شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
من الهيف إلى الكيف فالسيف... روايات القهوة العربية في مضافة في مخيم لجوء

من الهيف إلى الكيف فالسيف... روايات القهوة العربية في مضافة في مخيم لجوء

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 5 أبريل 202202:09 م

تلفت نظر القادمين إلى مخيم أبو حبة، الواقع في منطقة كفر يحمول شمال إدلب، والذي يقطنه مهاجرون من ريفها الجنوبي الشرقي، خيمة كبيرة تتوسط عشرات الخيم الصغيرة التي تضم عائلاتٍ كثيرةً هربت من الخوف، ومن الموت، ولجأت إلى أرض بعيدة قليلاً عن صوت الرصاص والقنابل والمعارك التي أخذت منهم الكثير من أبنائهم على مدار سنوات الحرب المستمرة منذ 11 سنةً.

من داخل الخيمة الكبيرة، التي جعلها سكان المخيم مضافتهم، تفوح رائحة القهوة العربية التي تصل إلى كل أرجائه. يقف رفعات المصري إلى جانب موقدة كبيرة، يغلي القهوة ويجددها بحبات الهال المطحونة على "المهباج" القريب منه، وتجديد القهوة يُنبئ كما جرت العادة، قبل الهجرة وبعدها، بقدوم ضيف، فيجتمع رجال المخيم من مختلف الأعمار ليتأهلوا به.

يستقبل رفعات الشاب الثلاثيني ضيفه بوجه طلق وبشوش، وبعد تقديم واجب الضيافة من القهوة العربية، يعرض على الضيف تجهيز الغداء، وأحياناً يجهزه من دون أن يخبر الضيف بذلك، وهو من باب الكرم كما يقول، لأن "ما تربينا عليه لا يتغيّر مهما تغيرت ظروف الحياة علينا نحن السوريين".

يسكن في مخيمات شمال غرب سوريا، قرابة مليون و900 ألف نسمة، يُشكل أبناء العشائر السورية جزءاً كبيراً منهم

ويسكن في مخيمات شمال غرب سوريا، قرابة مليون و900 ألف نسمة، يُشكل أبناء العشائر السورية جزءاً كبيراً منهم، وهم الذين تعودوا على سكن الخيم، حيث كانوا كالبدو الرحل يرتحلون بحثاً عن الكلأ لمواشيهم، ولا زالوا يحافظون على "العادات العربية الأصيلة من تقديم القهوة العربية وإكرام الضيف ومساعدة المحتاج بالرغم من ضيق الحال وظروف النزوح القاسية"، كما يقول رفعات.

وفي ظل تطور الحياة وانتشار أنواع عديدة من المشروبات الساخنة والباردة، بقيت القهوة العربية السمراء المحمصة والمطبوخة بحبات الهال، محافظةً على مكانتها، فهي تُعدّ مشروباً رسمياً في مناطق الأرياف والبادية السورية لأبناء القبائل والعشائر القاطنين فيها، وبالرغم من نزوحهم وتهجيرهم من قبل قوات النظام وحلفائه، لا زالوا يحافظون عليها في خيمهم البسيطة المثقلة بهموم الحياة.

عادات وتقاليد

"القهوة العربية ذوق، وليست شراباً فحسب، وهي موروث شعبي له رمزية خاصة لدى القبائل والعشائر السورية، التي لا تزال تحافظ على تقديمها في كل المناسبات، بالرغم من ظروف الحرب والتهجير وتردي الأوضاع الاقتصادية في الشمال السوري"، يقول زكريا الجمعة الذي نزح من جنوب حلب إلى شمال إدلب بعد سيطرة قوات النظام السوري والميليشيات الموالية له على المنطقة.

تُعدّ القهوة العربية في شمال غرب سوريا، المشروب الرسمي لأغلب القبائل والعشائر التي هُجّرت في غالبيتها من شتى مناطق الريف والبادية السورية، وما زالت تحافظ عليها في مخيمات اللجوء وفي كُل مكان تهجرت إليه بالرغم من الظروف السيئة التي تعيشها. بالنسبة إليهم القهوة العربية ليست مجرد شراب، هي تقليد يعكس عاداتهم التي لن يتركوها مهما "جار عليهم الزمن".

تُعدّ القهوة العربية في شمال غرب سوريا، المشروب الرسمي لأغلب القبائل والعشائر التي هُجّرت في غالبيتها من شتى مناطق الريف والبادية السورية

يقول أبو أحمد الخمسيني، وهو أحد النازحين من جنوب حلب: "ما زلنا نحافظ على تقديم القهوة العربية في مختلف المناسبات. ففي الأفراح تُعدّ ضيافةً رئيسيةً من قبل القائمين على الفرح، فيتم تقديم فناجين القهوة من باب الحفاوة بالضيوف وإكرامهم، ووجودها دليل على أن هذا البيت يحترم العادات العربية الأصيلة ويحافظ عليها".

"المهاجرون يعيشون أوضاعاً مأساويةً في الشمال السوري، وأغلب الناس لديهم الكثير من الهموم، وهم في صراع دائم من أجل الاستمرار والحياة"، يقول ممدوح العيسى، وهو خمسيني هُجّر من جنوب شرق إدلب إلى منطقة أعزاز شمال حلب، ويضيف: "لكن عند سماعهم صوت النجر الذي يتم طحن القهوة فيه، وعندما تفوح رائحتها في أرجاء المكان، فإنهم تلقائياً يبدأون بتبادل الأحاديث والهموم وكأنها وسيلة ليتقرب الناس من بعضهم البعض، وليشعروا بأن هناك من يُشاركهم ما يعيشونه".

ويُفضّل أبو محمد الخمسيني، القاطن في خيمته في منطقة الشيخ بحر غرب إدلب، والذي يعيش أوضاعاً معيشيةً صعبةً، أن تهترئ أواني صنع القهوة العربية ومعاميلها على أن يبيعها، فقد ورثها عن أبيه وجده وهي عزيزة على قلبه ولا يفرط فيها بالرغم من حاجته الماسة إلى المال، "أموت من الجوع ولا أفرّط بمعاميل القهوة"، يقول.

بعد الحرب، ونتيجةً للمعارك، تحوّل الشمال السوري إلى منطقة لجوء لملايين الناس، الذين وجدوا أنفسهم، في غالبيتهم، يعيشون في خيام لا تُشبه كُل ما اعتادوا عليه، مع ذلك لم يتغيّر عليهم أن يجولوا في أرجاء الحي الجديد (المخيم)، ويتنشقوا رائحة القهوة وتبهيرها بحبات الهال وطحنها بالمهباج كما كان يفعل رفعات المصري في مخيم أبو حبة، مهللاً بضيوفه.

قصة فنجان

لكل فنجان من القهوة العربية قصة ورمزية خاصة متعارفة عند أبناء القبائل، يقول ممدوح العيسى: "لكل فنجان رمزية خاصة، فعندما يأتي ضيف وله حاجة عند شيخ القبيلة، يقوم بوضع الفنجان على الأرض ولا يشربه، فيعرف الشيخ أن لهذا الرجل حاجة معيّنة، فيقول له: اشرب قهوتك وحاجتك مقضية، وكذلك في الحروب عندما يستعصي خصم على القبيلة، يضعون الفنجان في الوسط ويقولون هذا فنجان فلان (الخصم الذي يراد قتله)".

عندما يأتي ضيف وله حاجة عند شيخ القبيلة، يقوم بوضع الفنجان على الأرض ولا يشربه، فيعرف الشيخ أن لهذا الرجل حاجة معيّنة، فيقول له: اشرب قهوتك وحاجتك مقضية، وكذلك في الحروب عندما يستعصي خصم على القبيلة، يضعون الفنجان في الوسط ويقولون هذا فنجان فلان (الخصم الذي يراد قتله)

هناك أسماء متعارفة عدة لفناجين القهوة متعارف، فالفنجان الأول الذي يشربه المعزب أو القهوجي يسمّى فنجان الهيف (الأمان)، فهو يرمز إلى أن القهوة خالية من أي شيء مضرّ بالصحة، أما الفنجان الثاني فهو فنجان الضيف، والثالث فنجان الكيف، وهو الفنجان الثاني الذي يطلبه الضيف، والرابع فنجان السيف، وهو الذي يوضع في مجلس الحرب عندما يتكفل أحد الرجال بقتل فلان من الناس في المعركة.

يروي العيسى أن "القهوة العربية عُرفت لدى العرب منذ زمن نتيجة احتكاكهم ببلاد الحبشة عن طريق تجار اليمن، إذ دخلت الأقطار العربية، واكتُشفت لاحقاً في اليمن، ويبدو أنها كانت موجودةً في العصر العباسي، لأن الشاعر الأصمعي قال في قصيدته المشهورة (وفتية سقونني قهوة كالعسللي... شممتها بأنفي أزكى من القرنفل)، كما نُقلت بعدها إلى مصر في العصر المملوكي، وقد أصبحت مع الوقت المشروب الرسمي لأبناء القبائل والعشائر السورية، فتُقدَّم في كافة المناسبات من أفراح وأتراح وجلسات صلح، وهي وسيلة لقضاء الحاجات عند وجهاء القوم".

حسب نواف النوري (60 عاماً)، ترمز القهوة العربية الى الكرم والأصالة، وهي موروث يحافظ على عادات وتقاليد الآباء والأجداد بالرغم من ظروف النزوح القاسية، وهي أمانة يتوارثها أبناء العشائر من آبائهم وأجدادهم، طالما أنهم حريصون على كسب كلمة (نِعم وكفو)".

حرفة تحضيرها 

ممدوح العيسى يعدّ نفسه متخصصاً في صناعة القهوة العربية. يُتقنها كأنها مهنة. هي بالنسبة إليه كذلك وأكثر. يقف إلى جانب المهباج ويروي كيف يُحضّر قهوته. يقول: "نجلب البن الأخضر ونقوم بتحميصه على النار بأداة تسمّى المحماص، ومن ثم يوضع في إناء خشبي يسمّى "المبرادة"، لتبريده، وبعدها يتم طحن القهوة في (النجر أو المهباج)، بصوت يطرب الحاضرين ويجذب الجيران، وبعدها يتم وضع القهوة في إناء يسمّى (المطباخة)، لتبقى على النار ساعات عدة، وبعدها توضع في الدلة (القمقوم)، وبعدها تنتقل إلى المبهارة (المصبّ ويُطلق عليه اسم البكرج)، والتي يتم تقديم القهوة العربية فيها للضيوف والحاضرين".

القهوة العربية عُرفت لدى العرب منذ زمن نتيجة احتكاكهم ببلاد الحبشة، واكتُشفت لاحقاً في اليمن، ويبدو أنها كانت موجودةً في العصر العباسي

ويروي العيسى عن عادات وتقاليد مرتبطة بتقديم القهوة العربية، "فالقهوة العربية (خص وليست قصاً)، فإذا كان هناك رجل ذو مكانة مرموقة ويحظى باحترام الناس، يتم تقديم القهوة له أولاً، ويُستكمل صبّ القهوة من عنده إلى حين الانتهاء إلى اليسار، ومن ثم المعاودة إلى اليمين لكي تُصبّ القهوة لجميع الحضور، فهي حلّالة المشكلات (فكّاكة النشب)، وخطّابة العروس، وهي من تعقد الحرب وتفكّها، وهي مكرم الضيف والجار وهي جامعة العرب".

يضيف: "العرب سابقاً كانوا يختارون قهوجياً (من يصب القهوة) أخرس وأصمّ، حتى يحافظوا على أسرار المجالس والأحاديث، وخصوصاً خطط الحرب التي يرسمونها، فيقوم القهوجي أولاً بالدقّ (الطرق) على الفنجان ليصدر صوتاً ويُنبّه الضيف إلى تقديم القهوة العربية له، كما أن الضيف عندما يشرب أول فنجان يهزّه، وهو دلالة على الاكتفاء، وإذا لم يهزّه، يتم تقديم فنجان آخر له".

تختلف بعض العادات المرتبطة بتقديم القهوة بين بلد وآخر، ومنطقه وأخرى ضمن البلد الواحد، وإن كانت متشابهةً في الأساسيات وفي كثير من الأمور، فتقديم القهوة له قواعد لا يمكن تجاوزها وإن أصبحت عرضةً للنقد وتأخذ معنى سلبياً، حسب ما يقول نواف النوري، فـ"الضيف عندما يأتي يجب تجديد القهوة ليشعر بأنه محط ترحيب وتكريم من قبل صاحب المضيف (المعزب)، مع كلمات الترحيب وبشاشة الوجه، وعند الانتهاء من تجهيز القهوة وتصفيتها وتبهيرها، يقوم المعزب أو القهوجي بشرب أول فنجان قبل الضيف ليرى أن قهوته جيدة وغير صايدة (فيها مواد ضارة)، وأنها ساخنة، لأن القهوة عندما تُقدَّم باردةً لها معانٍ سلبية".

يرى النوري أن القهوة العربية ترتبط بأمور لا يُفسرها إلا من كان على دراية ومعرفة بمعاني تقديم القهوة، فلكل مقام مقال، وتختلف طقوس تقديم القهوة حسب الظروف من فرح أو حزن، وفي حال النزاعات والمصالحات والجاهات، فهناك تفاصيل دقيقة لصنع القهوة وتقديمها، تختلف من مكان إلى آخر، فهناك القهوة الجنوبية وهي ما تسمّى الشعيلة أو الشقرا، وهي خفيفة مائلة إلى الصفرة، وهي موجودة في نجد والحجاز وغالبية دول الخليج، والقهوة الشمالية السوداء وهي موجودة في بلاد الشام، وهناك القهوة التركية، لكنها ليست مقيّدةً بعادات القهوة العربية وتقاليدها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image