شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
اطمئن أيها الجنرال، لقد جليت نفسي

اطمئن أيها الجنرال، لقد جليت نفسي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 9 أبريل 202203:39 م

أشباح الغربة

بالتعاون مع مسعود حيون، المحرر الضيف لشهر نيسان/أبريل


 يُطلق الأطباء على الطرف المقطوع، كاليد أو القدم، بالطرف الشبحي، يلازم صاحبه ألمٌ دائم بسبب هذا الجزء الغائب، تلك هي سوريا بالنسبة لي: الطرف الشبحيّ.

في الغربة أنت بلا أقدام، تعرج على ساقٍ خشبية ولا تملك بيتاً، تبحث عن الطراوة في الخبز وفي تحية الغرباء، لا تُسمِّي البرد برداً، بل شعاع شمس أو بخاراً أو غيمةً أو.. جبلاً جليدياً يتداعى.

ألم "هنا" وألم "هناك"

خمسة أشهر مضت منذ قدومي إلى ألمانيا وأنا لازلت أتحدث عن سوريا بـ "هنا". لم تصبح هذه السوريا "هناك"، ولم تستطع الصدمة الحضارية محو ما كان "هناك"، بل على العكس جعلته فاقعاً حاضراً بشكل يومي "هنا".

القلق أيضا مدَّ أطرافه وزحف معي إلى هنا، لازلت أحضّر الطعام بسرعة مخافة أن تنقطع الكهرباء فجأة، وتترك البطاطس بنصف استواء على الطبّاخ الذي قمت بتصليحه ثلاث مرات في السنة الأخيرة، استمرّيت في الاستحمام على عجل خوفاً من نفاذ الماء الساخن، والأهم من كل هذا هو الشعور المُلِّح بالعودة إلى المنزل.
القلق أيضاً أخذ شكل أقواس صغيرة تتركها أظافرك الضاغطة على جلدك لاشعورياً، وكذلك عدم القدرة على التركيز سوى على ضوءٍ خافت.
لم تأتني كوابيس المهاجرين عن عودتهم إلى بلدهم، ليس لأني مصابة بلوثة التعلّق بالمكان، بل ربما لأن الأسوأ قد حصل، وأن الإحساس بالخطر أصبح شيئاً مألوفاً، يحتاج إلى تمسيد خفيف على الرقبة في أسوأ الأحوال كي يهدأ، لقد انخفضت حمى الشوق والتأثر والإعجاب والدهشة. منذ سنين استُبدلت ببلاهة صفراء باهتة تصعد على الوجه، تنتظر قليلاً لتحدد الشكل الذي ترتديه، وغالباً ما تختار الوجه ذاته، الفارغ من أي معنى.
ما الذي جاء معي من سوريا إلى ألمانيا وما الذي بقي؟

حسناً... منفضة سجائر زجاجية مع كأس ماء زجاجي أزرق من مصنع صغير لصنع الزجاج اليدوي المُعشّق قبالة باب شرقي، غطاء طاولة أزرق من محل أنتيكا في القيمرية، تمدد أمامي على الطاولة طيلة سبع سنوات ماضية، عقدٌ من الخرز (الأزرق أيضاً) صنعه أحد المساجين، اشتريته من بسطة بالقرب من قلعة حلب في زيارتي الوحيدة لها قبل اثنتي عشرة سنة، دفتر كُتب عليه: rock your world، أهداني صديقي أيضاً ولاعة حديدية بلا كيروسين وقال: اذهبي واشعلي حرائقك.

قبل مغادرتي سوريا قضيت شهرين من الشعور بالعجز عن فعل أي شيء، كنت أشتاق إلى كل شيء بالمكان وأنا لازلت فيه، كيف يمكن توضيب ست وثلاثين سنة في حقيبة والمغادرة؟... مجاز أشباح الغربة

أين أُشعل هذه الحرائق؟ في الحدائق المحمية المُقلّمة العشب؟ في الشوارع التي ينتظرك عند مفارقها البوليس ودفتر المخالفات؟ في البيوت الصامتة والشبابيك التي لا تسمع منها جدالاً أو موسيقى! حتى الكلاب لا  تُكشّر عن أنيابها، الأدرنالين في المدينة الجديدة مضبوط، ليس كما في سوريا يركض في أوردة الناس مثل رالي صعوداً وهبوطاً، الانفعالات أيضا محقونة بإبر مهدئ وجُهّزت لها الصالات الرياضية والملاعب وأساليب الترفيه، الكل يسير بصمت في اتجاه واضح ومحدد، يجرُّ كلباً أو عربة طفل أو كهلاً، لا مكان للصراخ أو للاحتجاج.
ما من أحد يرمي عليك بتلطيشة مثل "يقبروني هالبزاز" فتردي بكُهنٍ: " بزاز أمك أحلى". ماذا أفعل بكل تلك الشتائم التي سالت مع لعابي طيلة السنوات الماضية، فهنا لا خوف من متحرِّش وما من أحد ينظر بفجور إلى أردافي!؟ لا غمز ولا لمز ولا أكثر من نظرات جانبية سريعة مهما تفننت في التأنق ورسم الكحل وتسبيل العيون، كل هذا المهارات التي اكتسبتها طوت نفسها كورقةٍ على الرف، ومهما بدوت غريبة، ببشرة داكنة وشعر أسود، لن يستغرق الحديث عني أكثر من دقيقة، ثم أُمسي ككل شيء يسير ويركض وراء أوقات العمل والسلعة وتدابير عطلة الأسبوع و"الأورلاب" إجازة الصيف.
كل شيء هادئ ومُسالم، لا عراك على دور الغاز والمازوت والخبز وتملّق المُوّزع على الطاقة : "روح يا أبو فتحي الله يحنن عليك أم فتحي". هنا لا يوجد أم فتحي ولا أبو فتحي، المراوغة وتمسيح الجوخ وتمريقة الإكرامية بين الأوراق في مؤسسات الدولة، هنا أنت واحد كما الجميع، الفضول والأسئلة وضعت في لوائح أو على شاشات أو على الغوغل ماب، وتكفلّت الكريدت كارد بباقي العملية. أذكر أن السائق في إحدى ميكروهات مهاجرين باب توما قبل عامين وضع علبة بسكويت على التابلو أمامه كي يرّد للركاب باقي الحساب بسبب ندرة ورقة الخمسين ليرة آنذاك، فيأخذها الراكب موفِّراً على نفسه جدالاً لا طائل منه، ويلتهمها قبل أن يصل وجهته، أنا أيضا أخذت البسكويتة وأنا أنظر إلى الملتهمين الصامتين المنقادين إلى هاوية الله يعلم كم عمقها.
لا دفتر ديون "وسجّلن على الحساب" ولا "راعينا" ولا "زبّطني" ولا "بحياة شوارب أبوك"، لن تجد شطارة تاجر سوق الحريقة وما من أحد يأخذك إلى البحر ويُعيدك عطشاناً.

المكان

قبل مغادرتي سوريا قضيت شهرين من الشعور بالعجز عن فعل أي شيء، كنت أشتاق إلى كل شيء بالمكان وأنا لازلت فيه، كيف يمكن توضيب ست وثلاثين سنة في حقيبة والمغادرة؟
كان التفكير بالتخلص من أشيائي هو المُعذب، الكتب المُهداة والزهور الجافة وزجاجات النبيذ الفارغة، هناك حب كامل مع بخوره وقصاصاته الورقية وقمصانه وُضع في كرتونة وأُغلق بلاصق أحمر، شيء ما يُشبه حرق جثة ووضعها في فخارة مُحكمة الإغلاق، ومتى أصبح الخارج أكثر وحشة وأقل أماناً يُصبح البيت أشبه بملجأ، وكلما غادر عدد من الأصدقاء تاركين شيئاً ما من أثرهم يأخذ هذا الملجأ معنى العوض، ومع الوقت تحوّل البيت إلى متحفٍ للغياب.
يُطلق الأطباء على الطرف المقطوع، كاليد أو القدم، بالطرف الشبحي، يلازم صاحبه ألمٌ دائم بسبب هذا الجزء الغائب، تلك هي سوريا بالنسبة لي: الطرف الشبحيّ

وزّعت ما استطعت على من بقي من أصدقائي والباقي كان مصيره حاوية القمامة، وبعد حفلة القتل هذه بدّلت ثيابي، طويت البيجاما ووضعتها كالعادة على طرف السرير، وقبل أن أخرج تركت النور مُضاء كي لا يظن أحد أن المكان فارغ.

الزمن

يرِّن جرس الكنيسة كل خمس عشرة دقيقة على المدينة الجديدة الصامتة، مُقسِّماً الوقت إلى أرباع، لقد استعار مكاناً مُقدساً وافق الجميع على منحه هذه المكانة. يمر الوقت كراهب بين الحدائق والبيوت يرسم صليباً ويوزع بركاته هنا وهناك، ومع هذا تبدو العلاقة معه كاتفاق مُبرم، بإمكانك ملء بعض البنود بألوان أنت تختارها، مثل الفوسفوري أو الفوشي أو الأورانج، لتحديد الأولويات، الانتقال من مدينة لمدينة، مواعيد السفر، المناسبات والاحتفالات. كل هذا يحتاج إلى تقويم وملاحظة بجانبه وترتيبات قد تسبق كل هذا بأشهر إن لم يكن سنة، هناك من يقبض على يومه وغده، أما الماضي فهو موضوع بحث براغماتي سببي لا أكثر، ثمة تآلف مع الزمن والجميع يملك مفاتيح لإدارة وقته، لا وجود للصدفة أو "التيسير"، الوقت يرّن ستاً وتسعين مرة في اليوم ولا يُؤلم أصحاب المكان.
حين انتقلت للسكن في شقتي في دمشق قبل سبع سنوات، كانت هناك لاصقات على الجدران لعارضات أزياء ورسومات كرتونية (تويتي وباربي). لم تفلح الليفة المبللة بالماء بإزالتها، فقمت بتغطيتها بسجادات صغيرة أنتيكا، أما الصورة في الصالون فقمت بتغطيتها بساعة موزاييك جميلة، لكن هذه الساعة لم تعمل دقيقة واحدة، كانت مجرّد إكسسوار لتغطية عيب في الجدار.

يهبط المساء والنهار على الساعة وهي ميتة كوجه تعرّض لجلطة وانشلّ إلى الأبد، كيف يمكن احتمال سماع دقات الوقت في بلد يخطو خطوة إلى الوراء يوماً عن يوم، الزمن مُجمّد والبشر يتحركون بفضاء صمغي لا يستطيعون التملص من مؤثراته ودبقه وطوابيره وحركته البطيئة، ثمة ميوعة باستخدام الوقت في سوريا، حيث الحياة تبدو كتناول كيس شيبس في محطة باصات مكتظة بالناس، والباص لا يأتي، أو يأتي ممتلئاً ولا يتوقف، أو كملف "يشلفه" موظف في دائرة حكومية بين آلاف الملفات المتراكمة، ويقول لك: "تعال بكرة"، ولا أحد يعلم هل "بكرة" هو نفسه "الغد".

الصوت

صندوق من الأصوات دمشق بالنسبة لي، كرنفال من الضجيج الملوّن، سلسلة من الموجات الصوتية المتصلة بالعصب الحسي، تضبط إيقاع اليومي وترتب وقته، يبدأ النهار مع صوت رفعِ غلق محل الثياب في مدخل البناية التي أسكن فيها، يليها صوت الباعة المتنقلين، عربة يجرُّها حصان ترن أجراسه من بعيد، يبيع الليمون في الشتاء والبطيخ في الصيف، عند الظهيرة، تدور سوزوكي في الحي بحثاً عن خردة، تحمل مُسجّلاً يصيح بصوت يحمل نعاس الظهيرة ونزقها: "اللي عندو قازان نحاس، موتور براد محروق، كراسي مكسّرة، بطارية سيارة محروقة، بطارية ليدات محروقة للبيع".

متى أصبح الخارج أكثر وحشة وأقل أماناً يُصبح البيت أشبه بملجأ، وكلما غادر عدد من الأصدقاء تاركين شيئاً ما من أثرهم يأخذ هذا الملجأ معنى العوض، ومع الوقت تحوّل البيت إلى متحفٍ للغياب... مجاز أشباح الغربة

ثمة بائع غريب يمر مسرعاً في المساء، لم ألمحه يوماً ولا أعلم ما الذي يبيعه، يُردّد ثلاثة أصوات تنخفض تدريجياً، كنت أسميه بائع الصدى.
ثم السكون...

والأشجار المتدلية مع الصمت على الأرصفة، النظرات المهملة والابتسامة الموزونة، يمسح البرد الأسطح من دفء الجسد الذي كان هنا قبل برهة، ويدع المقعد ليتمتع بالفراغ من جديد. يذرو القطار الريح على جانبيه، حاملاً معه صوت الوحشة في الغابة، لا يبكي الأطفال ولا تنبح الكلاب، لا تدور الغسالة الأوتوماتيكية بعد الساعة السابعة مساء، ما من صوت امرأة تغني خلف صوت غسالة عادية وتكسر صليل هذا الليل المبحوح، لا تخرج من فم الجدران هذه زغرودة طويلة، أو سورة الرحمن بصوت عبد الباسط عبد الصمد، أو صفع أبواب أو زعيق جارتي التي كانت تفقدني صوابي.
لابد من إضافة القليل من الموسيقى لهذه العزلة الرمادية، استُبعدت أغاني الراب، إذ يبدو الأمر مثل صبِّ حديد منصهر في كيس من النايلون الشفاف، لابد من الهروب والعيش في حياة آخرين. أذهب إلى الكلاسيكية الألمانية في العصر الرومانسي. أستمع لشومان وموهلر وبراهامز ليومين لا أكثر. يبدو أن الاستمرار في هذا سيقود إلى جريمة، منظر البحيرة أمامي والبجع الذي يمد رأسه في الماء المتجمد ليلاً كفيل بذلك، يُذكرني سيوران بأن "الرومانسية الألمانية كانت خليطاً من الكحول والريف والانتحار". يجب تغيير هذه الخيالات على الفور. لا ينصح في هذه الحالة بالأغاني العراقية، فقد يسبب ذلك تداعي طيور جارحة من قمم جبال مسننة والسقوط مثل الموت إلى الهاوية. أذهب إلى أميركا اللاتينية، إلى الشوارع التي يذوب فيها الدبق على كؤوس الروم وإيقاعات اللاتين، أدعو جو جيلبيرتو  وسيزاريا إيفورا أن يبعثوا بعض الدفء من قيظ ظهيرة كسولة لا يدور فيها الوقت كعجلة.

الصورة

سبعة أقزام وبياض الثلج، عربة تعربش عليها لبلاب ومد أطرافه على الحائط المجاور، بيض ملّون على الأغصان العارية، فوانيس على العتبة، أيقونة على النافذة وستائر مخرمة، أسقف القرميد والأخضر النضر. يأتي الفجر مثل سرٍّ وكأن عشرات الجنيات اغتسلن للتو وغادرنه في ضبابه، وعند المغيب وحين تكون السماء صافية تصبح الشمس كبرتقالة تفجرت وصبغت رؤوس الأشجار بالزعفران، ثم يهبط الأزرق النيلي البهي كأصابع يتيم.
سبقتني الأعياد واحتفالات عيد الميلاد إلى هنا، فرشت الزينة وأشعلت الشموع. كيف أحمي الجدار المتصدع على جلدي من هذا الجمال!؟ كيف أُبعد الطلقات وأعلام البلاد الممزقة وصور الشهداء عن هذا المشهد النقي؟ أحياناً أشعر بأنني شوكة برية في بيت مهجور لا تصلح لتنبت في أي أرض، قارب مثقوب لا يغرق، كيف أنقذ هذا الوجه المكسور والنظرة الميتة، تلك التجاعيد الخرساء والشعرة البيضاء بين الحاجبين؟! أحيانا أخرى أصبح حافلة مسرعة على حاجز عسكري، زحمة على باب سجن، سيارة مساجين على أوستراد المزة، صراخ تحت سوط جلاد، وكل الوقت أفكر كيف أهرب بعيداً بعيداً عن كل هذا الركام.

"أحتفظ بك باردة في عمق لم تعد تنمو فيه الصور". ربما من الأفضل الأخذ  بقول إيف بونفوا وفعل ذلك، أن أضع جميع تلك الصور في ألبوم صور بلاستيكي على غلافه رُسم قلب فارغ اخترقه سهم وكتب إلى جانبه forever.
يرسل لي صديق صورة الطاولة كما تركتها في منزلي، عليها قصاصة أظافر، شمعتان والكثير من المناديل المكومة، ويرفقها بجملة "جاية الكهربا عندك؟".

على باب خزانة في المطبخ ألصقت ورقة صغيرة كان قد كتب لي عليها أحدهم: "اطمئن أيها الجنرال، لقد جليت نفسي".

أنا مطمئنة الآن، فالساعة على الحائط وقصاصة الأظافر والورقة على باب الخزانة، وحدهم من سمع صوت الباب المنغلق "هناك".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image