ضمن أحد مجالس العزاء، وبعد إتمام مراسم الدفن، قام ذوو الفقيد بدعوة من شاركهم الصلاة على المرحوم إلى مائدة الرحمة. ومن بين المدعويين شخصان معروفان بأنهما لا يفوِّتا "لقمة رحمة" من دون أن يشاركا فيها. ولأن فقيد ذاك اليوم كان من أهل العزِّ والجاه، فإن تلك المائدة كانت عامرةً باللحوم، سواء التي تُغطي وجه المناسف مع المكسَّرات الفاخرة، أو تلك المصنوعة كلحم بعجين، إلى جانب لبن الغنم. ما أن انتهى الرَّجُلان من الأكل بنهمٍ، وفي أثناء مغادرتهما مجلس العزاء، قال أحدهما غامزاً من قناة الآخر: "لكثرة سعادتي بهذا الطعام، ترحَّمتُ على الفقيد من كلّ قلبي".
مثل هذا المشهد يتكرر كثيراً في سوريا، لا سيما بعد أن أصبحت اللحمة طبقاً نادراً على موائد غالبية السوريين، بسبب ارتفاع الأسعار الجنوني. في المقابل، هناك من يرى أن الاستمرار في هذا الطقس المتعلّق بموائد الرحمة بات نقمةً على أهل الميّت، لا سيما إن كانت أحوالهم المادية لا تسرّ الخاطر، ومع الغلاء الفاحش تصبح تكاليف "لقمة الرحمة" لا ترحم أبداً، إذ باتت تكلفة منسف أرز أو فريكة مع الفروج أو اللحم تتجاوز بضع مئات من الألوف، من دون احتساب أجرة صالة العزاء وتكاليف القهوة المرة وغيرها، لكن مع ذلك يصعب على الكثيرين التخلي عن هذا الواجب الاجتماعي تجاه المُعزِّين، ويرونه كرامةً لفقيدهم، على اختلاف المرجعيات الدينية لهذه العادة المجتمعية، وتعدد الحكايات عن أصلها وطقوسها، والمعاني الكامنة خلفها.
جبر القلوب
يقول الشيخ عبد الرحمن البكري، لرصيف22، إن "الإسلام يستند في "لقمة الرحمة" إلى حديث الرسول عليه الصلاة والسلام، من أنه لما جاءه نعي ابن عمه جعفر بن أبي طالب حين قُتِلَ في معركة مؤتة، قال لأهله: ابعثوا لأهل جعفر طعاماً، فقد أتاهم ما يشغلهم، وعليه فإن السُّنَّة تقول إن من واجب أقرباء الفقيد وجيرانه أن يبعثوا طعاماً مصنوعاً لأهل الميت، كي لا يكلفوهم عناء الطبخ، وإعانةً لهم وجبراً لقلوبهم، فإنهم ربما انشغلوا بمصيبتهم وبمن يأتي إليهم بإصلاح طعام لأنفسهم، وبهذا يستطيعون إكرام ضيوفهم، والإحسان إليهم، وفي هذا لا حرج نهائياً، لا سيما أن إكرام الضيف أمر لازم على المسلم، فالنبي قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه".
السُّنَّة تقول إن من واجب أقرباء الفقيد وجيرانه أن يبعثوا طعاماً مصنوعاً لأهل الميت، كي لا يكلفوهم عناء الطبخ، وإعانةً لهم وجبراً لقلوبهم
أما المكروه والمذموم، حسب البكري، فهو أن يقوم أهل الميت بصنع الطعام من مالهم للناس، لأنهم بذلك يتخلُّون عن قيمة الرحمة بذوي الفقيد التي أوصى بها الرسول. يقول: "مرجعنا في ذلك ما قاله جرير بن عبد الله البجلي وهو الصحابي الجليل: "كنا نعدّ الاجتماع إلى أهل الميت، وصنعة الطعام بعد الموت من النياحة"، أي إذا فعله أهل الميت من مالهم، أما إذا فعلوه للضيوف الذين نزلوا بهم من سفر، أو فعلوه من الذبائح التي جاء بها الضيوف، فهذا ليس فيه بأس؛ فهم ملزمون بذلك".
ويضيف البكري: "الأكل من الطعام الذي يُصنع على صفة تُخالف السنّة قد يكون حراماً، وأقلّ أحواله أنه مكروه، والمقصود الطعام الذي يُصنع ويُتكلَّف فيه لأجل هذه المناسبة، أما إذا عمل أهل الميت طعامهم العادي أو جاءهم طعام من أقاربهم أو جيرانهم فلا بأس بالأكل من هذا كله".
برغل بحمّص
لا تختلف تقاليد "لقمة الرحمة" الاجتماعية عند الطائفة العلوية إلا في بعض التفاصيل، وهي كما يقول العم جعفر الإبراهيم: "ذلك الطقس مقتصر على الرجال دون النساء، بالإضافة إلى أنه غالباً ما تكون الوليمة مكونةً من البرغل المطبوخ مع اللحم وإلى جانبه اللبن الرائب، والسبب في ذلك يعود إلى التأثر بطقوس إيمانية قديمة لها علاقة بالإله السوري القديم "دجن"، ومعنى اسمه "الحنطة" أو "السمكة" وهو إله الحبوب والزراعة والخصب".
يروي الإبراهيم، أن "هذه العادة مستمرّة إلى يومنا، وأحياناً يُضاف الحمّص إلى البرغل، وتختلف طبيعة الذبيحة حسب مكانة الشخص المتوفى وإمكانات ذويه، وفي بعض الأحيان تقتصر لقمة الرحمة على توزيع الخبز على الناس، كنوع من الصدقة من أجل أن يترحم الناس على الفقيد عسى ذلك يخفف عنه عذابات القبر أو يتمّ الغفران له، بغض النظر عن وجود ذبائح ولحوم".
والتقليد الشائع الحالي هو دمج القمح باللحم، عن طريق صنع اللحم بعجين أو "الصفيحة"، كونه أسهل، ولأنه قد يكون مستساغاً أكثر للناس، مع أن الكثير من المعزين لا يفضلون الأكل في مثل هكذا مناسبات، لأنهم يشعرون وكأنهم يأكلون لحم الميت نفسه، حسب الإبراهيم الذي يلفت إلى أنه قد يحضر أناس من طوائف أخرى مائدة الرحمة، لكن لا يمكنهم أن يحضروا الصلاة على الميت، ولا الصلاة في أثناء الذبح، وحتى الأشخاص العلويون الذين لا يعرفون الدين لا يحضرون أيضاً.
حالة اجتماعية وروحية
الكثير من المعزين لا يفضلون الأكل في مثل هكذا مناسبات، لأنهم يشعرون وكأنهم يأكلون لحم الميت نفسه
أما على صعيد التقاليد الدرزية في ما يتعلق بلقمة الرحمة، فيقول حسام أبو فرح، مدير مكتبة كلمات في صحنايا، إنها "عبارة عن أطباق من الطعام يأخذها الأصدقاء والجيران وأهل القرى معهم إلى أهل المتوفى خلال أيام العزاء، من فطور وغداء وعشاء، وذلك من أجل مؤازرتهم على إكرام ضيوفهم الذين جاؤوا من سفر أو أماكن بعيدة لمشاركتهم في التعزية، خاصةً أنهم مشغولون بأحزانهم، ويتم ذلك كنوع من التعاضد الاجتماعي".
ولقمة الرحمة عن روح الفقيد حالة اجتماعية وروحية في الوقت ذاته، والعادات في جبل العرب، حسب أبو فرح، أنه "لا يتوجب على أهل الميت أن يصنعوا طعاماً لضيوفهم طالما العزاء قائم، لأن ذلك يُعدّ خروجاً عن التقاليد والعادات في مجتمع الدروز، ويعدّه البعض إعلاناً من ذوي المتوفى بأنهم وحيدون وليس لهم أحد، والمجتمع يرفض هذا التصرف الذي يدل على عدم التكافل والتعاضد المجتمعيَين، والاتفاق هنا على أنه تكفيك أحزانك، نحن نساعدك في هذا الجانب".
ويضيف: "يحق لأهل المتوفى أن يقيموا لقمة الرحمة بعد مرور أسبوع، كنوع من رد فضل الآخرين الذين ساندوهم طوال فترة العزاء، واستكثار خيرهم لأنهم وقفوا معهم، والموضوع أشبه برد كرامة، كما أن هناك من ذوي القربى من جاؤوا من سفر بمناسبة الأسبوع لذا لا بد من تهيئة الطعام لهم، لكن الموضوع ليس أكلاً وشرباً فقط، وإنما تبادل كرامات، والآن بات هناك نوع من الفوضى في هذا الطقس، وتملق وبذخ زائدان وتنافس ومبالغات، وأنا معها مهما كانت، لأنها تساهم في إنعاش قيم المجتمعات لا سيما المأزومة منها كمجتمعاتنا".
بعد صلب المسيح، وفي أثناء إقامة القداديس كانت هناك رتبة كنسية للإناث اللواتي يُدعَون "الشّمّاسات"، يصنعن الطعام ليجتمع جميع المصلين بعد القداس على "مائدة محبة"، ومنها انبثقت "لقمة الرحمة"
يلفت مدير مكتبة كلمات إلى أن الواجبات الاجتماعية والكرامات فرضت على لقمة الرحمة أن تكون متضمنةً اللحم، لكن المجتمع حالياً وبسبب الظروف الاقتصادية العصيبة خفف من التزامه الصارم ذاك، من دون أن يعني ذلك التخفف وأن تصبح تلك اللقمة عبارة عن مجدرة مثلاً.
ترى شريحة من المشايخ الدروز أنه من الواجب أن يأكل المرء ولو ملعقة واحدة، كرامةً للميت وأهله ولصاحب السفرة، ومع ذلك أحياناً يقف الشيخ على السفرة ويباركها من دون أن يأكل، والمراجع الروحية تبرر امتناع شيوخ الطائفة عن الأكل وحتى الشرب في بعض الأحيان، ولو أتوا من محافظة إلى أخرى، من أجل ألا تذهب حسنة سعيهم وثوابه تجاه الترحم على الميت.
روح المحبة
"للقمة الرحمة جذور إيمانية في الديانة المسيحية"، يقول الأب بول ربان، ويروي قصةً يراها تفضي إلى إدراك عمق معنى تأتِّي الرحمة للميت عبر تقديم الطعام وكيفيتها. يقول: "كان في قريةٍ فقراء منهم ثلاثة معوّقين منبوذين يعيشون على باب الله. وكلَّما حدث عزاءٌ كان أهل الميت يُوزعون الطعام على العوائل المتعففة، ويكون الثلاثة ضيوفَ مائدة العزاء. وعندما ينصرفون شباعى يدعون للميت ويشكرون الله قائلين: "يا رب ليكن كل يوم هكذا". أي أنهم أكلوا فشكروا الرب وصلّوا من أجل الميت. هذا هو المبدأ الذي تأسست عليه لقمة الرحمة قبل أجيال".
يضيف: "ذوو الميت حزانى، لذا ينشغل أقاربهم بتهيئة الطعام لهم وللغرباء وللمحتاجين، سائلين بعملهم الرحمة للميت. والمُعَّزون يُصلون، عند دخولهم أو مغادرتهم مكان العزاء. والذين يبقون لتناول الطعام مع الحزانى يجلبُ لهم أهلهم الأكل من البيت، ويكثرون منه حتى يكفي الحاضرين كافةً. وهذا بروح المحبة ومشاركة الناس أحزانهم مثل أفراحهم".
أُفرغ هذا الطقس من قيمه الإيمانية والروحية، وبات مثاراً للمباهاة، والتباري في المبالغة فيه، واهتموا بالمظهر على حساب الجوهر
وهناك من يعتقد أن جذور لقمة الرحمة تعود إلى العشاء الأخير الذي اجتمع فيه المسيح مع تلامذته سراً، قبل أن يتمّ تسليمه للصلب، ومنهم الأب بشار قره الكاهن الأرثوذوكسي، الذي شرح في حديث إلى رصيف22، أنه بعد صلب المسيح، وفي أثناء إقامة القداديس كانت هناك رتبة كنسية للإناث اللواتي يُدعَون "الشّمّاسات"، ووظيفتهن تقتضي أن يصنعن الطعام مما يجلبه المؤمنون إلى الكنيسة، ليجتمع جميع المصلين بعد القداس على "مائدة محبة"، ومنها انبثقت "لقمة الرحمة" التي يجتمع حولها المعزّون، طلباً للرحمة والغفران وراحة نفس الفقيد، لكن الكثير من المسيحيين أفرغوا هذا الطقس من قيمه الإيمانية والروحية، وبات مثاراً للمباهاة، والتباري في المبالغة فيه، أي أنهم اهتموا بالمظهر على حساب الجوهر.
"صلا من القلب بتكفّي"
ويؤكد ذلك ما قاله الشاعر عصام ملكي في قصيدته التي عنونها بـ"لقمة الرحمة":
"لقمة الرحمة وحق مار الياس
أجناس صارت عند ناس وناس
فيها الغني بيشوف حالو كتير
وفيها الفقير بيلحقو التعتير
وقت البيدفع كلفة القداس
***
بيقول بدنا حسابنا نصفـّي
صف الغني ما بحسبو صفي
مِنـّي اعرفوا يا حباب يا إخوان
لقمة الرحمة شقفة القربان
ومعها صلا من القلب بتكفي"
أصحاب واجب اللحوم
اليوم في سوريا، مع الظروف الاقتصادية الضاغطة، والتي بات فيها سعر كيلو اللحمة الواحد يُقارب نصف راتب موظف من الدرجة الأولى، باتت "لقمة الرحمة" نقطة جذب كبيرة للعديدين الذين كانوا يتعففون سابقاً عنها، ويتذرعون بألف عذر لعدم تلبيتها، هذا ما يقوله أحمد الموسى (43 عاماً من حلب)، وهو يعرف أشخاصاً يتغاضون عن غلاظة اصطحاب أولادهم إلى مثل هكذا مناسبات، لمجرد معرفتهم بأنهم سيدعمونهم بكمية جيدة من اللحم الذين مضى عليهم زمن لم يأكلوا منه.
هناك من بات بمثابة الجوكر على موائد الرحمة، مثل أولئك أصبحوا لا يتركون واجب عزاء يهرب من بين أيديهم، لا سيما إن كان المتوفى من أهل العزّ، لإدراكهم أن حصتهم من اللحم ستكون أكبر
في المقابل، يقول عدنان فلحوط (56 عاماً)، من السويداء: "هناك من بات بمثابة الجوكر على موائد الرحمة، مثل أولئك أصبحوا لا يتركون واجب عزاء يهرب من بين أيديهم، لا سيما إن كان المتوفى من أهل العزّ، لإدراكهم أن حصتهم من اللحم ستكون أكبر، وضيق الحال دفعهم لأن يصبحوا أصحاب واجب أكثر من اللازم، إلى درجة أنهم قد يسافرون إلى القرى المجاورة للتعزية، وفي تلك الحالة سيقدّرهم أكثر أهل الفقيد، وسيدعمونهم بمزيد من أطايب الطعام".
صحيح أن مغزى لقمة الرحمة وجوهرها يتمحوران حول التَّرحُّم على الميت، لكنها في هذه الأوضاع القاسية التي تعيشها سوريا، باتت رحمةً لبعض المُعزّين، ونعمةً لا يتمنون زوالها، مع أنها في كثير من الأحيان تُشكِّل عبئاً كبيراً على أهل المتوفى، الذين يضطر بعضهم إلى الاستدانة من أجل حفظ ماء وجوههم أمام من جاء لمواساتهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون