19 عاماً مرت منذ التاسع من نيسان عام 2003، وإعلان الولايات المتحدة انتهاء عمليات "تحرير العراق" من ظلم نظام صدام حسين، وإعادة توجيه البلاد نحو فضاء الحرية والديمقراطية اللتين صاحبتا الدعاية لعملياتها في العراق.
لم يعرف العراقيون معنى الديمقراطية فعلياً، أو لم يعيشوها. حياتهم أيام النظام السابقة، كانت مقيَّدةً بالخوف. الخوف من كل شيء: من الخوض في السياسة وشؤونها، ومن الحديث فيها حتى، ومن إبداء الرأي من الاعتراض. خوف داخل المنزل وخارجه في عصر مخابراتي بامتياز، الوشاة فيه قد يكونون، أو الأرجح هم، أبناء عم أو جيران أو أصدقاء العمر، وربما حتى أفراد العائلة أنفسهم.
اعتقد المهندس أحمد الشمري (55 عاماً)، أنه في مكان يستطيع فيه أن يقول ما يريد من دون أن يخاف من غدر. لعن رئيس الجهورية وما يجلبه من ويلات على العراقيين، ولم يكن في مأمن. بعد تلك الحادثة وجد نفسه في الزنزانة رقم 18 في الجناح السياسي من معتقل "أبو غريب". زنزانة لا تزال تطارد أحلامه بظلامها وقسوة سجّانيها، فالنظام السابق قد حرّم المساس باسمه وأسماء عائلته، كما حرّم التجرؤ على التعبير، أي تعبير.
19 عاماً مرت منذ التاسع من نيسان عام 2003، وإعلان الولايات المتحدة انتهاء عمليات "تحرير العراق" من ظلم نظام صدام حسين
يقول الشمري لرصيف22: "النظام السابق تجاوز تجريم التطرق إلى السياسة، والتجاوز على العائلة الرئاسية، إلى فرض الرقابة المشددة على جميع مفاصل الحياة العامة، إذ قيّد الدراسة والعمل الحكومي بشرط الانتماء إلى حزب البعث الحاكم، وعدّ غير البعثيين مواطنين من الدرجة الثانية أو ما دونها. كنا نُمنع حتى من مشاهدة الستالايت، ولا نقرأ في الصحافة إلا ما تريد لنا أن نعرفه الجهات المعنية".
والجهات المعنية هي قوّات الأمن، التي كانت تتحكم في كل شيء، وتدقق في كل شيء، وهي التي تُقرر ما المحتوى المقبول للمواطن العراقي، وما هو غير مقبول ويُعدّ تهديداً للأمة العربية التي كان يقول عنها الحزب "واحدة ورسالتها خالدة".
ما بعد الغزو
استمع العراقيون إلى خطاب الرئيس الأمريكي آنذاك جورج بوش، بنزعة من الأمل. كانوا ينصتون إليه وهو يقول إنه "آن الأوان لهم لينعموا بالحرية ويتخلصوا من نير الحكام الظالمين"، ولكن الأمل بما اعتقده العراقيون فرصةً لم يستمر طويلاً، إذ سرعان ما اندلعت أعمال العنف والفوضى والاقتتال المذهبي.
في ظل ذلك كله، خاض العراقيون تجربتهم الديمقراطية الأولى، بعد سقوط نظام صدام حسين، من خلال انتخاب البرلمان الأول عام 2005، ولكن هذه التجربة حوّلت حياة العراقيين إلى جحيم، إذ استمرت الوجوه المنتخَبة في مسلسل إهمال المواطنين وتحويل ما اعتقدوه ديمقراطيةً إلى أسوأ مما كان عليه الوضع أيام ديكتاتورية صدام حسين بحسب الشمري، الذي وصل به الأمر إلى الحنين إلى الديكتاتورية "فالحياة التي يعيشها اليوم أشد قسوةً وظلاماً من زنزانته في ‘أبو غريب’".
سياسة تكميم الأفواه وقمع المعارضين هي ميزة النظام السابق التي استمرت مع الحكومة المنتخبة الديمقراطية الجديدة، حسب المتقاعد سلمان عبد، من محافظة بابل، والبالغ من العمر 55 عاماً.
