شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
بيروت... بغمضة عين ليس أكثر

بيروت... بغمضة عين ليس أكثر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 9 أبريل 202202:51 م

أشباح الغربة

بالتعاون مع مسعود حيون، المحرر الضيف لشهر نيسان/أبريل


شارع الحمرا. الساعة الثامنة صباحاً. الطبقة الخامسة من أحد المباني المجاورة لمبنى مقهى "كوستا" الذي يشرق عليه وجه "الصبوحة"، وكأنه يرحّب برواد الشارع الذي ينبض بالحياة وهي تغني للسياح المنبهرين بحيوية العاصمة "أهلا بالهطلة أهلا، أهلا بهالعين الكحلة". استفاقت ندى على صوت أمها يصدح في أرجاء المنزل وهي تحاول إيقاظ أخيها لأن باص "عمو عماد" سيصل قريباً.

وكأن صوت السيدة الوالدة لم يكن كافياً لإيقاظها، إذ علا صوت الجارة التي تتشاجر مع زوجها حول قميصه الذي لم تغسله له، ليمتزج مع صوت بائع الكعك وبائع الحديد ووقع حوافر حصان بائع "الكاز"، لتشكّل جميع هذه الأصوات سيمفونية تطغى على صوت السيدة فيرزو وهي تغني "يا جبل البعيد خلفك حبايبنا" من ذلك المذياع القديم الذي لم يفارق أمها في المطبخ يوماً. كان الدمع يترقرق في عيني الأم كلما سمعت هذه الأغنية، وكأن جبالاً وسهولاً وبحاراً وودياناً تحول بينها وبين عائلتها، هي إبنة "الضيعة" من إحدى قرى جبل لبنان التي تزوجت وانتقلت إلى بيروت.

عودة منتظرة

فتحت ندى خزانتها وأخرجت معطفها الأخضر، فهو يبرز جمال عينيها. والعينان اليوم تبرقان بشدّة، فاليوم موعد عودة الحبيب من السفر بعد طول غياب وانتظار. كان جيب المعطف ممزقاً قليلاً. استلّت علبة البسكويت الحديدية من أسفل السرير. تلك العلبة التي كانت تفرح في صغرها كلما رأتها في بيت جدتها أو عمتها، ولكنها كانت تُصاب بخيبة أمل في كل مرة. فلم يصادف أن وجدت البسكويت فيها، ولو لمرة واحدة، جلّ ما وجدت كانت خيطاناً ملوّنة وإبراً و"كشتبان" جدتها. لطالما أضحكتها هذه التسمية، "كشتبان"!

أكملت ندى ارتداء ملابسها، وضعت القليل من أحمر الشفاه، لملمت بعض الأوراق المبعثرة على مكتبها، وضعتها في كتاب، أمسكت قلم "بيك" أزرق كان مرمياً على الأرض، وحملت معطفها ومظلتها الوردية، فقد حذرت مذيعة "الإم تي في" ذات الفستان الأحمر القصير والشعر الأشقر، أو "المستشقر" الطويل، من تشكّل السحب بعد الظهر. كانت تهم بالخروج متسللة من المنزل، هرباً من النقاش الصباحي المعتاد مع أمها حول الفطور.

كان والدها هو الوحيد الذي لا يتحتم عليه الدخول في ذلك النقاش الصباحي المعهود. فهو يستفيق باكراً ليتوجه إلى مقهى "الروضة". مقهى بيروتي "عتيق" يجتمع فيه أهالي بيروت. مقهى بسيط بكراسٍ وطاولات بلاستيكية. يمكن للزائر أن يختار الجلوس إلى طاولة مطلة على البحر أو التوغل بين الأشجار ليحتسي فنجاناً من القهوة بعيداً عن صخب المدينة. حتى إنه قد يقابل الإعلامي زاهي وهبة أو الممثل رفيق علي أحمد، أو غيرهما من المشاهير من رواد المقهى.

علا صوت الجارة التي تتشاجر مع زوجها حول قميصه الذي لم تغسله له، ليمتزج مع صوت بائع الكعك وبائع الحديد ووقع حوافر حصان بائع "الكاز"، لتشكّل جميع هذه الأصوات سيمفونية تطغى على صوت فيرزو وهي تغني "يا جبل البعيد خلفك حبايبنا"... مجاز أشباح الغربة

أما ندى، فضبطتها أمها بالجرم المشهود وهي تحاول فتح باب البيت. إذ رمقتها بنظرات ثاقبة وهي تقف أمام طاولة المطبخ التي وضعت عليها "مكدوس الضيعة" و"اللبنة المكعزلة" والمربى والزعتر والجبنة، وسألتها وهي تضع يدها اليمنى على خاصرتها: "أنا لمين حضرت الترويقة يا ست ندى؟".

دائماً ما تتحوّل النقاشات مع أمها إلى مسلسلات درامية من جزءين. فالجزء الثاني ينتظرها في حال قررت تناول الغداء في الخارج. وهو ما سيحصل على الأرجح، فهي ترغب بغداء رومنسي مع زياد في مكانهما المفضّل. في زاوية من زوايا كليمنصو، بالقرب من المستشفى، طريق فرعي ضيق فيه مبنى قديم مؤلف من بضع طبقات، أربع طاولات بالخارج مغطاة خوفاً من إمكانية هطول الأمطار، مطعم باستا صغير على الطراز الأوروبي. أغطية طاولات زينتها مربعات بيضاء وحمراء. شعرت برغبة في زيارة هذا المطعم، في أن تفتح الباب لتلفحها رائحة الحبق الطازج ممزوجة برائحة الحبيب الذي طال غيابه. باستا بمذاق إيطالي حتى تخال نفسها في شوارع روما.

أشعرها التفكير بموعد الغداء بالجوع. فقررت الوقوف في طريقها إلى الجامعة لتبتاع "منقوشة" زعتر من فرن "غلاييني" بمئتي وخمسين ليرة مع عصير "بونجوس" الهرم. طريق لو كان من طين لوجدت خطواتها محفورة عليه.

من الحمرا إلى شارع "بلس". كانت تحب أن تتغلغل في أزقة الحمرا، أن تمر بجانب ذلك البيت القديم بقرميده الأحمر وقناطره التي لا تزال تقف شاهدة على فن العمارة الأصيل الذي لطالما أحبته، وتلك السيارة الزرقاء القديمة الصغيرة المركونة أمامه كانت تتعمد المرور أمام مطعم "بربر" لترى الزبائن الواقفين أمامه متكئين على سياراتهم، إن مرت في وقت الظهيرة، وهم يغوصون في "صندويش الشاورما" و"الطرطور" ينهمر على أكمام قمصانهم، أن تتغلغل رائحة "الكريب" الطازج من "تونينو" في ثنايا روحها، أن تتأمّل ألوان المثلجات عند "بلس". لطالما تساءلت عن سبب حبها الشديد لمثلجاته. لربما كان ذلك يعود إلى أمها، فقد أخبرتها أنها كانت تقصده كل يوم فيما كانت حاملاً بها.

استراحة قصيرة

تسارعت خطوات ندى فجأة. فقد تنبّهت إلى الوقت. ستبدأ المحاضرة قريباً. مرّت لتلقي التحية على "أبو ناجي" في دكانه الصغير مقابل المدخل الرئيس للجامعة الأمريكية. دكان صغير أشبه بأرض العجائب. فيه كل ما قد تشتهي أو تحتاج إليه في الاستراحة ما بين الصفوف أو في طريقها من حصص المختبر في مستشفى الجامعة الأمريكية، أو في سهراتها الطويلة في مكتبة الجامعة. ابتاعت أكواب القهوة الصباحية لها وللرفاق وسارعت إلى لقائهم على ذلك الدرج المقابل للمكتبة. أتت القطة الصهباء التي كانت رفيقة أيامها الدراسية لتلاعبها. أحبت تلك القطة دون غيرها من القطط التي اتخذت من تلك القرية البيروتية مقراً لها.

دخلت المحاضرة. نظرة إلى اللوح، ثم نظرة إلى الساعة، ثم نظرة إلى الشباك. حبيبان يجلسان تحت ظل الشجرة الكبيرة. ثم نظرة إلى الساعة. لربما توقفت عن العمل. فقد استحالت الدقائق ساعات. صفعت ندى الساعة علّها تستفيق من غيبوبتها. ثم نظرة إلى الشباك، حيث يجلس الحبيبان. "مِس ندى، شو رأيك بالموضوع؟". أربكها صوت الدكتور.

بيد أن الساعة استفاقت أخيراً من غيبوبتها وأنقذتها هذه المرة من السؤال المحرج معلنة انتهاء المحاضرة. إلا أن الدكتور استوقف الطلاب الذين كانوا يتسابقون للخروج من القاعة طالباً منهم شراء كتابين للمحاضرة القادمة. سارعت ندى إلى السيارة التي ركنتها في شارع الحمرا الرئيس بالقرب من "إلدورادو" بعد أن باءت محاولاتها بالفشل في الليلة المنصرمة في إيجاد مكان لركن السيارة بالقرب من البيت. لم تتلفت يميناً ولا يساراً نحو واجهات المحلات التي كانت تستحوذ عادة على انتباهها، ولم تستمع إلى البائعات وهنّ ينادين "تفضلي مدموزيل"، بل مشت بخطوات سريعة قبل أن يبدأ المطر بالانهمار.

كان لديها متسع من الوقت لشراء الكتب قبل لقاء زياد. من تحت جسر الكولا  مرّت بجانب جامعة بيروت العربية. رأت صديقين من أصدقاء المدرسة فألقت عليهما التحية وهي تنتظر أن تتحرك السيارات أمامها. فيما كانت تشق طريقها في زحمة السير في "طريق الجديدة" تأمّلت واجهة محل "الهواري" التي تضم ما لذ وطاب. أكملت طريقها فإذا بحلويات "صفصوف" تسلب نظرها. كانت تجلس وراء مقودها وهي تشعر وكأن قطعة الحلوى الصفراء الهشّة تلك تذوب في فمها. شعرت فجأة برغبة في تناول الحلويات. قررت أن تمر في طريق العودة إلى المنزل إلى "أمل بحصلي" لتستمتع بقطع "الكرابيج"، تلك العجينة الهشّة التي تلف حبات الفستق كخمار مخملي وتلامس بياض "الناطف" الناصع كحسناء جالسة على ثلوج جبال لبنان المتلألئة.

وصلت ندى إلى وجهتها. في زاوية من زوايا منطقة قصقص، مقابل "التعاونية" دكان صغير كانت رفوفه، قبل 60 عاماً، تحمل الأرز والعدس والطحين لتشبع سكان المنطقة وها هو الآن يحمل كتباً وصحفاً وموسوعات ليشبع قارئاً نهماً. "مكتبة الحلبي" بممراتها الضيقة تحمل عبق الماضي. مؤلفات جبران خليل جبران ومحمود درويش تحاصرها من جميع الجهات في عناق من نوع آخر. لطالما عشقت رائحة الكتب القديمة، ووجدت فيها سحراً يجذبها.

بيد أن سحر الكتب القديمة ورائحتها لا يضاهيان سحر عيني زياد. برقت عيناها حين برقت شاشة هاتفها باسمه. أراد تفادي زحمة سير النفق المؤدي إلى الحمرا. فكل من عاش في بيروت يدرك أن الذكاء يكمن في ركن السيارة والتوجه إلى شارع الحمرا "بالسرفيس" هرباً من زحمة السير الخانقة وأزمة إيجاد مكان لركن السيارة.

لذا قررا اللقاء في وسط البلد عوضاً عن مطعم الباستا في "كليمنصو". سارعت ندى إلى دفع ثمن الكتب، ألقت بنفسها وراء المقود، ألقت الكتب في المقعد الخلفي، ودقات قلبها تسبقها إلى زياد. فيما كانت تقف على الإشارة الحمراء فتحت بيدها اليمنى حقيبتها التي كانت أشبه بحقيبة "ماري بوبنز"، وراحت تحرك يدها يمنة ويسرة.

مرت على مفاتيح البيت وتلك التفاحة التي دسّتها أمها في حقيبتها خلسة وقلم "البيك" الأزرق، إلى أن وصلت إلى مبتغاها. لكنها وصلت متأخرة، فقد أضاءت الإشارة باللون الأخضر، فاضطرت إلى الانتظار حتى بلوغ الإشارة الثانية. فتحت المرآة أمامها ووضعت الماسكارا التي تبرز لون عينيها الخضراوين، وأخذت قلم الحمرة لترسم الشفتين على مرأى من جارها الذي يرمقها بنظراته من السيارة المجاورة ويغمزها وكأنه "دونجوان" عصره.

رحلت "الصبوحة" ولم تعد تستقبل السياح ولا تغني لهم "أهلا بهالطلة أهلا"، ورحل "أبو ناجي" وافتقده طلاب الجامعة الأمريكية. تحوّل مقهى "كوستا" إلى مقهى "روسا". طوّقت الحواجز ساحة النجمة، وانطفأ نجمها. خفت صوت النادل الذي يلاحق خطواتها. طارت البالونات من يد ذلك البائع الذي يقف أمام الكنيسة... مجاز الغربة في رصيف22

ركنت ندى سيارتها في أحد الشوارع وراء مبنى "اللعازارية"، ذلك المبنى الذي كان شاهداً على ازدهار بيروت بالأسواق التي أحاطت به في "إيام العز" كما تقول جدتها في السهرات العائلية الشتوية حول "المنقل" الذي يبعث الدفء في النفوس فيما تبعث حكايات الجدة الطمأنينة فيها.

من رياض الصلح، ركض كل نادل باتجاهها لدعوتها إلى مطعمه. وكأنهم في سباق للفوز بزبون لمطاعمهم التي لا يمكن تفاديها، فهي تمتد على جانبي الطريق المؤدي إلى الساعة الشهيرة التي تقف على باب مبنى البرلمان اللبناني تعانقها مقاهي الأرصفة التي تعج بالرواد ليلاً ونهاراً. تصل ندى أخيراً، بعد أن تملصت من دعواتهم، إلى ساحة النجمة.

تستقبلها أسراب الحمام. بائع بالونات بجمال ألوانها وأشكالها. طفلة صغيرة تبكي لأن بالونها الوردي طار في الهواء. تقف حزينة تشاهده يعلو فوق كاتدرائية سان جورج، ثم فوق مسجد محمد الأمين، ثم يتلاشى عن الأنظار. صغار يتسابقون على دراجاتهم. ها هو الحبيب يقف إلى جانب الساعة بسرواله وقميصه "اللاكوست" الذي لطالما تجادلا حول لونه الذي تراوح ما بين الأحمر والبرتقالي. أطلت وردة حمراء خجولة من وراء ظهره، فهو لم يكن معتاداً على الرومنسية، إنما كان يحاول جاهداً من أجل ندى وعيني ندى.

توجها إلى مطعم البلد. كفتة وحمص وتبولة و"رقاقات" بجبنة و"بطاطا حرّة". لم تكن ندى تشعر بالجوع أو العطش بقدر ما كانت متعطشة للتمعن بملامح وجه زياد. فقد مرّت تسعة أشهر على سفره إلى فرنسا لإكمال تحصيله العلمي للحصول على شهادة "الماجستير" في الهندسة.

كانت تتأمل وجه زياد كزائر في أحد المتاحف يقف مذهولاً أمام لوحة فنّية تُعجبه. يتأملها بكل تفاصيلها. يغوص في ألوانها وخطوطها. لطالما أحبت ندى الفن والفنون والموسيقى، كانت تهوى كل ما يلامس الروح برقّة. نظرت إلى تلك العلامة التي تقف على جبين زياد شاهدة على شقاوة الطفولة. أخرجت من حقيبتها سيارة صغيرة حمراء لفّتها بورق لامع وعقدة ذهبية اللون. كان زياد قد أخبرها في بداية علاقتهما عن تلك السيارة الحمراء التي رآها في أحد متاجر الألعاب في صغره.

عاد يومها إلى البيت مكسور الخاطر بعدما رفض والده أن يبتاعها له. إلا أنه استيقظ في صباح اليوم التالي ليجد تلك السيارة مركونة إلى جانب رأسه على وسادته. كانت ندى تتنبه إلى جميع تفاصيل زياد وحياته، فتذكرت تلك القصة وخطّت له بطاقة كتبت عليها: "عسى أن أتمكن من تحقيق جميع أحلامك تماماً كما تحقق حلمك بالسيارة الحمراء". أما هو فأخرج من جيبه علبة صغيرة احتضنت خاتماً تلألأت عليه حبة من الألماس عكست بصفوها بريق عيني ندى عند النظر إليها.

أمسك بيدها وبكلماته التي بالكاد شقت طريقها إلى ثغره، أخبرها متلعثماً عن حبه الكبير لها متمنياً أن يكملا الدهر ويشيخا معاً. أخذ الحبيبان يخطان صفحات مستقبلهما معاً. يعود هو بعد عام إلى لبنان وتكون هي على وشك إنهاء دراستها. يبدآ العمل وبناء مسيرتيهما المهنية على أرض الوطن ويستأجرا بيتاً. ثم زواج وأطفال. أرادت هي طفلين فيما أصرّ هو على تأسيس عائلة لبنانية كبيرة.

كانت ندى قد ابتاعت تذكرتين لزيارة متحف سرسق في الأشرفية، ذلك المعلم التراثي الثقافي الذي يشكّل أحد ملامح "ست الدنيا" الجميلة. لم يكن زياد من هواة الفن، بل كان يفضل الذهاب إلى السينما في مجمّع "الآ بي سي" التجاري، أيضاً في الأشرفية، لمشاهدة فيلم تشويق، على زيارة متحف لتأمّل أعمال فنّية لم يفهم فحواها يوماً. إلا أن ندى أصرت على زيارة المتحف الذي افتتح منذ أيام معرضاً لبيكاسو. توجها معاً إلى "حي السراسقة".

كان مبنى المتحف تحفة بحد ذاتها، أشبه بعروس جميلة بفستانها الأبيض الحريري. كانت قاعاته تضم قطعاً فنّية وأثرية، قديمة ومعاصرة، تقف شاهدة على الهوية الثقافية لبيروت. راحت ندى تغوص في لوحات العظيم بيكاسو، إلا أن زياد وقف حائراً أمام تلك الخطوط والأشكال الغريبة التي تتميّز بها الحركة التكعيبية.

بعد عناق حار بين الحبيبين ذهب كل في طريقه على أمل اللقاء في اليوم التالي. فزياد لم يلتقِ بوالديه بعد بل سارع من المطار للقاء الحبيبة. عادت ندى إلى سيارتها. أمسكت بهاتفها. بمجرد أن سمعت "ألو" على الجانب الآخر من الخط راحت تصرخ فرِحةً وهي تزف الخبر السار إلى صديقتها ناتالي.

زحمة خانقة

فيما كانت تقود سيارتها على كورنيش المزرعة، بعد "الكولا"، سار أمامها "فان" زيّنه صاحبه بعبارات مثل "ما حدا لحدا" و"سيري وعين الله ترعاكِ" و"لا تلحقني مخطوبة". تضحكها هذه العبارات في زحمة السير الخانقة. لمحت عند إشارة السير الصبي الصغير الذي يبيع الورد. اشترت منه قبل يومين. سارعت إلى إغلاق النافذة قبل أن يصل إليها. يضيق صبرها من شرطي السير الذي يقف إلى جانب الطريق يحادث فتاة جميلة.

فيما كانت تدندن بصوتها الشجي، الذي اعتادت أن تطرب به الرفاق المساكين، أغنية فيروز "بكرم اللولو في سلّة مليانة عناقيدها سود"، بدأت حبات اللولو بالانهمار على زجاج السيارة. لطالما تساءلت عن سبب الهستيريا التي تصيب سكان العاصمة فور انهمار الأمطار. زحمة سير خانقة على كورنيش المزرعة. شقت طريقها بين الأحياء هاربة من أصوات أبواق السيارات ومن صراخ سائقي "السرفيس". تملكتها رغبة بالاستمتاع بيوم بيروتي شتوي. قادت سيارتها نحو عين المريسة. توقفت عند دكان "نسرين"، أطلت برأسها من السيارة.

"شوكولا ساخنة مع نستله لو سمحت". سمعت وقع المطر على الزجاج الأمامي لسيارة والدها القديمة. أخذت تتنشق رائحة المطر الذي يلامس أرض بيروت كحبيب يعانق حبيية بعد غياب فتتغلغل رائحة شعرها في عروقه وتبقى عبيراً على صفحات حياته مهما أحب بعدها من النساء.

وصلت ندى إلى البيت وحذاؤها مبلل بالمياه، فوجدت أمها بانتظارها أمام باب البيت حتى تمنعها من الدخول بالحذاء. إذ كان "السجاد" في بيت ندى وفي جميع بيوت بيروت لوحة تحرص الأم على الحفاظ عليها كقطعة فنّية في متحف. دخلت غرفتها. اختارت فستاناً أسود للسهرة. فاليوم عيد صديقتها فرح وستحتفل الصديقات بها في مطعم "لوريس".

سمعت وقع المطر على الزجاج الأمامي لسيارة والدها القديمة. أخذت تتنشق رائحة المطر الذي يلامس أرض بيروت كحبيب يعانق حبيية بعد غياب فتتغلغل رائحة شعرها في عروقه وتبقى عبيراً على صفحات حياته مهما أحب بعدها من النساء... مجاز أشباح الغربة

من شارع الجميزة إلى مار مخايل. حاولت عبثاً إيجاد مكان لركن سيارتها. إلا أنها مهمة مستحيلة. فالشارع هو الوجهة المثالية لرواد المطاعم والمقاهي وأماكن السهر في أيام الأسبوع. فهم يخرجون من مكاتبهم وشركاتهم، يسرع كل منهم إلى بيته لوضع لمسات على الأناقة اللبنانية الشهيرة، ويعودون إلى ذلك الشارع التراثي، بمبانيه القديمة التي تزيّنها القناطر.

حتى إن ركن السيارة في محطة "متّى" كانت مستحيلة، فلم تجد ندى أمامها سوى خياراً وحيداً. ركنت سيارتها، أو سيارة أبيها التي استولت عليها، بالقرب من محطة الكهرباء وسارت باتجاه المطعم.

كانت تشق طريقها بين صفوف الساهرين الذين ضاقت بهم المطاعم فاتخذوا من الطرقات مكاناً للسهر. إلا أن ذلك لم يزعجها، فهي تحب صوت موسيقى الجاز من ذلك المطعم، أو صوت وائل كفوري من ذاك. رأت الجميلات يتمايلن على أنغام الموسيقى.

 فتحت باب المطعم وإذا بها تشعر فجأة بلهب من نار. أحست بضيق نفس وكأن دخاناً يحول دون دخول الأكسيجين إلى رئتيها. وكأن عالمها يهتز. لم تعد قادرة على تحمّل الحرارة.

وإذا بها تستفيق على صوت الهاتف الذي أعادها إلى الواقع. سارعت إلى وضع الهاتف على وضعية الصامت فقد أزعجها رنينه. أزعجها ما رأته على شاشة الهاتف. 2 آب- أغسطس 2021. شبكة "اتصالات" الإماراتية. أدركت أن الحرارة التي شعرت بها كانت حرارة الإمارات الحارقة في شهر آب- أغسطس.

لم تشعر بالرغبة بإجراء محادثة هاتفية أخرى مع أمها تخبرها فيها عن متابعتها الحثيثة لبورصة الدولار عند جارها الصراف "أبو حسن"، وعن شكاوى جارتها من غلاء أسعار الفواكه والخضار عند "الخضرجي سمير".

لم تشعر بالرغبة في العودة إلى الواقع. فقد ساقها الحلم على متن الذكريات إلى يومٍ بيروتي حافل، ثم أيقظها اتصال أمها.

فقد رحلت "الصبوحة" عن عالمنا، ولم تعد تستقبل السياح ولا تغني لهم "أهلا بهالطلة أهلا"، ورحل "أبو ناجي" وافتقده طلاب الجامعة الأمريكية. تحوّل مقهى "كوستا" إلى مقهى "روسا". طوّقت الحواجز ساحة النجمة، وانطفأ نجمها. خفت صوت النادل الذي يلاحق خطواتها. طارت البالونات من يد ذلك البائع الذي يقف أمام الكنيسة. تعطلت دراجة الصبي الذي تلحق به أمه.

تبخرت فقاعات المياه التي تلعب بها الفتاة الصغيرة بشعرها الذهبي. علقت الطائرة الورقية الملوّنة بين أغصان الشجرة الكبيرة. تفرّق العاشقان اللذان يجلسان في الزاوية يسترقان لحظات رومنسية، هاجر تاركاً الحبيبة وراءه. أغلق مطعم البلد أبوابه. انطفأت أضواء المقاهي وأُقفلت أبواب البيت في الطبقة الخامسة من إحدى أزقة الحمرا، فقد فرغ المطبخ من "المكدوس" واللبنة، وقرر أخو ندى الدراسة بالخارج. أقفل مطعم "لوريس" أبوابه، بل لم يبقَ له أبواباً يغلقها بعد انفجار الرابع من آب 2020. محطة "متى" أضحت ركاماً شاهداً على فاجعة ألمت بمدينة الحياة التي اتّشحت بالسواد. أما كوب الشوكولا الساخن ذاك الذي حلمت به فقد بات مراً مرارة الوضع، فقد انقطع "النستليه" من الأسواق.

قُطعت طريق كورنيش المزرعة بالإطارات المشتعلة احتجاجاً على انقطاع الكهرباء عن العاصمة. اتشحت بيروت بالسواد. باتت تخلع ثوباً لترتدي الآخر. ثوبها المسائي أسود مطرّز بأضواء بيوتها التي انطفأت. أما ثوبها نهاراً، فهو أسود تفوح منه رائحة الإطارات المشتعلة، لا بل رائحة أحلام هؤلاء الشباب المشتعلة.

نهضت ندى من السرير لتغلق نافذتها في دبي. إذ تؤرقها رائحة الإطارات المشتعلة، والأحلام المشتعلة في بيروت...

أما هي فكانت قد وضعت أحلامها، وعائلتها، وحبيبها، وجامعتها، وكتبها، وطموحها، وذكرياتها... أو ما تبقى منها كلها، في حقيبة وضبتها جيداً. وقبل أن تهم بالرحيل من ذلك البيت البيروتي بالطبقة الخامسة في زاوية من زوايا الحمرا... عادت لتأخذ صورة منسية في أحد الأدراج بالقرب من سريرها.

صورة بيروتها الجميلة الأنيقة الضاحكة، التي بدأت ألوانها تتلاشى، وكأن ذلك كله حصل... بغمضة عين...

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard