لم يكن الأدب هو الذي دفعني هذه المرة للتفكير في "المحرر الأدبي"، بل الدراما الشعبية. تلك الدراما التي ليست مطالبة اليوم في الغالب إلا بالتسلية، مهما كانت جهتها الإنتاجية.
في الحلقة الأولى من المسلسل التركي "المتخفي"، وهو مسلسل شعبي فاجأني فيه الحديث عن المحرر الأدبي وبرناردشو، والاشتغال الكبير على كتاب الأمير الصغير، والحديث عن إكراهات عالم النشر والكتاب الإلكتروني ومنصات بيع الكتب والرواية المصورة، واستدعاء تقنية تعدد الأصوات في الإخراج، كل ذلك في حلقة أولى.
وبعيدا عن تقييم العمل التلفزيوني، شدني خاصة الحديث عن المحرر الأدبي وأهميته وضرورته في حياة الكاتب، وتذكّرت ما يجري في عالمنا العربي، فنحن عندما يتحدّث كاتب منا عن الموضوع يضحك منه الكتاب أنفسهم. يوم طرح الروائي الجزائري الإيطالي، عمارة لخوص، الموضوع منذ أكثر من خمس عشرة سنة بالجزائر، نهض بعض الكتاب واحتجوا. قيل وقتها إن الكاتب العربي ينظر إلى نصه كما ينظر إلى زوجته، يرفض أن تمتد يد أخرى إليه.
ضمن هذه الثقافة الشعبية، التي تقدمها الدراما التركية والسينما العالمية التي تتحدث عن المحرر الأدبي بلا أي حرج، ولا تفكّر في مدى تقبل المتلقي العادي لها وفهمها، ظهر أورهان باموق وأليف شافاق، وجاءت نوبل للآداب إلى تركيا. وهكذا تتسرب المعرفة للناس بكل طبقاتهم ويقع الارتقاء بالذوق العام والمعرفة العامة.
الصورة البائسة للمحرر الأدبي في مشهد النشر العربي تؤكد أن الناشر العربي لا يؤمن بوظيفة المحرر الأدبي
الثقافة العربية الشعبية وإنتاج المعرفة
يمثل الكتاب عنصراً أساسياً من ديكور أي عمل سينمائي أو درامي أجنبي، فالمكتبة ليست جزءاً من أثاث البيت، بل صارت جزءاً من مكونات الشارع، عبر ما يسمى بسلسلة "المكتبات المجانية الصغيرة" التي يزرعها السكان في كل حي لتبادل الكتب. بينما صارت الكتب في أعمالنا نادرة، وشيئاً من الفانتازيا، وإن ظهرت تجد الممثل يمسك بمجسم لكتاب مزيف ويقرأه بالمقلوب، وهناك عقدة عربية أخرى ألا يكون الكتاب باللغة العربية.
إن هذا التغريب للكتاب يجعله شيئاً غريباً عن المكان الحميم، أو تقع السخرية منه ومن مؤلفه، كما يحدث دائماً مع صورة الشاعر في الدراما العربية المقترنة بمثال الفاشل، لا يمكن أن ينتج هذا إلا شعوباً متخلفة وحشوداً هائمة على وجهها.
لسنا بحاجة في وضعنا هذا أن نذكر بفيلم عبقري للمخرج البريطاني مايكل جرانداج، وقصة المحرر ماكس بيركنس، ولا للاستشهاد بكبار المحررين الذين صنعوا نجوم الأدب، فيمكن لهذه المعلومات التي صارت فلكلورية أن تجدها بسهولة، بل نحن بحاجة إلى تشخيص وضع أدبنا وفننا ومعضلاتهما، ووعينا وأزمته.
هناك واقع اسمه أزمة نص وأزمة ناشر وأزمة رؤية، فهل هي مصادفة أنه زمن دراما نجيب محفوظ ويوسف إدريس وإحسان عبد القدوس وأسامة أنور عكاشة، والسينما التي تتحدث عن صامويل بيكيت تحصّل للعرب على نوبل للآداب؟
في فيلم "الخائنة" من إنتاج سنة 1966 وإخراج كمال الشيخ، عن قصة لإبراهيم الورداني وسيناريو عبد الحي أديب، وقف الفنان عمر الحريري والفنان محمود مرسي، يناقشان نظرية صاموئيل بيكيت في الموت والحياة والعبث قرابة الثلاث دقائق، قدما فيها بشكل مبسط وراق جداً عالم بيكيت المعقّد وآراء الناس فيه وفلسفته.
إن مشاهدة هذه الدقائق من الفيلم لا تجعلنا نتساءل أين ذهب كل ذلك الوعي الجماهيري الذي توجّه له ذلك الفيلم، بل تدفعنا للتساؤل: كيف ستكون ردة فعل منتج سينمائي اليوم أو مخرج معاصر وهو يقرأ هذه الصفحة في سيناريو معد للإنتاج؟
لا يتعلق الأمر بسينما السبكي، وحدها بل بالسينما العربية برمتها.
هناك واقع اسمه أزمة نص وأزمة ناشر وأزمة رؤية... كمال الرياحي يكتب عن التحرير الأدبي وإنتاج المعرفة في العالم العربي
يبدو أن هذا الوعي الراقي استمر حتى التسعينيات مع عمالقة مثل محمود مرسي، ليعاد في الدراما التلفزيونية مع "رحلة السيد أبو العلاء البشري" والتي يلعب فيها أسامة أنور عكاشة لعبة تناص معلن قوي مع أعظم روايات العالم "دون كيخوته" لميغيل دي سيرفنتس، ولكي لا يدع مجالاً للشك، يجعل من لوحة دون كيخوته على حصانه الهزيل، ماسكاً برمحه المكسور ودرعه القديم على كامل جينيريك المسلسل.
يصف محمد وفيق محمود مرسي في احدى الحلقات بدون كيشوت فيقول له :" بقيت في النهاية صورة من دون كيشوت الي بيحارب طواحين الهواء ، أيوه دونكيشوت، وديت كل الي حواليك في داهية"، ولا تكاد الكتب تغيب عن حلقة من حلقات المسلسل، فهي تزين غرفة البطل ومكتبه وكثيراً ما فتح موضوع القيم والكتب في المسلسل، ليظهر الكتاب شخصية أساسية في العمل الدرامي.
إن الثقافة كل لا يتجزأ، لذلك انحطاط الدراما العربية اليوم والمسرح والسينما والفن التشكيلي والفكر ما هو إلا وجه من وجوه انحطاط كل شيء، الذي ينعكس أيضاً على الأدب وما يعيشه اليوم من فوضى تحت سطوة الجوائز المليونية المشروطة، فالثقافة عندما تزدهر تزدهر في كل أنواعها ويزدهر معها الإنسان، وعندما تنحط تنحط بالكامل وينحط معها الإنسان.
الحاجة للمحرر الأدبي
عندما يترك نصه الذي انبهر به البارحة إثر كتابته، ويقرأه بعد يومين، يجد نفسه يحرر ويهذب الكثير منه. هذا سلوك الكاتب، لأنه تغير بعد يوم وصار آخر. الهويات، بما فيها هوية الكاتب، متحركة ومتغيّرة، وتغيرها ذوقي وفكري وإدراكي، فما بالك بعين أخرى لا تمت للنص بصلة، ولا تحمل تجاهه أي عواطف. يستعين الكتاب بعيون الآخرين لأن عيونهم مهما ادعت الحياد تبقى متعاطفة، والعاطفة شكل من أشكال العمى.
ونحن في النهاية كلنا محررون ونحن نقرأ أعمال غيرنا، ونتحدث عن ضعف رصدناه في مواطن معينة وقوة في مواطن أخرى.
إذا اتفقنا أن الكتابة صناعة واحتراف، فيجب أن نخلق شيئاً فشيئاً عناصرها، ووجود محررين متواضعين في مشهد النشر العربي أفضل من عدم وجودهم، فالعملية أشبه ببطولات كرة القدم، لا يمكن أن تطلق بطولة محترفة مباشرة قبل أن تمر بمرحلة الهواية.
بعض البطولات التي اعتمدت على المال واستقدمت مدربين كباراً وأنشأت ملاعب عظيمة لم تصبح محترفة، لأن العنصر الإبداعي المحلي، وهو اللاعب، لم يصل لمرحلة الاحتراف، ولم يمر المشهد الكروي بالتطور الطبيعي.
نحن نحتاج خطط احتراف وعناصره من محيطنا الخاص. لا يمكن أن تنجح في استقطاب محرر أدبي عالمي لكاتب عربي ضعيف مثلاً وتريد أن تصنع منه كاتباً. لو كان هذا ممكناً لأصبح لدينا كبار الكتاب، فالعالم العربي يدفع بسخاء من أجل الشهرة، حتى أن دولاً وحكومات تدفع أموالاً طائلة من أجل ترجمة أدبها المحلي الضعيف، وتقوم بإغراء دور نشر أجنبية كبرى لنشر أعمالهم. أحياناً تنشر تلك الأعمال ولا تروج لها تلك الدور كما تروج للكاتب المحترف والحقيقي، لأنها ما قبلت نشرها إلا من أجل المال وللخروج من أزماتها الاقتصادية.
نحن بحاجة إلى المرور في تعاملنا مع نصوصنا، من مرحلة "إبداعي الخاص" إلى حالة النص، كما يمر الجسد الخاص إلى مرحلة الجسم أمام الجرّاح. الجرّاح لا ينظر إلى جسدك إلا باعتباره مجموعة من الخطايا الغذائية والسلوكية، وعليه أن يقوّم عظامه ويخلصه من شحومه.
قد تكون معجباً بانحناءة تذكرك بانحناءة أمك، لكن الجرّاح لا يرى أمك في حساباته العلمية، قد تكون معجباً بكرش تذكرك بكرش أبيك، لكنه لا يرى أباك، هو يبحث عن الجسم المثالي.
المحرر الأدبي والعالم العربي
سنة 2020، سألت ياسمينة خضرا نفسه في جلسة خاصة عن محرره، وكان معنا بعض الصحافيين ومسؤول كبير في الدولة؛ وزير ثقافة، فاستشاط غضباً: "مستحيل واحد يمس حرف من روايتي". كان الوضع لا يسمح بمجادلته والتعمق في الموضوع، وتفهمت أن الكاتب كان يتحدّث بتونس، ويعلم كيف ينظر المشهد الأدبي العربي إلى صورة المبدع، فهو المعادل الموضوعي للنبي الذي يتلقى الوحي من السماء، ويسميه، تواضعاً، إلهاماً، وله رسل تأتيه به مُنَجَّماً ويسميها، تواضعا أيضاً، "شياطين" شعر ونثر.
وكان ياسمينة أيضاً يعلم أن من يجلسون معنا خاليي الذهن من واقع صناعة الكتاب بالعالم، ولذلك كان مستعداً للحديث عن تاريخه العسكري واختلاق البطولات على أن يتحدث عن عالم صناعة الكتابة، فما بالك بمشاركتها مع الآخرين.
من هو المحرر المطلوب اليوم؟ هل هو ذلك المنخرط عاطفياً في تيار ما، إيديولوجي أو سياسي أو ثقافي؟ هل هو المتعصب لغوياً؟... الكاتبة والمحررة في العالم العربي
وهذا يجرنا إلى صورة المحرر: من هو المحرر المطلوب اليوم؟ هل هو ذلك المنخرط عاطفياً في تيار ما، إيديولوجي أو سياسي أو ثقافي؟ هل هو المتعصب لغوياً؟
فساد المحرر
إن المأساة الحقيقية في مشهد النشر العربي أن الناشر يتحوّل إلى محرر بقدرة قادر، أو يهب هذه المهنة لصديق عاطل عن العمل، ويختزل مهمته الأساسية في أن يتحمّل كتابة ردود رفض النصوص، ليبقى الناشر بعيداً وتبقى علاقته مع الكتّاب جيدة، والحق أن من أصدر قرارات الرفض هو الناشر نفسه وليس المحرر. وهكذا يذكّرنا المحرر الأدبي في العالم العربي بـ"الشيّال" في السينما العربية، وهو ذلك العامل المسكين الذي يدخل السجن بدلاً عن صاحب العمل إذا ما تورط في قضايا خارج القانون، مخدرات أو جرائم قتل.
يذكّرنا المحرر الأدبي في العالم العربي بـ"الشيّال" في السينما العربية وهو ذلك العامل المسكين الذي يدخل السجن بدلاً عن صاحب العمل إذا ما تورط في قضايا خارج القانون، مخدرات أو جرائم قتل
إن هذه الصورة البائسة للمحرر الأدبي في مشهد النشر العربي تؤكد أن الناشر العربي لا يؤمن بوظيفة المحرر الأدبي، لذلك لا يسعى لتوظيف محررين محترمين، لهم شخصياتهم ويمكنهم ترك الدار إلى أخرى إذا لم يلتزم الناشر بالعقد المبرم بينهما، والذي عليه أن يتضمن أمرين مهمين، الأول معنوي متعلق بحرية المحرر وعدم التدخّل في عمله، والتزام الناشر بما سيمرره له، والثاني البند المادي المتعلق بدفع مستحقاته كمحرر أدبي.
لقد تحولت عملية إصلاح النشر إلى جزء من فساد عالم النشر العربي.
إن ظهور بعض المحررين الأحرار في دور نشر لبنانية ومصرية خاصة أمر مشجع وعلينا أن ندعمه وأن تحذو الدور الأخرى حذوه. الغريب أن تلك الدور التي استعانت بمحررين هي دور في أغلبها حديثة أو متجددة، بينما ظلت الدور العريقة تشتغل بطريقة كلاسيكية، وتكتفي بالمصححين اللغويين، إن وجدوا في أفضل الحالات. فهل نصل إلى اليوم الذي سيدفع فيه الكاتب نصه إلى دار النشر لأنه يثق في محررها، أم سنظل مع كاتب يدفع كتابه إلى الدار دون أي استعداد للمساس به أو العمل عليه من جديد مع أي شخص آخر؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.