أشباح الغربة
بالتعاون مع مسعود حيون، المحرر الضيف لشهر نيسان/أبريل
لا أدري كم حياةً عشتُ قبل هذه الحياة لكنني أدركُ أن ثمّة خيوط لا مرئية تشدّني إلى أزمنة وأمكنة ومطوية كمنديل حريرٍ داخل الزمان والمكان الشاخصَين أمامي، وهذا الشعور ليس جديداً، على كل حال، إنما لا يبلغ عمره أكثر من عَقْدٍ واحد.
بدأ الأمر مع منامٍ غريبٍ، رأيتُني فيه أعيش في بيت آخر، بيتٌ يؤكّد لي حلمي أنني لا أدخله فجأة بل أعود إليه؛ أرتاح فيه إلى وجود عدد أكبر من الغرف، أتجوّل بِحرّية حيث المساحة تكفي كي لا أعاني مجدداً من تكدّس الأغراض التي تتوالد وتتناسل بكثرة مثل عائلة متفائلة من الأرانب.
تكرّر منام البيت على نحو آخر، في المرة الثانية كان منزلاً ضيقاً غير مرتّب، يحتاج إلى بذل الكثير من الجهد والتعب من أجل تلميع سقفه وجدرانه وبلاطه، "هذا المنزل مؤقت"؛ أقول لنفسي خلال المنام، "سأنتقل إلى بيت آخر عمّا قليل"، أحاول التغلّب على وحشة الجو المحيط بالاختباء من باقي أركان المنزل في غرفة ذات نافذة تطلّ على ملامح مدينة لا أعرفها.
مع الوقت، اعتدتُ التنقّل بين البيوت التي تشتريها لي أحلامي؛ فحِيناً تفرش لي شقّة واسعة يغمرها الضوء من كل الجهات، وحِيناً تلزمني بالسكن في إحدى العشوائيات إنما مع تعويض يأتي على شكل حديقة صغيرة تحيط بمسكني.
الشيء الوحيدُ المشترك في جميع تلك البيوت وجود شارعين يتكرران في كل المنامات، الأول مستوٍ وعريض يحيلني إلى زمن بعيد، أتجرّد فيه من كلّ ما عشته ويعيد كتابة قصّتي مانحاً إيايّ أبواباً ونوافذ كثيرة للدخول والخروج كل وقت مع وجوه مختلفة؛ أليفة وغريبة، لكنها دوماً رقيقة ومحببة.
لا أدري كم حياةً عشتُ قبل هذه الحياة لكنني أدركُ أن ثمّة خيوط لا مرئية تشدّني إلى أزمنة وأمكنة ومطوية كمنديل حريرٍ داخل الزمان والمكان الشاخصَين أمامي، وهذا الشعور ليس جديداً، على كل حال، إنما لا يبلغ عمره أكثر من عَقْدٍ واحد... مجاز أشباح الغربة
الشارع الثاني مائل وضيق يحيلني إلى زمن قريب، يُصرّ على أن أمشي فيه لأشتري من إحدى البقاليات بضاعة لا أحتاجها، وكلّما دخلتّ لأشتري، سمعتُ دويّ قذيفة تسقط في الشارع، ثم يختفي كل شيء: الزمان والمكان والأشخاص والأشياء التي اشتريتها عنوة كما أختفي أنا.
أول مرة سافرتُ خارج سوريا، حملت معي زجاجة ماء، ملأتها من حنفية البيت، إذ أنني أردتُ أن أحمل معي شيئاً أكثر من مجرد هوية تثبت جنسيتي، أردتُ منها ما يسري في دمي وعروقي؛ أحتمي به من تغيّر طعم الماء في بلد جديد: من اختلاط المعادن والشوارد والهويات... مجاز في رصيف22
كلا الشارعين يلحّان عليّ كثيراً في اليقظة، في الواقع إنني لا أتوقف عن البحث عنهما كلما خرجتُ إلى العمل أو التسوق أو زيارة إلى الأهل أو الأصدقاء؛ أدخل أزقّة جديدة أحياناً حين أشعر أنها مرتبطة بشكل ما بذلك الشارعين، حتى أنني أمس شعرت بالجزع الشديد حيث راهنتُ على أن الزقاق الذي سرت فيه سيفضي إلى الشارع المائل الضيق الذي فجّرته القذيفة وحينُ وصلتُ لم أعثر عليه، لقد بدا الشارع الذي وصلتُ إليه مجرد تزوير للحقيقة، الأبنية والدكاكين محض أقنعة بائسة؛ إنه هنا لا بدّ من ذلك، وليس أقل من قذيفة ثانية تعيد المكان إلى صوابه وتزيل العبث الذي أساء إلى ديكور المشهد الأصليّ!
اللعنة على هذا الحنين الموحش المجهول، إنني لم أعد أعرف:
هل إنّ الأزمنة والأمكنة الأليفة تلتصق بي وتعرّش عليّ أم أنني أنا مَن ألتصق بها وأعرّش عليها كنبتة جهنمية خصبة التراب؟
فأول مرة سافرتُ خارج سوريا، أذكر أنني حملت معي زجاجة ماء، ملأتها من حنفية البيت، إذ أنني أردتُ أن أحمل معي شيئاً أكثر من مجرد هوية تثبت جنسيتي أو جواز سفر يشير إلى جذوري؛ أردتُ منها ما يسري في دمي وعروقي؛ أحتمي به من تغيّر طعم الماء في بلد جديد: من اختلاط المعادن والشوارد والهويات..
كنتُ أشرب كل يوم جرعة من الزجاجة كمن يغتسل من التغيير بالثبات، من الطيران بعبادة العش، من الولادة بالعودة إلى الرحم..
لا أعرف كم حياةً عشت قبل هذه الحياة، لكن بما أن كل هذه الشوارع والبيوت اقتحمت مناماتي تزامناً مع وقوع الحرب، سأفترض جدلاً أنني
عشتُ حياتين وأنتظر الثالثة..
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع