وسط الفوضى السورية في جميع المجالات الفنية والأدبية والناتجة بدورها عن الحرب الدائرة منذ سنوات، برزت رواية "المئذنة البيضاء" للصحفي والكاتب السوري، يعرب العيسى، وسط حفاوة كبيرة في العاصمة دمشق ومن كتاب وصحفيين وقرّاء خارج البلاد.
الرواية التي تبدو في ظاهرها مسيرة حياة شخصية تدعى "مارك الشرقي"، تغوص في سيرة حياة بلاد، بين دمشق وبيروت والكويت ودبي وقبرص بأسلوب سلس وأحداث متلاحقة، رويت بأسلوب بسيط من صحفي يعمل في حقل الصحافة منذ 30 عاماً، ونجحت بدخول القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر".
والانتقال نفسه بين نوعين من الكتابة (الكتابة الصحفية والرواية) ليس أمراً سهلاً بطبيعة الحال، ولطالما أثارت طريقة السرد بين النوعين الكثير من الجدل والاختلاف.
وتحدث يعرب العيسى في حوار مع رصيف22 حول عملية التحول من الكتابة الصحفية إلى الرواية وصعوبتها، بأن الأمر أشبه بمن ينهي خدمته في الوظيفة ويتفرغ لفعل الأشياء التي يحبها.
وأضاف "ببساطة كان الأمر ممتعاً، لم أشعر ولم أفكر بصعوبته، فقد كنت كمن يمارس لعبة رياضية قد تبدو قاسية بالنسبة للآخرين، وعلى العموم، فكل كتّاب الأدب (باستثناء الشعر) جاؤوا من مهن أخرى، والصحافة إحدى هذه المهن، ولا أظنها تختلف كثيراً عن غيرها بهذا المعنى".
لا تعريف لنجاح الرواية
وتتعلق هذه الصعوبة أساساً بطريقة السرد وغياب أو حضور الرأي وأهمية الحبكة الروائية والفروقات بينها وبين الحبكة الصحفية، بالإضافة إلى القوالب الصحفية التي تختلف اختلافاً جذرياً عن الأدب بتفرعاته، وبناء على هذه الاختلافات الكبيرة والكثيرة يبرز السؤال: إلى أي مدى شعر العيسى بنجاحه في تجربة الرواية الأولى؟
يعرب العيسى: عملت سنوات طويلة في مهنة غير موجودة تقريباً، لقد كنت صحفياً سورياً. والعبارة تنطوي على خلل منطقي، وأن تقول في بلاد كبلادنا عن شخص إنّه صحفي يشبه أن تقول عن آخر (خبير صيانة مركبات فضائية)
وأجاب العيسى على السؤال بأنه لا يملك تعريفاً للنجاح، ولكن إذا كان معيار النجاح والفشل هو في الإجابة على سؤال أساسي: "إلى أي درجة فعلت ما كنت أريد، وقلت ما عليّ قوله؟ ستكون إجابتي بناءً على هذا المعيار: لقد فشلت في العالمين. عملت سنوات طويلة في مهنة غير موجودة تقريباً، لقد كنت صحفياً سورياً. والعبارة تنطوي على خلل منطقي، وأن تقول في بلاد كبلادنا عن شخص إنّه صحفي يشبه أن تقول عن آخر (خبير صيانة مركبات فضائية).
الأدب يعطي مساحة أكبر للتعبير، وبناءً على هذا، أنا مستمر في ملاحقة وهمي، ولا أعرف أين سأصل، صحيح أنني في الثالثة والخمسين، لكنني أدخل عالم الأدب بخطوة أولى خجولة وقلقة".
ويرى العيسى أن روايته التي تجري على مدى أربعة عقود وفي عدة بلدان في الشرق الأوسط لا في بلاد الشام فقط، فهي تحكي عن العراق والكويت ودبي، وبعض الأحداث تدور في قبرص واليونان وبالتأكيد في سوريا ولبنان.
وأضاف العيسى: "فيها الكثير من الأحداث الحقيقية التي حاولت أن أجدلها مع الحكاية. ولا أعرف إلى أي درجة نجحت في خلط الحدود بين خصلة الواقع وخصلة الخيال وخصلة الأسطورة، في صنع هذه الضفيرة".
للأدب جلاله الذي يتطلب الشجاعة
نجحت رواية "المأذنة البيضاء" بالوصول إلى القائمة الطويلة للجائزة الدولية للرواية العربية "البوكر"، والتي أُعلن عنها في 26 من كانون الثاني/ يناير الماضي، إلى جانب 15 رواية عربية أخرى.
الوصول إلى "البوكر" من الرواية الأولى يُشكل نجاحاً لرواية أولى لكاتب ما، ولا يبدو أن يعرُب العيسى يُفكر بتأخره عن دخول عالم الرواية بعد 30 عاماً من العمل في الصحافة، بعد دخول روايته في القائمة الطويلة للجائزة، إذ قال لرصيف22 إنه يعتقد أن الأشياء تأتي في وقتها دائماً.
وأضاف: "طيلة حياتي وأنا متهيّب من هذا اللحظة، أجلُّ الأدب وأخشاه، ولطالما كنت أعتقد أن نشر كتاب يتطلب كمية هائلة من الشجاعة، ولم أكن أمتلك ما يكفي منها".
يعرب العيسى: طيلة حياتي كنت أجلُّ الأدب وأخشاه، ولطالما كنت أعتقد أن نشر كتاب يتطلب كمية هائلة من الشجاعة، ولم أكن أمتلك ما يكفي منها
وتابع العيسى: "سأعترف (بيني وبينك) أنني لم أمتلك هذا الأمر حتى الآن، لكن أصابتني تلك اللحظة التي نقول فيها بالعامية السورية: (شو منها؟ وبعدين؟) أو بتعبير آخر طبقت قول علي بن أبي طالب: إذا هبتَ أمراً فَقَع فيه، تجرّعت بعض التهور وأقدمت على ذلك".
الرواية التي دخلت البوكر حصلت بالأصل على احتفاء كبير من سوريين في وسائل التواصل الاجتماعي، احتفاء قلّ نظيره خلال سنوات الصراع الطويلة التي تعيشها البلاد دون ضوء ساطع في نهاية النفق، وفي وسط فوضى أدبية وفنية كبيرة أصلاً.
يعتبر العيسى أن الرواية حصلت على هذه الحفاوة لأنه "رجل محظوظ ربما"، والناس كانت بحاجة للحظة أمل ثقافية، وصدف أن روايته تزامنت مع هذه الحاجة.
وقال العيسى: "قلت في مكان ما سابقاً أنني أفرغت كل ما جيب الصحفي الذي كنته لثلاثين عاماً، وكل ما في جيب المدون النشط على فيسبوك، وما في جيب الجار والمدرب والزميل. ودسست كل ذلك بخفة في جيب الروائي الذي أصبحته للتو، فبدا منتفخاً أكثر من المتوقع".
أصوات سورية جديدة ستملأ الشاشات والصفحات
هذه الحفاوة تدفع بدورها للتساؤل، أين يقف الأدب السوري وسط هذه الفوضى كلها وفي ظل ظروف صعبة للغاية تواجهها دور النشر العربية عموماً والسورية خصوصاً؟ والسؤال لا يتعلق هنا بوجوب رواية التجارب التي تعرض ويتعرض لها السوريون داخل وخارج سوريا، بقدر ما يتعلق بشكل مباشر بالنوع لا بالكم، وبالطريقة التي تنشر وتُحكى فيها هذه الحكايات والروايات.
يعرب العيسى: الحرب السورية، وبشكل أدق، آثار الحرب على السوريين، تجربة نادرة، أظنها غير مسبوقة بهذا الشكل، وأظن أكثر أن المعرفة البشرية ستكون ناقصة ما لم ترو هذه التجربة بطرائق متعددة، وبأنواع مختلفة من الفنون
ويرى يعرُب العيسى، المولود في محافظة حماة وسط سوريا، أن الأصوات الجديدة تبعث على التفاؤل، مشيراً إلى أنه يقرأ بحب وافتتان نصوصاً لكتاب من جيل شاب، كما أنه يقرأ للجيل الأكبر ويفرح لأنهم يحاولون التجديد والمواكبة.
وأضاف العيسى: "الحرب السورية، وبشكل أدق، آثار الحرب على السوريين، تجربة نادرة، أظنها غير مسبوقة بهذا الشكل، وأظن أكثر أن المعرفة البشرية ستكون ناقصة ما لم ترو هذه التجربة بطرائق متعددة، وبأنواع مختلفة من الفنون".
وقال أيضاً: "إن السوري الذي عبر البحر ليصل إلى بلاد جديدة بلغة جديدة وثقافة جديدة، سيكون لديه الكثير مما يرويه لنا، والسوري الآخر الذي يشعر بالبرد والجوع واليأس في بلاده، سيكون لديه الكثير أيضاً. ومن تجلس الآن قرب قبور أبنائها، أومن اكتشفت أنها إنسان كامل يحق له التذمر، فاستعانت بقوانين البلد الجديد لتتخلص من جحيم زوج سادي، ومن ومن...".
ويظن العيسى أن التجارب الإنسانية لآثار هذه الحرب هي من ستملأ الصفحات والشاشات، وهي من ستقدم للجميع أدباً سورياً جديداً يرى العالم والنفس البشرية بعيون مختلفة، وهي أكثر أهمية بالطبع من المعارك ومن السياسة، فموضوع الأدب الوحيد هو الإنسان، هكذا كان وهكذا سيكون دائماً، بحسب رأيه.
تملك الرواية الصادرة في العام الماضي 2021، صوراً وجدانية قادرة على محاكاة ذاكرة السوريين ومشاعرهم، والضغط على ذاكرتهم لاستدعاء صور أفراحهم وآلامهم في دمشق بجانب المئذنة البيضاء، وهي أيضاً تجعلهم يغمضون أعينهم ليمشوا حفاة الأقدام وعُراة الحق في باب شرقي، ويمكنهم بهدوء لدى قرائتهم للرواية أن يطلبوا من دمشق، كما طلب مارك الشرقي قبل مغادرتها: "ألا تحضر المسيح في غيابهم"، ولا يبدو أن دمشق ستستجيب لطلبهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون