شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
المتنمّر أيضاً ضحية… كيف تنتج مجتمعاتنا أخلاقيات القهر؟

المتنمّر أيضاً ضحية… كيف تنتج مجتمعاتنا أخلاقيات القهر؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 5 أبريل 202204:37 م

عمر زهران* شاب وسيم هادئ الملامح يقيم في منطقة مدينة نصر شرق القاهرة، إحدى ضواحي الطبقة الوسطى، ويعمل مهندساً للبرمجيات. يصفه عارفوه بأنه خفيف الظل، وهو يفخر بكونه محبوباً في نظر أصدقائه، يرونه ويرى نفسه جريئاً، لا يتردد في إحراج أي شخص، ومواجهته بعيوبه الجسدية مستعيناً بخفة ظله التي ينبه من خلالها الآخرين إلى قصر قامتهم أو كبر أنوفهم أو تواضع ثيابهم، لينطلق أصدقاؤه وزملاؤه في نوبة من الضحك المشجع. هكذا عاش عمر سنوات طويلة إلى أن وجد من يواجهه بأن ما يظنه خفة ظل وجرأة هو في حقيقة الأمر تنمّر.

يقول عمر لرصيف22: "كنت أدرس في مدرسة مشتركة، وكنت دائماً أسخر من شكل زميلاتي وأشبهن برجال مشهورين، كنت أفعل ذلك كل يوم تقريباً، واستخدم عبارات سخيفة مثل (إنتِ فاكرة نفسك بنت) وغيرها. وفي إحدى المرات، سخرت من شعر زميلتي المجعد ووزنها الزائد، حتى ألقت مشروبها في وجهي، وهي تصرخ دون توقف. بعد عقد من تخرجي في الجامعة، أدركت أني متنمر، وأن كل الضحكات التي انتزعتها يمكن ترجمتها إلى قائمة من الضحايا".

عقب سلسلة من وقائع الاعتداء على اللاجئين في مصر بين العامين 2016 و2020، ووصلت حد القتل، صدر حكم قضائي يقضي بحبس "متنمرين" بعد تعمدهم الاعتداء على طفل سوداني يبلغ من العمر 14 عاماً وتصوير واحدة من وقائع تعدياتهم المتكررة عليه ونشرها عبر تيكتوك لحصد المشاهدات.

"بعد عقد من تخرجي في الجامعة، أدركت أني متنمر، وأن كل الضحكات التي انتزعتها يمكن ترجمتها إلى قائمة من الضحايا"

كان هذا الحكم الصادر في يوليو/ تموز 2020 الأول من نوعه في مصر الذي يعد التنمر جريمة تستوجب العقاب، خاصة إذا كان نابعاً من ممارسة للعنصرية أو التمييز. وتسببت الواقعة التي صدر بموجبها الحكم في إضافة مواد إلى قانون العقوبات المصري، تدرج التنمر - للمرة الأولى- ضمن الجرائم التي يعاقب عليها القانون.

لم يوقف ذلك الحكم القضائي الوحيد والقانون المستحدث وقائع التنمر. وهذا ما اضطر الحكومة للتحرك واستصدار تشريع جديد يقضي بتغليظ عقوبة التنمر على أصحاب الهمم وذوي الاحتياجات الخاصة، وذلك بعد انتشار فيديو يظهر واقعة التنمر على شاب من ذوي الاحتياجات الخاصة والتعدي عليه باستخدام كلاب مدربة لانتزاع الضحكات ونشر المقطع لحصد المشاهدات عبر تيكتوك وفيسبوك.

في تصريح صحافي قالت هالة أبو خطوة، المسؤولة الإعلامية لمكتب اليونيسيف في القاهرة، إن 70% من الأطفال في مصر يتعرضون للتنمر في المدارس والشوارع

تربية التنمُّر

واقعة الاعتداء على الطفل السوداني التي صدر بموجبها الحكم القضائي، كان لها تأثير مباشر على عمر زهران، الذي يقول لرصيف22: "بعدها، بدأت أسمع كلمة متنمر في البرامج التلفزيونية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي بشكل مكثف، وأدركت أنني أرتكب جرائم دون أن أدري. وظل إحساسي بالذنب يطاردني حتى اليوم، ولدي رغبة في الاعتذار لكثيرين لا أعرف أين هم الآن. في الحقيقة، لا أعرف هل أنا الآن ضحية واحتاج لدعمي نفسياً أم تجب محاسبتي على ما فعلت؟".

تحت عنوان "يحدث للجميع... ينكره الجميع"، أطلقت منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسيف" من مكتبها في مصر، في العام 2018، حملة ضد انتشار التنمر في المدارس. وفي تصريح صحافي، قالت هالة أبو خطوة، المسؤولة الإعلامية لمكتب اليونيسيف في القاهرة، إن 70% من الأطفال في مصر يتعرضون للتنمر في المدارس والشوارع، خاصة خلال فترة المراهقة. ولم تفصح عن أسباب انتشار تلك الظاهرة أو مصادر الإحصاء المعلن.

واعتبرت المنظمة في البيان التأسيسي لحملتها أن "أغلب الأطفال الذين يمارسون التنمر كانوا ضحايا للتنمر من قبل، وأنهم يفتقرون إلى الشعور بالأمان النفسي والعاطفي"، وأن سلوكهم "ناتج عن التجاهل والإهمال في المنزل، وممارسة القهر تجاههم، ووجود خلافات أسرية. لذا يبحثون عن جذب الانتباه، وتحقيق الإحساس بالتقبل من الآخرين".

القانون لا يحمي الضحايا

على الرغم من تحركات الحكومة التي سبقت الإشارة إليها باستصدار تشريعات يفترض أنها تردع المتنمرين، فإن تلك القوانين غالباً ما تفشل في إنفاذ العقوبات، خاصة في وقائع التنمر التي لا تحظى بتسليط الضوء الإعلامي أو الانتشار عبر السوشيال ميديا.

في نهاية الأسبوع المنقضي، يوم 31 مارس/ أذار الماضي، قضت محكمة جنح شبرا ببراءة مُدرِّسة تدعى "نادية ي." كانت تقف أمام المحكمة متهمة بالتنمر على طفل من ذوي الاحتياجات الخاصة، وقضت المحكمة في المقابل بحبس والدة الطفل وتغريمها بتهمة سب المُدرِّسة على الرغم من وجود فيديو يثبت واقعة سخريتها من الطفل والتعدي عليه بالضرب وإخافته ثم السخرية منه مجدداً عندما فقد التحكم في مثانته.

مر الحكم الصادر يوم الخميس الماضي من دون ضجة، ليثبت واقعاً تحدثت عنه الدراسات والتقارير الإعلامية لافتةً إلى وجود قبول اجتماعي للتنمر ضد أكثر الفئات ضعفاً في مصر، بالإضافة إلى  ميل لممارسة العنصرية والتمييز.  

في دراسة لديتر ووك ونيل تيبيت، يظهر أن احتمالات التعرض للتنمر تزداد مع تعاظم الفقر والأزمات داخل المجتمعات، وأن التنمر يشكل نوعاً من ترحيل القهر من خلال ممارسته على الأطراف الأضعف

في دراسة لديتر ووك ونيل تيبيت صادرة عن مؤسسة الصحة العامة في الولايات المتحدة الأمريكية، يظهر أن احتمالات التعرض للتنمر تزداد مع تعاظم الفقر والأزمات داخل المجتمعات، وأن التنمر يشكل نوعاً من ترحيل القهر من خلال ممارسته على الأطراف الأضعف. وهو ما أكدته دراسة أخرى لجون لانتوس صادرة عن الجمعية الأمريكية لدراسات طب الطفولة، إذ ذكرت الأخطار الصحية والجذور الاقتصادية والاجتماعية لممارسة التنمر بين الأطفال.  

وهو ما قد يتفق مع ما ذهبت إليه اليونيسيف من كون 70% من أطفال مصر يواجهون شكلاً من أشكال التنمر، خاصة مع التقارير الدولية التي تتحدث عن انتشار الفقر والأزمات الاجتماعية في البلاد.

يقول الدكتور توفيق ناروز، استشاري الطب النفسي، لرصيف22، إن المتنمر يوصف في المدارس وأماكن العمل بـ"القرين المزعج"، ويرجح أن تلك التصرفات العدوانية "ناتجة في بعض الحالات عن التعرض للعنف في الطفولة، أوجدت عند المتنمر شحنات غضب داخلي، لا يجد منفذًا لها إلا بالتنمر على الآخرين". ويضيف أن المتنمر "يعاني من مشاكل نفسية متعلقة بإحساسه بعدم الأمان، وقلة الثقة بالنفس، ويحتاج إلي علاج لتعديل هذا السلوك العدواني، لأنه يعاني من اضطراب الشخصية السيكوباتية".

ويرى ناروز أن ثقافة المجتمع المصري وقوانينه ربما تشجع المتنمر. ومع انتشار ثقافة السوشال ميديا، التي تسهل ممارسة التنمر من خلف الشاشات واحياناً من خلال أسماء وشخصيات مستعارة، بات المتنمر يأمن العقاب، خاصة مع كون التنمر وسيلة للحصول على اللايكات والمشاهدات، وهذا ما يجعل ممارسه يشعر بالقبول الاجتماعي والرضا المتحقق عن شهرة زائفة يقدمها له مشجعوه على وسائل التواصل الاجتماعي. يقول: "كثير من الأفلام والمسلسلات والمسرحيات الناجحة اعتمدت على كوميديا العاهات كما يسمونها، أي من خلال السخرية من أصحاب العلامات الجسدية أو الأمراض أو ذوي اللون والشكل المختلفين، وينظر المجتمع لهذا النوع من الكوميديا باعتبارها خفيفة الظل ومضحكة ويشجعها بالمشاهدات، وهذا ما يجعل الفنانين والمنتجين يستمرون في تقديم اعمال شبيهة. هذه ثقافة تشجيع على التنمر".

يعزو أستاذ علم الاجتماع الدكتور سعيد صادق انتشار التنمر إلى حب المجتمع المصري للمرح والفكاهة، إذ يجد في التنمر الذي لا يتطور للعنف الجسدي ضد الضحية "متعة". ويضيف: "المتنمر هو ضحية التنشئة الاجتماعية التي لعبت دوراً في تشويهه، فالأب غير المنضبط أخلاقياً يشجع ابنه على ممارسة الذكورية العدوانية ضد النساء والذكور الأضعف منه، فيشب على اعتقاد قوته الوهمية، وفي هذه الحالة نجد سلوك التنمر يصاحبه تواطؤ وصمت، خاصة إذا انتمى فاعله إلى أسرة ميسورة، ويمر دون عقاب في المدرسة التي تدعم المتنمر الغني".

ويتهم صادق وسائل الاعلام والسينما بالمشاركة في ترسيخ وتجميل التنمر، وتقديمه في قالب كوميدي، "خصوصاً في بعض أفلام عادل إمام ومسلسلات محمد رمضان". ويتابع: "للأسف في مجمعنا نقبل التنمر على الضعفاء والأقليات والنساء، ونضحك على التنمر ضد الضحية التي نشعر تجاهها بالحقد والحسد". مطالباً بضرورة التوقف عن نفاق الأقوياء، وتمجيد أفعالهم التنمرية، ومجاملاتهم بالضحك على حساب الضعفاء، "لأننا بذلك نخلق مجتمعاً فاسداً".

ماذا عن التراث؟

عرف شعراء وظرفاء العرب الهجاء والقدح والذم بخصومهم، ووثقت الدواوين معارك الشعراء الذي استخدموا الألفاظ والمترادفات الكثيرة بهدف السخرية من الآخرين والتحقير من شأنهم. فهل يعد هذا دليلاً على أن التنمر موروث في المجتمعات العربية؟

ينفي الناقد الأدبي الدكتور حسين حمودة أن يكون التنمر جزءاً من التراث الثقافي المصري، والثقافة الشعبية الموروثة، "بل لدينا قيم إنسانية فيما يخص التعامل مع الضعف الإنساني، وهناك عبارات وأمثال شعبية كثيرة تؤكد هذا المعنى، فنطلق على الأعور (كريم العين)، ونصف الأشخاص البُله على سبيل المثال بأنهم أكثر طيبة، ويطلق عليهم في صعيد مصر (الشيوخ)، وكان المجتمع، خاصة الريفي، ينظر إليهم باعتبارهم أصحاب كرامات و(بَرَكَة) وأن قربهم من الله هو الذي يجعلهم غير مفهومين لنا. وفي التراث الثقافي المصري كلام كثير عن طيبة الشخص صاحب الوزن الثقيل، وخفة دم السمراوات، هدا أن السمار نصف الجمال، وهذا لا ينفي أيضاً وجود أمثال شعبية تنطوي على السخرية القاسية من ذوي الاحتياجات الخاصة والمختلفين بشكل عام".

ويخلص حمودة من ذلك إلى أن الموروث المصري ليس أكثر قسوة أو رحمة من غيره، وأن المجتمع المصري يحمل تناقضات مفهومة، خاصة مع تنوع خلفيات السكان وثقافاتهم المحلية.

ويرى أن ما رسخته الدراما والسينما في مصر من استهزاء بالضعفاء والسخرية من الاختلاف أو التشوهات الجسدية "لا يمثل الفن الحقيقي الذي يتعامل مع البشر كما هم، وأحياناً تكون السخرية من نواقص الآخرين نوعاً من طمأنة ذواتنا بأننا لسنا سيئين".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard