انتشرت مؤخراً صورة لفتاة غزّية وسط طابور طويل من النساء والأطفال، تحمل قدراً فارغاً بعينين هزيلتين وملامح ذابلة. جسدها يتدلّى من فوق حاجز حديدي، فيما تتراكم حولها الأيادي الممتدة والقدور الفارغة، في لحظة تختصر كل ما لا تستطيع اللغة وصفه. لم تكن صورةً عابرةً، بل مشهداً صريحاً للمجاعة التي يراوغ العالم في تسميتها. انتشرت هذه الصورة كالنار، لا لأنها نادرة، بل لأنها تكثيف لمشهد يتكرر كل يوم في غزة.
وفي مقابل هذا المشهد، لا تزال الأمم المتحدة تقول إنّ غزة "قد تواجه مجاعةً"، وإنّ "انعدام الأمن الغذائي بلغ مستويات كارثيةً". الموت الذي يحدث هناك كل يوم لا يكفي ليُقنع العالم بأنّ ما يجري جريمة مكتملة الأركان. اللغة الرسمية صارت غلافاً بارداً لأجساد ساخنة بالوجع. المجاعة لا تنتظر توصيفاً لتحدث. هي تحدث، وكل تأخير في تسميتها مشاركة غير معلنة في استمرارها.
التجويع الذي يعانيه الفلسطينيون في غزة لم يحدث صدفةً، بل جرى التخطيط له بعناية كجزء من إستراتيجية إسرائيلية عسكرية متكاملة بدأت مع بداية الحرب الحالية عليها؛ فكل قصف لمخبز، وكل منع لدخول الدقيق والوقود، قرار مدروس لخنق الحياة.
تجويع ممنهج في سياق إبادة
التجويع الذي يعانيه الفلسطينيون في غزة لم يحدث صدفةً، بل جرى التخطيط له بعناية كجزء من إستراتيجية إسرائيلية عسكرية متكاملة بدأت مع بداية الحرب الحالية عليها؛ فكل قصف لمخبز، وكل منع لدخول الدقيق والوقود، قرار مدروس لخنق الحياة. الهدف لم يكن التجويع فحسب، بل القتل الجماعي عبر الجوع، كأداة لإبادة الفلسطينيين بدمٍ بارد وبقرارٍ محسوب.
هذا النوع من التجويع لا يحدث إلا في سياق إجرامي أوسع. التجويع هنا ليس أداة ضغط سياسي فقط، بل سلاح إبادة جماعية صريح، يهدف إلى تفريغ الأرض من ناسها، وكسر بُنيتها المجتمعية، وتحويل البقاء نفسه إلى معركة مستحيلة. وبينما يُعاقب العالم أنظمةً استخدمت التجويع سابقاً، ما زالت إسرائيل تفلت من المحاسبة، برغم أنّ الجريمة تجري أمام الكاميرات، وتحت عيون المؤسسات التي تعرف تفاصيلها كلها.
الأرقام تصرخ… لكن الإعلان لا يأتي
في آذار/ مارس 2025، قدّرت شبكة تحليل الأمن الغذائي أنّ أكثر من 1.1 مليون فلسطيني في غزة -أي نحو نصف السكان- يعيشون حالة تصنيف "كارثة غذائية" (المرحلة الخامسة)، ما يعني أنهم يواجهون خطر الموت المباشر من الجوع. في شمال غزة وحدها، تجاوز عدد المتأثرين نصف مليون إنسان، غالبيتهم من النساء والأطفال. معدلات سوء التغذية عند الأطفال وصلت إلى مستويات حرجة، وأُبلغ عن حالات في المستشفيات لا تجد حلّاً سوى المحلول الملحي أو الانتظار بلا غذاء.
وبرغم تحقق معظم شروط إعلان المجاعة؛ من نسب سوء التغذية، وفقدان الأمن الغذائي، ومعدلات الوفاة، لم تُصدر الأمم المتحدة أي بيان رسمي يستخدم الكلمة. والسبب في ذلك أنّ المصطلح يحمل تبعات قانونيةً قد تجبر الدول والمؤسسات على التحرك الفوري، وفتح ممرات إنسانية بالقوة، وربما التحقيق في جرائم إبادة. ولأنّ الكلمة ثقيلة، ومرتبطة بإجراءات حاسمة، يبدو أنّ المؤسسة الدولية تفضّل الإبقاء على الأزمة في خانة "الأزمة"، لا الكارثة، ولا الجريمة، بل فقط أزمة طويلة.
لكن الجوع لا ينتظر التسميات. ومن يموت من الجوع لا يسأل إن تمّ تصنيف موته رسمياً. هنا، لا يكون الصمت مجرد تجاهل، بل شكلاً من أشكال المشاركة. وكل يوم يُؤجل فيه الإعلان، يصبح العالم شريكاً ومتواطئاً في الحصار والتجويع.
ربما أكثر ما يُوجع في هذه المجاعة، هي الطريقة التي يتعامل بها الخطاب الدولي معها. تُستخدم تعبيرات مثل "انعدام الأمن الغذائي الحاد"، أو "احتمالية المجاعة"، أو "كارثة إنسانية"، بدلاً من التوصيف الحقيقي: إبادة عبر التجويع.
اللغة الباردة لتوصيف الجريمة الأكيدة
ربما أكثر ما يُوجع في هذه المجاعة، هي الطريقة التي يتعامل بها الخطاب الدولي معها. تُستخدم تعبيرات مثل "انعدام الأمن الغذائي الحاد"، أو "احتمالية المجاعة"، أو "كارثة إنسانية"، بدلاً من التوصيف الحقيقي: إبادة عبر التجويع. هذه اللغة لا تحاول إنقاذ الناس، بل تُريح الضمير العالمي، وتُخفف من وقع الجريمة، وتُبقيها في منطقة الغموض. اللغة التي كان من المفترض أن تكون وسيلة إنصاف، تحوّلت إلى غطاءٍ يُخفي الجريمة بينما تستمر على الأرض بلا توقف.
فحين تصبح اللغة أداةً للتأجيل، يصبح القتل ممكناً. المجاعة لا تحتاج إلى توصيف دبلوماسي، بل إلى صرخة تسمّيها. والصمت الذي يمارسه الخطاب الدولي، ليس حياداً، بل انحيازٌ لمصلحة المجرم. وهكذا، لا يعود التواطؤ مجرد مشاركة مادية، بل مشاركة لغوية، تُلطّف الجريمة وتؤجل غضب العالم منها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.