يتساءل مؤرخ اللحظة السوري، يعرب العيسى، عن نوعية الحكاية التي تحتاجها بلاد طوقها الغضب والحقد المتراكم طوال قرون، فتكتسي بأجوبة متخيلة، ويكتسب التحقيق الصحفي سمعة الرواية التسجيلية، التي تعكس تمرس كاتبها الطويل بالعمل الصحفي، وتعادل في الوقت نفسه متعة الفرح الغامر برؤية الفراغ وقد امتلأ بأوهام المخيلة وتشبهها بالحقيقة.
في العناوين الرئيسية التي تبوب وتختصر وتختزل فتجتذب، تكمن براعة العيسى في إسباغ طابع القداسة الملغمة بالإلحاد على حكاية "هابيل وقابيل" السورية. فتقارب الرواية سِفر الخروج من عتمة الأزقة الضيقة المؤطرة بالسور التاريخي لدمشق، ورؤية القابعين خارجه، ودمج حكاياتهم المحبوكة بالقهر والتهميش بأصل الحكاية، المقترن برحلة الشتاء والصيف، التي اتكأت على إسفار المعنى وتلاحم البدايات بالنهايات..
يفترض العيسى على لسان الحكواتي "فايز عاج الشام"، أن كل الحكايات تصلح للإيقاع بالمتلهفين الباحثين عن إجابات لأسئلتهم الساذجة، لكن بشرط اختيار الزمن المناسب لقصّها والطريقة المثلى لروايتها، لأن من يمتلك الحكاية يحوز على الباب، وما يحيط به وما يمر تحت قوسه. وقد يحمل الباب معنى مزدوجاً، فهو يقود إلى مدخل دمشق الشرقي والقريب من المئذنة البيضاء، التي سيهتدي بها المسيح أثناء نزوله من السماء في آخر الزمان، وفي الوقت نفسه، يعيد إلى الأذهان عبارة المسيح الشهيرة: "اجهدوا للدخول من الباب الضيق"، والتي تذكر باستحالة خدمة إلهين!
كل الحكايات تصلح للإيقاع بالمتلهفين الباحثين عن إجابات لأسئلتهم الساذجة، لكن بشرط اختيار الزمن المناسب لقصّها والطريقة المثلى لروايتها، لأن من يمتلك الحكاية يحوز على الباب
أحداث الرواية
تتمحور الأحداث حول التحولات الجذرية التي تطرأ على شخصية "غريب الحصو"، وتؤهله لاعتلاء عرش المسيح الدجال المستنسخ من السرديات التاريخية المقترنة بالأساطير الشرقية القديمة. وتتخذ الشرارة الملهمة طريقها نحو لاوعيه من خلال تفحّص كتابات النعي المسيحية، التي تعبر عن رغبة الأموات بالحياة من خلال إيمانهم بالمسيح. ورغم توقه الشديد إلى الحياة، لكن عقله يعجز عن تمثل الإيمان بالحقيقة العيسوية، فينتسب إلى الباب الشرقي، تعويضا عن قهر الأقربين له، ويغادر دمشق بعد أن نبذته طوال سنوات عمره الاثنتين والعشرين، ويصل إلى بيروت التي تثقبها الحرب الأهلية، لكنها مازالت قادرة على منح فرصة ودخل جيد لأمثاله. وينتزع صراع البقاء الضاري ستاً وثلاثين عاماً منه، تعادل الجهد الذي احتاجه ليكتمل كمسيح دجال محكوم بنشر الفساد استجابة لطموحات الفاوستيين.
في "المئذنة البيضاء" يتساءل مؤرخ اللحظة السوري، يعرب العيسى، عن نوعية الحكاية التي تحتاجها بلاد طوقها الغضب والحقد المتراكم طوال قرون
يخطو غريب صوب بناء أيقونته الخاصة عندما يصبح مريداً لقواد عجوز، فيحل الغرائز محل الأفكار الفلسفية الكبرى التي كان ينوي دراستها في الجامعة. وحين يموت القواد يرثيه، ويغدو مايك الشرقي، فيحول الدعارة إلى صناعة تحويلية، ويبني لها عالمين متجاورين، في محاكاة لثنائية الثواب والعقاب المحكومة بالمتعة. فيطلق على عالم الكدح والشقاء اسم الياطر، ويخصصه لابتلاع الأرواح الوضيعة، أو التي ترتكب خطيئة الغباء، ويعطي لنعيم المتعة اسم "أبولو"، ويؤثثه بالموسيقى والظلال والبهجة، ليجسد الفرصة المتاحة للارتقاء.
يكتسب مايك الشرقي هالة العمل المؤسساتي الضخم القائم على غسل الأموال والاتجار بالرقيق الأبيض، ويقرن الكفارة بالزواج من راهبة غلبها التوق لتجربة الأمومة من خلال تبني طفلة يتيمة، وبالتالي برزت حاجتها إلى زوج لإتمام مشروع التبني. لذلك أبصرت في وجه غريب، عند تسجيل عقد الزواج، خيط الضياء المسحوب من وجه الناصري.
بالمقابل، يعزو مايك نجاحه الأسطوري إلى احتفاظه بورقة العشر دولارات، المقترنة بصورة "هاملتون"، لكونه تعامل مع أمة تُبنى وكأنها شركة، وفسر الدستور الأمريكي بعقل تاجر، أدرك أن المال يجلب المال وليس القطن والتبغ والأخلاق، كما افترض بقية الآباء المؤسسين ذوي العقلية الريفية، أمثال جيفرسون.
الاستعارات الدينية
يحفل القسم الأول من الرواية بالكثير من الاستعارات الدينية الموظفة لتقريب صورة المسيح الدجال من الأذهان، والتي ألبسها العيسى لمايك، وجعله يدير متاهة الأشقياء العالمية. وفي الوقت نفسه، نوّه إلى قبح الواقع، الذي يسمح لقدم شاركت أخرى السير حافية من مهبط الإله حدد في المسكية إلى مهبط المسيح عند الباب الشرقي، بأن ترفسها. لذلك يرتدي مايك حين عودته إلى دمشق عباءة الغريب الذي يجبر عثرات الكرام، ويطوف في الأزقة والحواري، بحثاً عن المذلين والمهانين، فيكافئهم وينتقم من الباعة الذين نهبوهم، بعد شرائه الأراضي المحيطة بالباب الشرقي، وإعادته ترميم بيت دمشقي قديم، ليكون بمثابة مركز جديد لإعلان سطوته.
لا تحتمل شخصية مايك التقسيم إلى ثنائية الشيطان والقديس، لاعترافه بأنه كان عميلاً مزدوجاً للرب ولإبليس، فقد تاجر بحكاية يوم القيامة، وسعى إلى تحويل الآخرة الى دنيا بسعر صرف يتلاءم مع الشهوات المستعرة في النفوس، لتبق رمزية أيقونة "المئذنة البيضاء" مشروعة على احتمالات شتى، متروكة لمخيلة القراء. وبالتالي، يستجيب العيسى لمقولة كامي: "الصحفي هو مؤرخ اللحظة"، وينسحب من أعباء التنظير المباشر، تاركاً مهمة فلسفة الأمور لبضعة شعراء ومحللين ومارقين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه