجاوز واقع عالمنا ولعنتنا فيه، لعنة قابيل وهابيل. لكني أريد أن آخذ العنف الوحشي ضدّ المرأة في عالمنا العربي، ليس كظاهرة عنف ضدّ المرأة في أي مكان في العالم، بل كتطبيق مشروع ومباشر للقيم "المُخلقَنة" التي تحمّلنا إياها الأسرة والدين والسلطة والمجتمع، فيطبعها المعلمون فوق جلودنا بالخيزران والمساطر الحديدية، لتعمل في نفوسنا كمرشد معياري لكل ما يشكل الذكورة الحقيقية.
يرافقنا هذا المُرشد كي نقدر على التمييز بيننا وبين المرأة، ولنستطيع تفضيل أنفسنا عليها بنكران كل المشاعر والسلوكيات "المؤنثة" و"الفاضحة": كالرّقة واللطافة والليونة والرهافة، إلى حدّ احتقارها أيضاً، في وجوه رجال يهددون هوية الذكورة الجمعية. فمن تناقضات الذكورة في عالمنا العربي أن صورتها المهيمنة لا يحققها في الواقع أي فردٍ بذاته، أي أنها ليستْ خاضعة بأي شكل لإرادته، بل يتم تحقيقها فقط بشروط الجمع التبعي، كجزء لا يتجزأ من نُظُم القطيع، سياسياً أو دينياً على حد سواء. فالرجل العربي ما هو إلا جزء من مجموعة ذكورية منظمة، يفكّر قبل كل شيء بما يُرضي شرائعها وعادتها، وحتى لو امتلك الرادع الأخلاقي داخلياً، سيُجبر نفسياً على المشاركة في أفعال مجموعته، التي لا تتعدى كونها عملية ديناميكية، يناقض الرجل نفسه فيها عندما يقوم فعلياً بالقضاء على سلطة ذاته الأخلاقية، فترى أباً يقتل ابنته بدم بارد ثم يجلس ليشرب الشاي، فيصهر بذلك رجولته ويصبّها في الهوية الجمعية، متجاوزاً ذاته كإنسان وأب ورجل حر.
من تناقضات الذكورة في عالمنا العربي أن صورتها المهيمنة لا يحققها في الواقع أي فردٍ بذاته.
لجرائم التّعنيف وجهها الآخر الذي لا يقوم على التّمايز الراديكالي في قطبي الجنس فقط، وإنما على فكرة مبارزة الذكورة أمام ذاتها، وكأن العنف هو احتجاج الذكورة على هويّتها الجمعية. فإلى جانب تعنيف الزوجة والأخت والابنة، يكون تعنيف الرجل للرجل الآخر استراتيجية أدائية، يتبنّاها من يرى رجولته مهددة، في مجتمعٍ أحد أهم أدوات سلطته الذكورة المهيمنة التي لا تقبل إلا بسياسة القضيب الواحد. بذلك، وعندما تُهان صورة الفرد الذكر في بلاد القائد الواحد/ أو القضيب الواحد، يفرّ الذكر الصغير من الذكر الأكبر، لتعنيف المرأة ونَحرِها، مُرمِّماً أيقونة الذكورة المجروحة فيه، بمجرّد الوصول لنشوة السيطرة، للتلذّذ بإخضاع القطب الأضعف وإذلاله، مخفياً ذلك خلف تسميات أصولية كالغيرة والشّرف والعرض، فلولا ذلك لظلت ذكورته فارغة وعديمة.
بتعنيف المرأة والاغتصاب يوهِم الرجل الذكوري نفسه بانتصاره -على الأقل في سريره- ضدّ حرب الإذلال التي يخسرها في حياته اليومية، أمام ذكور مجتمعه الأكبر في الأسرة والدولة، لضمان هويته والحفاظ على نرجسيّته الذكورية الهشّة، مُكملًا بذلك دورة سياسية القضيب الواحد، تحت حكم نظام القائد الواحد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...