يجلس سرمد العبادي (40 عاماً)، ومعه أفراد عائلته في منزله الذي يستأجره في بغداد، وهو يراقب التحولات العالمية بين اندلاع الحرب في أوكرانيا وارتفاع مؤشرات أسعار النفط عالمياً، وبحسرة تلخص حياته يتحدث عن ضياع عمره في أغنى بلدان العالم من دون أن يستطيع أن يمتلك منزلاً لأولاده، أو يضمن وظيفةً مستقرةً تدرّ عليه دخلاً ثابتاً يكفي لسد رمق أبنائه.
يتساءل والد الأطفال الثلاثة عن أموال النفط التي يسمع بها من دون أن يرى منها سوى الجوع والفقر والبطالة، ويقول: "لا أعرف أين تذهب المليارات سنوياً؟ وماذا نستفيد من ارتفاع أسعارها أو انخفاضه؟ أنا أسمع بميزانيات انفجارية خيالية وأحزاب منتفعة ومواطنين مثلي لا يزيدهم ارتفاع أسعار النفط إلا فقراً، فضلاً عن أزمة ارتفاع الأسعار الحالية نتيجة حرب أوكرانيا التي لا ناقة لنا فيها ولا جمل".
وفرة هي الأمثل
ويعيش العراق أياماً مثاليةً من حيث وضعه المالي العام، بالرغم من كل مشكلاته السياسية، والسبب في ذلك يعود إلى ارتفاع أسعار النفط بشكل كبير، والانتهاء من ملف التعويضات الكويتية ورفع سعر صرف الدولار مقابل الدينار، والذي يوفر عائداتٍ للحكومة التي تبيع النفط بالدولار وتوزع الرواتب بالدينار.
وقالت وزارة النفط العراقية في بيان لها إن "مجموع الكميات والإيرادات المتحققة لصادرات النفط الخام للفترة من كانون الثاني/ يناير 2021، ولغاية نهاية كانون الثاني/ يناير 2022، بلغت قرابة 84 مليار دولار أمريكي"، في مقابل ذلك، كانت ميزانية العام الماضي قد أقرّت بمبلغ89.65 مليار دولار وبسعر تخميني لبرميل النفط 45 دولاراً، بينما أخذ السعر بالارتفاع التصاعدي حتى وصل إلى 120 دولاراً للبرميل الواحد وما فوق بعد بدء الحرب في أوكرانيا.
قالت وزارة النفط العراقية إن "مجموع الكميات والإيرادات المتحققة لصادرات النفط الخام خلال عام بلغت قرابة 84 مليار دولار أمريكي
يُذكر أن العراق أقفل ملف التعويضات لدولة الكويت والتي كان يدفعها نتيجة حربه التي خاضها ضد الإمارة الصغيرة عام 1990، وأعلنت الحكومة عن إغلاق الملف وسداد كل ما توجب سداده وهو ما كان يستنزف الموازنة العامة بنحو ملياري دولار سنوياً، وبلغت في مجموعها 52 مليار دولار.
أحلام غائبة
العيش في بلد يصدّر يومياً ما يتجاوز الأربعة ملايين برميل نفط، يعتقد من لا يعرف ما يجري في داخله أن شعبه في أفضل حالاته المعيشية، لكن واقع الحال يختلف كثيراً، فالعراق الغني بالنفط على المستوى العالمي في التصدير والاحتياطات، نسبة الفقر فيه تتجاوز الثلاثين في المئة، أما نسبة البطالة فتتجاوز الـ13 في المئة حسب آخر إحصاء أجرته وزارة التخطيط العراقية، إذ جيش العاطلين عن العمل وكُثر منه يحملون شهادات علميةً، لم يجدوا عملاً بالرغم من كل ما يجنيه البلد النفطي الغني.
يستمع محمد قاسم الثلاثيني إلى ما يُنشر عن صادرات العراق اليومية من النفط وما تجنيه دولته شهرياً من عائدات مالية، فيعتقد أنه مواطن غني في بلد غني، لكن واقع حاله يقول عكس ذلك تماماً.
لا أعرف أين تذهب المليارات سنوياً؟ وماذا نستفيد من ارتفاع أسعارها أو انخفاضه؟ أنا أسمع بميزانيات انفجارية خيالية وأحزاب منتفعة ومواطنين مثلي لا يزيدهم ارتفاع أسعار النفط إلا فقراً
يقول لرصيف22: "أنا مُجرد شخص فقير في بلد غني يهيمن عليه وعلى قراراته فاسدون". وقاسم يملك شهادةً جامعيةً وهو يبحث عن عمل منذ سبع سنوات، لكنه إلى اليوم لم يجد شيئاً ولا حتى مهنةً بعيدةً عن اختصاصه. كان بإمكانه أن يرضى بوظيفة دولة براتب خجول لا يتناسى مع ما تعيشه البلاد من غلاء على المستويات كافة، ولكن حتى هذا الأمر صعب المنال، أو كما يقول: "حلم".
يعزو قاسم عدم القدرة على إيجاد وظيفة إلى الفساد المستشري. برأيه، العراقيون يعانون كثيراً من الفساد لأن الفاسدين لا يفكرون إلا في كيف يحصّلون الأموال بطريقة أو بأخرى، ولا شك في أن ذلك يكون على حساب المواطنين، وهؤلاء أنفسهم (الفاسدون) يكذّبون على المواطنين ويقولون إنهم سيحاولون العمل على إعطاء حصة لكل عراقي من العائدات النفطية، لكننا لم نرَ ولن نرى حصصاً ولا من يحزنون".
بوابة تهريب
يقول الخبير النفطي، ضرغام محمد، لرصيف22، إن "عمليات الفساد موجودة بشكل منظم سواء كانت الموازنة المالية عاديةً أو مرتفعةً، وهي تعتمد بذلك على سعر برميل النفط الذي كلما كان مرتفعاً كلما أدى إلى موازنة مرتفعة، وفي الموازنة المرتفعة تكون هناك مشاريع استثمارية ما يفتح الباب أمام فساد أكبر من قبل الأحزاب والمافيات السياسية، من خلال صفقات فساد وتكالب على هذه المبالغ لقيم المشاريع الاستثمارية من أجل التسابق عليها وتحصيل أكبر فوائد منها".
ويضيف: "الوفرة المالية التي تأتي من ارتفاع سعر برميل النفط، تتيح لرفد مزاد البنك المركزي الذي يستفيد منه الفاسدون كمبالغ إضافية، وهذا الأمر ينعكس أيضاً على إيراداتهم وينعشهم مالياً".
في العام 2019، باع البنك المركزي العراقي 44 مليار دولار مخصصةً لتغطية استيراد المواد والسلع، إلا أن حجم الاستيراد وصل إلى 18 مليار دولار
ويصف محمد مزاد البنك المركزي (نافذة بيع العملات)، بأنه باب من أبواب الفساد الكبرى التي أطاحت بالثروات العراقية إلى الخارج، وأثّرت على حساب العراقيين وأدت إلى تضخم ثرواتهم خارج العراق وإفلاس العراق على مدى السنوات الماضية.
وحذر كثر من العراقيين والمتابعين الماليين من الفساد الذي من الممكن أن يجلبه مزاد العملة، وفي العام 2019، باع البنك المركزي العراقي 44 مليار دولار من العملة الصعبة في المزاد، وكانت مخصصةً في أغلبها لتغطية استيراد المواد والسلع، إلا أن حجم الاستيراد العراقي وصل إلى 18 مليار دولار حسب خبراء اقتصاديين، منها ستة مليارات سلع من إيران.
وقال عضو اللجنة المالية في حينها، أحمد الصفار، إن "مسألة نافذة العملة للبنك المركزي غير موجودة في كل دول العالم باستثناء العراق، فيما تقدم محمد صاحب الدراجي، وهو أيضاً عضو في اللجنة حينها، "بشكوى رسمية إلى القضاء العراقي لإيقاف هدر العملة الصعبة وتهريبها إلى الخارج".
حماية الفساد
يقول الخبير في مكافحة الفساد، سعد ياسين، لرصيف22، إن "الفساد في المشتقات النفطية تقوده مافيات تدّعي أنها تابعة لأحزاب وجهات ذات نفوذ سياسي"، مشيراً إلى أن "الفساد بشكل عام هو فساد سياسي محمي ومقنن ورصده يحتاج إلى تدقيق في القطاع المالي وكيفية بيع هذه المشتقات وتسويقها".
يضيف: "لا توجد في العراق رؤية اقتصادية واضحة، ويعتمد في الأساس على استيراد السلع والمعدات والمنتوجات المختلفة، وتالياً فإن باب تسرّب الأموال إلى الخارج سيبقى مفتوحاً وهو ما يسهل عمليات الفساد من خلال التحويلات المالية لأنها تكون بداعي الاستيراد ولو طابقناها مع قيمة السلع المستوردة والداخلة إلى العراق سنجد هناك فارقاً كبيراً، وهذا يؤشر إلى الخلل في الإيرادات المتحققة في الجمارك والضرائب والرسوم الأخرى".
يستمر الفساد إذا تشكلت حكومة توافقية من جديد، وليس حكومة أغلبية سياسية، لأن الحكومة التوافقية تعني استمرار المحاصصة وتوزيع المغانم
من جهته، يرى الخبير الاقتصادي همام الشماع، في حديث إلى رصيف22، أنه "من الصعب أن يتأمل المواطن العراقي بأي انعكاس للزيادات في أسعار النفط على مستواه المعيشي لأسباب عدة، أولها الخلافات السياسية وعدم تشكيل حكومة مسؤولة أمام الشعب والبرلمان، والسبب الثاني هو استمرار الفساد المالي والإداري".
حسب الشماع، تستمر هذه العوامل إذا تشكلت حكومة توافقية من جديد، وليس حكومة أغلبية سياسية، لأن الحكومة التوافقية تعني استمرار المحاصصة وتوزيع السلطات وتالياً المغانم، ما يعني غياب المساءلة والمحاسبة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 14 ساعةأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ 20 ساعةحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ يومينمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com