يقول لرصيف22 إن "حرية التعبير موجودة، ولكن تقابلها سطوة أحزاب السلطة ومنع المساس برموز الأحزاب وقادتها وفصائلها، بالإضافة إلى الرموز الدينية والعرقية، بدلاً من تحريم المساس برئيس الدولة فقط"، ما يدفعه إلى وصف الديمقراطية في العراق بالمشوّهة.
يستمر القمع ومسلسل إهمال المواطنين وتحويل ما اعتقدوه ديمقراطيةً إلى أسوأ مما كان عليه الوضع أيام ديكتاتورية صدام حسين بحسب الشمري، الذي وصل به الأمر إلى الحنين إلى الديكتاتورية "فالحياة التي يعيشها اليوم أشد قسوةً وظلاماً من زنزانته في ‘أبو غريب’"
وعاش العراقيون منذ عام 2004، جولات من العنف والاقتتال المذهبي، من خلال الميليشيات المذهبية التي كان أبرزها في سنوات ما بعد الحرب، جيش المهدي وعصائب أهل الحق وفيلق بدر وقاعدة الجهاد وأنصار الإسلام وغيرها، وصولاً إلى الدولة الإسلامية في العراق والشام.
وقدّرت الحكومة العراقية أن نحو 69 ألف مواطن قد راحوا ضحية الاقتتال بعد الغزو، ما بين عامي 2004 و2011، فيما أفادت وثائق نشرها موقع ويكيليكس عام 2010، بأن عدد القتلى منذ بداية الغزو حتى عام 2011، بلغ 109 آلاف قتيل.
القتل المُستمر
لم يتغير شيء منذ الانتخابات الأولى، فحتى وقت قريب طالت عمليات الخطف والاعتقال والقتل الكثير من الناشطين، فضلاً عن المدنيين، إذ شهد البلد إثر الاحتجاجات الشعبية الرافضة للسياسة الحكومية والتي اجتاحت العراق عام 2019، مقتل الكثير من الناشطين المعارضين، مثل الدكتور هشام الهاشمي وفاهم الطائي وإيهاب الوزني، نتيجة انتقادهم النظام والأحزاب السياسية.
كانت آخر هذه العمليات محاولة اغتيال الناشط المدني من محافظة بابل قاسم حسين عبيد، الذي فتح عليه مسلحون مجهولون النار مطلع شهر شباط/ فبراير الماضي، بسبب نشاطه ضد الجماعات المسلحة.
شهد البلد إثر الاحتجاجات الشعبية الرافضة للسياسة الحكومية والتي اجتاحت العراق عام 2019، مقتل الكثير من الناشطين المعارضين
وقُتل في عامي 2019 و2020، أكثر من 600 ناشط مدني في العراق، حسب تقارير منظمة العفو الدولية، وغيّبت الحكومة العراقية إحصائيات هذا الجانب عن الإعلام بعد هذا التاريخ، كما خُطف الكثير من الناشطين المعارضين للسياسة الحالية، مثل السجاد العراقي وعلي جاسب، وهو ما سبّب هجرة كثيرين من الشباب إلى خارج البلد، رغبةً في الشعور بحرية التعبير.
قتل الناشطين وتغييبهم لم يكونا السمة الوحيدة لملامح قتل الديمقراطية في البلاد، بل أدى الخوف من الاغتيال عن طريق الخطأ أو الإصابة برصاصة طائشة، إلى تقييد الحريات الفردية وزيادة خوف العراقيين المستمر على حياتهم في ظل الوضع الحالي.
القانون والديمقراطية
بيّنت عمليات القتل والاختطاف مدى ضعف الدور القانوني في حماية الديمقراطية في العراق، حسب المحامي علاء البياتي، الذي يقول لرصيف22، إن هذا الضعف ناتج عن تناقض الكثير من المفاهيم الدستورية. ويحدد هذا التناقض بأن الدستور قد تكفل بالديمقراطية في مادته الـ38 والتي يقابلها في الوقت ذاته المادة 130 من الدستور نفسه، والتي نصّت على استمرار العمل بالتشريعات القانونية الماضية.
ويشرح البياتي هذه التشريعات بأنها قوانين مجلس قيادة الثورة المنحلّ، والتي تنتهك أبسط أشكال الديمقراطية في أكثر من 15 مادةً، تقيّد حرية النشر والصحافة والتعبير والمساس برموز الدولة، في قانون العقوبات ذي الرقم 111 لسنة 1969.
يتهم الباحث في فلسفة القانون والشؤون الإستراتيجية، معمر الكبيسي، السياسيين بالمساهمة في "قتل الديمقراطية من خلال عدم إكمالهم المشروع الدستوري، خلال الفترة الانتقالية الواقعة بين عامي 2006 و2010، وعدم تطبيق البرلمان المادة 142، والتي تنص على تشكيل لجنة برلمانية تعمل على تعديل الدستور وطرح هذه التعديلات على الاستفتاء الشعبي، بالإضافة إلى استغلال المادة رقم 13 من قانون مكافحة الإرهاب لعام 2005، للإيقاع بالخصوم وتنفيذ أجندات حزبية، بالإضافة إلى التفسيرات المزاجية لبنود الدستور والتي تخدم الطبقة السياسية بعيداً عن المفهوم الديمقراطي".
كل ذلك زاد من الفجوة بين الشعب والسلطة، وجعل الديمقراطية مبدأً مؤقتاً يتلمّسه الناس في الانتخابات حصراً، حسب ما يقول الكبيسي لرصيف22.
ساهم السياسيون في قتل الديمقراطية من خلال عدم إكمالهم المشروع الدستوري، وعدم تطبيق البرلمان المادة 142، والتي تنص على تشكيل لجنة برلمانية تعمل على تعديل الدستور
ضعف القانون وعدم فاعليته في حماية الناس، دفعا بالكثير من المواطنين إلى اللجوء نحو الحلول العشائرية، من أجل حمايتهم أو إعادة حقوقهم، ولكن هذا الجانب يسوده لغط كبير، لا سيما وأن معظم الممارسات العشائرية بعيدة عن المفاهيم الديمقراطية، إذ تتحكم فيها عمليات الثأر والتشهير ومصادرة الأملاك أمام أنظار الدولة، وتالياً فإن الدولة تفتقد أبسط مقومات الديمقراطية التي تدل على قدرة الدولة على حماية المواطنين وإحقاق العدالة والمساواة بين الجميع.
ويعمد السياسيون إلى قطع الإنترنت عن المواطنين، ومنع تداول الأخبار وإيقاف المطبوعات اليومية السياسية والاجتماعية، حال شعورهم بالتهديد، ومثال على ذلك التهديد الذي أطلقته وزارة الدفاع للفنان أياد الطائي، في 5 نيسان/ أبريل الحالي، على إثر مشاركته في برنامج "مع ملا طلال"، وحديثه عن "الجيش العراقي والفساد"، والتي عدّتها الوزارة إساءةً إليها، على الأثر وجهت هيئة الإعلام والإتصالات إيعازاً بإيقاف البرنامج.
دور السياسيين
تتجه أصابع الاتهام إلى السياسيين في عدم تطبيق الديمقراطية في البلاد، إذ ساهمت النخب الحاكمة في القضاء على مبادرات إحياء رونق الحرية في البلاد، بسبب إيثارهم مصالحهم الشخصية على مدى السنوات الماضية. هذا الاتهام يدعمه القطع المستمر لخطوط الإنترنت، واعتقال الناشطين السياسيين.
المواطن العادي غير قادر على الاستعانة بالدولة من أجل حمايته، وتالياً يتجه الناس نحو الأحزاب من أجل حمايتهم
يُرجع الباحث السياسي الدكتور غسان العطية، سبب ذلك إلى "سيادة الطموحات الفئوية والطائفية بعيداً عن الرؤى الوطنية"، ويصف الديمقراطية في البلاد بالزائفة، بسبب عدم قدرة الدولة على بسط نفوذها وتحقيقها، معللاً رأيه بحادثة استهداف منزل رئيس الوزراء وعجزه عن توجيه أصابع الاتهام إلى طرف معيّن من أجل تقديمه إلى العدالة.
وتعرّض منزل رئيس الوزراء الحالي، مصطفى الكاظمي، الواقع ضمن محيط المنطقة الخضراء وسط بغداد، مساء السابع من تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 2021، إلى هجوم صاروخي أطلقته طائرات مسيرة مجهولة المصدر، ألحقت أضراراً كبيرةً بمنزل الكاظمي من دون تسببها بأي خسائر بشرية.
ودلّت هذه الحادثة على عجز الدولة عن حماية نفسها، وتدفع بالعطية إلى القول إن "المواطن العادي غير قادر على الاستعانة بالدولة من أجل حمايته، وتالياً يتجه الناس نحو الأحزاب من أجل حمايتهم، ومن ثم زيادة حالة الانقسام الفئوي والطائفي في البلاد، كبديل عن مفهوم الولاء الوطني".
ويضيف لرصيف22: "هذه الملامح عززت من تمسك الشعب بفكرة الزعيم الأوحد أو القائد الضرورة، والتي تبدو واضحةً في الالتفاف الحاصل حول أسماء بعض العائلات، مثل البرزاني والصدر والحكيم وغيرها، بدلاً عن الالتفاف حول فكرة الديمقراطية أو المشروع الوطني".
يعتقد الناشط المدني سجاد اللامي أن "الجماعات المسلحة أدركت أن الحفاظ على نفوذها مرتبط بقضائها على أبسط مسميات الديمقراطية، من أجل كسب المزيد من الالتفاف الشعبي حولها، لذا تسعى هذه الجماعات إلى تنفيذ عملياتها ضد معارضيها من أجل استمرار وضع البلاد على ما هو عليه".
الأمل الزائف
يكاد الأمل أن يكون معدوماً، إذ من غير الممكن استعادة الديمقراطية من دون إبعاد البلد عن التدخلات الخارجية، وإنهاء دور الميليشيات التي حوّلت البلد إلى مكونات وطوائف، بالإضافة إلى محاكمة المسؤولين وتعديل الأحكام القضائية والقانونية.
مستقبل الديمقراطية مظلم في العراق في ظل عدم إصلاح الأخطاء السياسية السابقة، وبُعد الفكرة الوطنية والديمقراطية، واستمرار الصراعات السياسية
يرى الباحث السياسي غسان العطية، أن "مستقبل الديمقراطية مظلم في العراق في ظل عدم إصلاح الأخطاء السياسية السابقة، وبُعد الفكرة الوطنية والديمقراطية، واستمرار الصراعات السياسية من أجل المناصب بعيداً عن تطلعات الشعب ورغباته، بالإضافة إلى إبعاد البلاد عن التدخلات الخارجية التي جعلت البلد بمثابة حديقة خلفية لدول الجوار".
ومارس العراقيون حقهم الديمقراطي في الانتخابات النيابية الأخيرة التي جرت في تشرين الأول/ أكتوبر من العام 2021، ونتج عنها فوز قوى جديدة، في طليعتها التيار الصدري، مع تراجع نسبي للميليشيات والأحزاب المرتبطة بإيران، ودخول بعض المستقلين ومن نشطوا في احتجاجات تشرين الأول/ أكتوبر 2019، ولكن إلى اليوم لم يستطع المجلس المُنتخَب تشكيل حكومة.
يُذكر أن زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، هو من أنشأ جيش المهدي الذي يُتهم بعمليات قتل طائفية جرت بعد الاحتلال، وهو ينفي ذلك متهماً عصائب أهل الحق التي انشقّت عن جيشه في وقت لاحق.
في انتظار معجزة، يبقى حلم الديمقراطية بعيداً عن العراقيين، وربما لن يعرف من عاصروا النظامين معنى الديمقراطية في ظل استمرار سياسة التخويف والإرهاب وقمع الأفكار المعارضة بين زمنين مختلفين ومتشابهين في آن، ولكنهما متشابهان في تعاملهما مع العراقيين وحقهم الطبيعي في نظام ديمقراطي حديث.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.