في محافظة كركوك (240 كم شمال العاصمة العراقية بغداد)، ينهال مُدرّسٌ، وهو في ذروة غضبه، بالضرب على جسد تلميذٍ، بواسطة مقبض مكنسةٍ حديدي. مشهدٌ قاسٍ أبعد ما يكون عن فعلٍ قد يحدث في صرحٍ تعليمي. ردة الفعل عليه كانت عاليةً نسبياً، ومتفاوتة. إلا أنّه فتح السجال الأهم: تفشّي ظاهرة العقاب البدني في المؤسسات التعليمية العراقية بشكلٍ عام، فضلاً عن الخوف من تحوّل المدارس إلى بيئةٍ طاردةٍ للطلاب، نتيجة مخالفتها لأبسط قواعد حقوق الإنسان.
وعلى الرغم من أن مديرية التربية في المحافظة، كانت قد فتحت تحقيقاً حول واقعة التعنيف في مدرسة "الحكمة" للبنين، ومقطع الفيديو المتداوَل على مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أن العراقيين حمّلوا وزارة التربية مسؤولية انتشار العنف المدرسي، كونها لم تمنع اللجوء إليه من جانب الكوادر التربوية ضد التلاميذ، وهو ما يعكس بقاء إرث الاستبداد الذي يتيح التعنيف في التعليم، وإنفاذه بالقوة.
العراقيون حمّلوا وزارة التربية مسؤولية انتشار العنف المدرسي، كونها لم تمنع اللجوء إليه من جانب الكوادر التربوية ضد التلاميذ
يقول الدكتور يحيى خير الله، المتخصص بالإنثروبولوجيا وعلم الاجتماع، لرصيف22، إنه "من الصعوبة معرفة متى نشأت ظاهرة العنف بحق الطلبة في المجتمع العراقي، وكانت تُعدّ في السابق وسيلةً للضبط، تساهم في خلق أجيال متفوّقة من الناحية العلمية"، مشيراً إلى أن "الآباء في السابق لم تكن لديهم مشكلة مع تعنيف الطلبة، بل إن بعضهم كان يطلب من المعلّمين القيام بذلك".
من الصعوبة معرفة متى نشأت ظاهرة العنف بحق الطلبة في المجتمع العراقي، وكانت تُعدّ في السابق وسيلةً للضبط، تساهم في خلق أجيال متفوّقة من الناحية العلمية
يؤكد خير الله، أن "للعنف البدني أضراراً نفسيةً كثيرةً على الطالب، منها التوتر والخوف والقلق، ما سينعكس على شخصيته في الكبر، إذ قد تجعله شخصاً عنيفاً، أو منعزلاً، نتيجةً للتنشئة التي يتلقّاها في المدرسة، والتي قد تؤثّر حتى على علاقة الفرد بأسرته".
يضيف: "بإمكان المعلمين اتّباع طرقٍ أخرى للعقاب، وهذا يعتمد على أسلوب علميّ، وتمكّن المعلم. فكما هو معروف، لكل معلّم أسلوبه الخاص في التعليم، وفي طريقة العقاب أيضاً، الذي قد يكون من طريق النصح والإرشاد، أو تمييز المتفوقين عن غيرهم، وكذلك معاملته بالدرجات التي يستحقها مستواه العلمي، وذلك لتحفيزه وجعله يقارن بينه وبين أقرانه المتفوقين، ليشعر بالتقصير في واجباته. بعض المعلمين يلجأون إلى التعنيف، للتغطية على تقصيرهم، نتيجةً لضعف إمكاناتهم العلمية".
وفي 17 تشرين الثاني/ أكتوبر الماضي، وجّهت حكومة رئيس مجلس الوزراء مصطفى الكاظمي، بإيقاف العقاب البدني في المدارس، ومنع إدخال الموبايلات الذكية إلى الصفوف المدرسية من قبل المعلمين، أو التلاميذ. ويأتي هذا القرار بعد موجة الغضب التي أثارها انتشار مقاطع تعنيف التلاميذ من قبل الكوادر التعليمية، وكان آخرها مشهد تلميذ كركوك.
يقول الناطق الرسمي باسم وزارة التربية، حيدر فاروق، لرصيف22: "الوزارة ترفض التعنيف البدني في المدارس، وقد وجهت جميع المدارس كي يكون العقاب بحق الطلبة عقاباً تربوياً قائماً على النصح والتحفيز، وتتخذه إدارة المدرسة، أو المعلم، ليكون رادعاً للطالب لإتمام واجبه بشكل صحيح، أو للامتناع عن عملٍ مسيء".
برأي وزارة التربية العراقية، هذه الظاهرة برزت في الفترة الأخيرة بشكلٍ لافتٍ، نتيجة سهولة التصوير وتيسّر النشر على مواقع التواصل الاجتماعي!
يضيف: "قرار رئيس مجلس الوزراء بإيقاف العنف البدني، هو قرار متّخذ من قبل وزارة التربية منذ سنوات، إلا أن هذه الظاهرة برزت في الفترة الأخيرة بشكلٍ لافتٍ، نتيجة سهولة التصوير، وتيسّر النشر مع وجود مواقع التواصل الاجتماعي، فضلاً عن أن بعض القنوات الإعلامية تركّز على هذه الحالات التي تُعدّ حالاتٍ فرديةً وشخصيةً، وقليلةً جداً، إذا ما تمت مقارنتها بعدد طلبة العراق، البالغ 11 مليون طالبٍ"، مشيراً إلى أن "ترك الطلبة مقاعدهم الدراسية، لما يقارب سنةً ونصف السنة، وابتعادهم عن الجوّ المدرسي، والتحول نحو التعليم الإلكتروني، وانغماسهم في الألعاب الإلكترونية، ومختلف مواقع التواصل، عوامل قد يكون لها أثر على سلوك الطلبة، بعد عودتهم إلى صفوفهم الدراسية، مما دفع إلى ازدياد حالات العنف بحقهم".
أغلب مدارس العراق الآن، هي مدارس طاردة للتلاميذ، نتيجة اكتظاظ عدد الطلبة في الصف الواحد، فضلاً عن عدم تدريب المعلم، بشكلٍ جيد، على أساليب التعليم الحديثة
إلا أن لنقابة المعلمين رأياً آخر، ينافي ما تحدّث به الناطق باسم وزارة التربية، التي في اعتقاد المعلمين تُعدّ متأخرةً عن متابعة ما يحصل، ومجاراة التطور التعليمي، وحداثته، إذ يؤكد ناصر الكعبي، المسؤول في نقابة المعلمين العراقيين، أن "أغلب مدارس العراق الآن، هي مدارس طاردة للتلاميذ، نتيجة اكتظاظ عدد الطلبة في الصف الواحد، فضلاً عن عدم تدريب المعلم، بشكلٍ جيد، على أساليب التعليم الحديثة، وكذلك وجود عددٍ كبير من المحاضرين الذين يعملون بشكلٍ مجّاني لخمس أو عشر سنوات، أو برواتب زهيدة جداً. تلك الأسباب كلها، وغيرها، ساعدت على ظهور حالات العنف ضد الطلبة، أو ازديادها".
وبشأن قرار إيقاف العقاب البدني في المدارس، يعلّق الكعبي قائلاً: "القرار يجب أن يرافقه توفير صفٍّ نموذجي يتألف من 36 طالباً، وليس 80 أو أكثر، كما هو الحال في معظم مدارس العراق، والعمل أيضاً على توفير المستلزمات المدرسية، وتطوير إمكانات المعلم، من خلال ورشات تدريبة مخصصة للمعلمين، تهدف إلى تطوير أساليبهم الدراسية، وإعطائهم دورات مكثفة من قبل منظمات تُعنى بحقوق الإنسان والطفولة، فضلاً عن الاهتمام بتوفير مختبراتٍ داخل المدارس، وإعطاء أهمية لحصص الرسم والرياضة والموسيقى التي يمكن من خلالها أن يُخرج الطلبة طاقاتهم، ويحسّنوا من سلوكياتهم، للحدّ من انتشار العنف".
في ما يخص المنظمات الحقوقية، يؤكد عضو مفوضية حقوق الإنسان في العراق، فاضل الغراوي، في حديث إلى رصيف22: "غالبية المؤسسات التعليمية في العراق تخضع للزيارات والرقابة من جانب المنظمات الحقوقية، وتُقدَّم لها مناهج مختصة لرفع قابليات المعلمين، وتطويرها، عبر معرفة ضمانات حقوق الانسان".
العراق ما زال يحتاج إلى الكثير من الجدّية للتعامل مع ظاهرة العنف المدرسي، كونها ظاهرةً خطيرةً يجب الحدّ من تفاقمها
ويُتابع: "العراق ما زال يحتاج إلى الكثير من الجدّية للتعامل مع ظاهرة العنف المدرسي، كونها ظاهرةً خطيرةً يجب الحدّ من تفاقمها، وهنالك الكثير من الحالات التي تسجَّل بوصفها تنتهك معايير حق الفرد في التعليم، ناهيك عن الانتهاكات الجسدية".
تنصّ المادة 41 ف1 من قانون العقوبات في العراق لعام 1969، على أنه "لا جريمة إذا وقع فعل تأديب الآباء والمعلمين للأولاد القصَّر في حدود الشرع والعرف والقانون"
وتنصّ المادة 41 ف1 من قانون العقوبات في العراق لعام 1969، على أنه "لا جريمة إذا وقع فعل تأديب الآباء والمعلمين للأولاد القصَّر في حدود الشرع والعرف والقانون"، إذ يعطي هذا النص الإباحة المحدودة لبعض مظاهر العنف في المدارس.
ويذكر الخبير القانوني، علي التميمي، في حديث إلى رصيف22، أن "بقاء النص أعلاه، الذي يمكن أن يكون مقبولاً عام 1969، لا يمكن قبوله الآن، وذلك لمخالفته الصريحة والواضحة لميثاق حقوق الانسان الذي وقّع العراق عليه، فضلاً عن كونه نصاً قد يُفهم منه أنه إباحة صريحة يلجأ من خلالها المعلم إلى وسائل العنف البدني ضد تلاميذه".
وتقول منظمة هيومن رايتس ووتش: "إنهاء العقاب البدني في المدارس قد يؤدي إلى زيادة الحضور، وانخفاض نسب التسرّب المدرسي، وتحسين نتائج التعلّم، وارتفاع معدلات الانتقال إلى مستويات تعليمية أعلى".
وكان العراق قد حظر، عام 2020، العنف الجسدي، لكن الواقع يُشير إلى أنه ما زال يُطبَّق بصورةٍ واسعة، فيما يمنح القانون العراقي حمايةً ضدّ المسؤولية الجنائية عن تأديب الآباء والمعلمين، ومن في حكمهم، الأولاد القصَّر، في حدود ما هو مقرَّر شرعاً، أو قانوناً، أو عرفاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.