شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
رحلة الطيب... قصة فتى لا منزل له

رحلة الطيب... قصة فتى لا منزل له

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 16 أبريل 202212:48 م

 أشباح الغربة

بالتعاون مع مسعود حيون، المحرر الضيف لشهر نيسان/أبريل


كان الحجر الصحي في نهاياته حين اتصلوا بي من مركز استقبال المهاجرين الذي أعمل معه، لموعد ترجمة غداً عبر الهاتف مع شاب وصل حديثاً. سجلت الموعد لدي وأغلقت أجندتي. في الغد، بدأ بالرد على التحية، كان صوته متعباً وضعيفاً، وبدت كلماته تائهة تماماً، وقلت في قلبي: نجا جسده لكنه لم ينج بعد.

بدأ الشاب الأريتيري ذو العشرين عاماً يعرف عن نفسه، طيب، هذا اسمه، قال بأنه لم يستطع النوم منذ مدة، لديه ألم في البطن، ودوار، وقلق ليلي، يأكل بضع لقمات إن استطاع، ثم يتوقف. لم تتأخر المساعدة الاجتماعية في اقتراح متابعة صحية نفسية لحالته، واستجاب مرحّباً بصوته الضعيف بالاقتراح. التقينا للمرة الأولى لدى الأخصائية النفسية، ومن تحت الكمامة كان يحاول الابتسام، لكن عينيه الغائرتين في وجهه الصغير الأسمر كانتا تقولان: أنا لست بخير.

كان طيب يجيب بصعوبة عن الأسئلة، رغم رغبته بالتحدث، وارتياحه لهذه المساحة الحرة الآمنة التي توفرها له هذه الغرفة الصغيرة. طيب فتى لأم سودانية وأب أريتيري، تزوجا على الرغم من معارضة أخواله السودانيين لهذا الزواج، فالأريتيريون في السودان هم مواطنون من الدرجة الثانية.

 كان الحزن يعبر من قلبه ليبلل كل ما في هذه الغرفة الصغيرة ذات الجدران البيضاء المحايدة. في السودان مات والده وعاشت أمه وحيدة لتربيه، خائفة من عائلتها وخائفة من ترحيل صغيرها إلى أريتيريا، حيث سيساق للسجن أو للخدمة الإجبارية أو للموت جوعا. عملت الأم في كل ما وجدت من أعمال صغيرة حقيرة، في بيع الخضار، في مخبز، في أعمال تنظيف وبناء. لم يستطع الصغير الذهاب إلى المدرسة لأنه ليس سودانياً. في كل مرة كان حزنه يصل حتى عنقه، كنا نتوقف كيلا نزيد من ألمه، نعبر إلى موضوع آخر، أو ننهي الموعد لنؤجل الغصّات لموعد آخر. كان لدى طيب مواعيد كذلك مع المساعدة الاجتماعية، وكان كثيراً ما يصل متأخراً.

من تحت الكمامة كان يحاول الابتسام، لكن عينيه الغائرتين في وجهه الصغير الأسمر كانتا تقولان: أنا لست بخير... مجاز أشباح الغربة في رصيف22

في إحدى المرات حدثوني من العمل لأترجم عبر الهاتف أثناء محاولة رجال الإسعاف التحدث إلى طيب الذي فقد الوعي، ثم وصل إلى المركز متعباً، آلام رأس وآلام بطن وهو لا يعي ما يعانيه. تم نقله إلى المستشفى ومن ثم تم تحويله إلى مركز يهتم بإجراء فحوصات ومتابعة صحية وطبية لصيقة، وخرج بعد الظهيرة لأنه ليس هنالك شيء خطير سوى تعب عام.

كان فقدان الوعي يتكرر، حدثنا طيب في غرفة المعالجة النفسية، كان فوق آلامه وحين يجد أنه سيفقد الوعي في الطريق أو في الحافلة، يعاني من حاجز اللغة اللعين الذي يتعين عليه تخطيه ليطلب المساعدة في طلب الإسعاف. اكتشفوا لاحقا أن لدى طيب بكتريا في المعدة تسبب له ألماً، وربما تكون هي من يصعب عليه أيضاً، كما خوفه وقلقه، ابتلاع الطعام. كل ما كان يعانيه طيب كان يجعل من إقامته في هذه المدينة الصغيرة التي لا يوجد فيها أحد من أصدقائه، وبعيداً آلاف الكيلومترات عن أمه التي بقيت في السودان، جحيماً لا يطاق.

صبي بدأ في العمل بعمر عشر سنوات، وحاول ألا يروي لأمه ما يعانيه من مضايقات في الشارع في السودان بوصفه أريتيرياً، كان رجال الشرطة يوقفونه ويضربونه كما يشاؤون، وهو يعلم بأن أقل كلمة ينبس بها كفيلة بترحيله إلى أريتيريا وجحيمها، وربما دون أمه.

 في تلك الظروف اللعينة في السودان، أحب طيب فتاة سودانية، كان هذا الحب واحداً من أفراح قليلة احتضنها قلبه، كان ينتظرها ليراها، وكانت هي تتحدث إليه كلمات قليلة وتمضي خجلة. عرف أخوتها بحبه لها، بحثوا عنه وأوسعوه ضرباً، بكت أمه بحرقة، فهي غير قادرة على حماية ابنها من الموت. منذ تلك الليلة، كان رجاؤها الوحيد أن يتركها ويرحل. كان هذا الطلب مؤلماً لقلبها ولقلبه، لكنها كانت مدفوعة بحب كبير ورغبة عارمة في إنقاذ حياة ابنها. لم يكن طيب يبكي وحده وهو يروي قصته، كان الألم الذي يحمله أكبر منه، وأكبر كذلك من قدرتي على التحمل، كانت دموعي تنزل بصمت لتبلل كمامتي وأنا أكمل الترجمة، في عالم يصرّ أن يستمر ضاحكاً رغم آلامنا المرعبة.

غادر طيب السودان إلى ليبيا ليعمل هناك، في ليبيا سرقوا هاتفه وضربوه في الشارع وهربوا، وعندما ذهب ليشتكي تم حبسه لمدة شهرين، خرج مرهقاً، فاقداً للاتصال مع أمه، وعلى قدمه جرح كبير التأم في السجن، تاركاً ندبة كانت تقول له: ارحل قبل أن تموت.

بعد أربع سنوات في ليبيا استطاع أن يركب قاربا مع صديقه الأريتيري، وبدأت رحلته صوب الحلم الأوروبي.

طلب منهم المهرب أن يختبئوا في قاع القارب، كان ضجيج المحرك وحرارته لا تطاق، وضعوا فوقهم أغطية كيلا يراهم خفر السواحل الإيطالي، كان يتحدث كل بضع دقائق مع صديقه وهو يكاد يختنق، ثم شيئاً فشيئاً غاب عن الوعي، عندما استيقظ كان صديقه قد توفي اختناقاً، ثم قام المهرب برمي جسده في البحر. عندما وصل طيب إلى إيطاليا كان شبحاً حزيناً متعباً، تابع إلى فرنسا، وتقدم بطلب للجوء في باريس رفقة صديقه الأريتيري الذي يقيم هناك، ثم اتصلوا به ليعلموه بوجود سكن وجمعية ستتابع ملف طلب لجوئه في مدينتنا الصغيرة البعيدة، على الحدود الإسبانية.

طلب منهم المهرب أن يختبئوا في قاع القارب، كان ضجيج المحرك وحرارته لا تطاق، وضعوا فوقهم أغطية كيلا يراهم خفر السواحل الإيطالي، كان يتحدث كل بضع دقائق مع صديقه وهو يكاد يختنق، ثم شيئاً فشيئاً غاب عن الوعي... مجاز أشباح الغربة

قبل طيب ووقع على ذلك، آملاً في أن يحصل على وضعية اللاجئ، ويتمكن أخيراً من إرسال طلب لتتمكن أمه من القدوم للعيش معه، وبصدفة صرفة اتصل به أحد معارفه بالسودان ليقول له إنه رأى أم طيب، وهي تقيم الآن لدى عائلة سودانية في الحي، وهي طريحة الفراش.

لم يستطع طيب أن يرسل النقود لأمه ولا أن ينقلها للعلاج في مستشفى، كان شعور العجز تجاهها يحرق قلبه، كل ما استطاع أن يرسله هو صوته المتعب، قائلاً لها بأنه يريد أن يراها بعد، وأنه سيعمل على ذلك. أجابته أمه: لا أريد منك شيئاً. فقط كن بخير. لم يستطع طيب أن يكون بخير، تم رفض طلبه للجوء أمام المكتب المختص، وأحالوه إلى المحكمة في حال أراد الطعن بالقرار. بدأ طيب بالإعداد للمحكمة ووكل محامياً، كان يسابق الزمن لينتشل أمه من براثن المرض والتعب ويجعلها تعيش الحياة التي تستحق.

 رأيت طيب يوم عاد من باريس بعد حوالي أسبوعين من جلسة المحكمة، مرهقاً بعينين صغيرتين، كان قرار رفض طعنه قد وصل أيضاً من المحكمة، كان طيب في المستشفى في باريس لأسبوع بعد ذلك، فقد علم بوفاة والدته بساعات قبل دخوله إلى المحكمة، عندما مثل أمام القاضي لم يستطع أن يتحدث ولم يجد الكلمات أصلاً، وقد نقله صديقه ذاك المساء إلى المستشفى ليرقد هناك لأيام قبل أن يستعيد قدرته على المشي ويعود من باريس.

كان طيب ما يزال يستطيع المكوث في شقته الصغيرة التي توفرها المنظمة التي تستقبله حتى نهاية الشهر، لكنه لم يستطع أن يتحمل الجلوس وحيداً منعزلاً، مر تاركاً المفاتيح، وركب القطار حيث يعيش اليوم هناك، في شوارعها...


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image