تكاثرت المتاجر الإلكترونية التي أبصرت النور عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وفيها نقع على قطع متفرّدة تأخذنا في رحلة إلى أيام الزمن الجميل، حيث كانت الجدّات والأمهات يحكن بواسطة الصنارة ويصنعن من خيوط الصوف الملونة ملابس للأطفال وأكسسوارات شخصية أو خاصة بتزيين المساحات الداخلية..
الحفاظ على أصالة الحرفة والوعي بالبيئة هو تحديداً ما حفز سعاد، صاحبة مشروع "ولفي"، وخلود، صاحبة مشروع "فجة خرق"، لبدء الرحلة وصنع قطع عصرية قائمة على الثقافة الشعبية وجماليات بلاد الشام...ملابس، علب توضيب المكياج، أغطية، وسائد، سجاد، أشكال لتزيين السفرة...مروحة واسعة من التصاميم التي تحمل شعار الاستدامة، وتحاول تقديم منظور جمالي مختلف يتخطى صيحات الموضة المؤقتة.
ملابس، علب توضيب المكياج، أغطية، وسائد، سجاد، أشكال لتزيين السفرة...مروحة واسعة من التصاميم يقدمها مشروعا "ولفي" و"فجة خرق" اللذان يهدفان إلى الحفاظ على أصالة الحرف والوعي بالبيئة
مفتاح المدينة المخبأ في سوقها الشعبي
سعاد جروس مؤسسة مشروع "ولفي"
"ولفي بلغتنا المحكية تعني صديقي. في ولفي نصنع منسوجات وألبسة وأغطية صديقة للإنسان والتراث والطبيعة في نفس الوقت". هكذا تعرف الصحفية والكاتبة سعاد جروس عن مشروعها الذي يُعنى بإحياء حرفة الطباعة الحموية التقليدية على القماش القطني الخام.
عن البدايات تحكي سعاد لرصيف22: "إثر انتشار وباء كوفيد 19، ودخول البلاد حجراً صحياً كاملاً عطّل الحركة بين المدن، اضطررت وعائلتي للانتقال إلى مدينة حماه للإقامة فيها. ونظراً لأني أعيش في دمشق منذ عقود، فقد واجهت مشكلة التأقلم مع الواقع الجديد، فحماه مدينة صغيرة ومنكفئة على ذاتها. لكنني ومن أجل تسريع عملية التأقلم قررت الاتجاه نحو سوق المدينة الشعبي؛ فلكي تدخل التخاريم الخفية لأي مجتمع عليك بالسوق، لأنه يتيح لك التواصل مع الناس في ساحاتهم وملاعبهم، ويعطيك انطباعاً حقيقياً عن المدينة.
بعد عام تقريباً من التجول في حماه والتعرف على ناسها وخاصة أصحاب الحرف، وجدت حرفة الطباعة التقليدية الحموية على القماش أكثر الحرف التراثية بساطةً في غرفة الإنعاش مهددةً بالزوال. وتعرفت إلى حسان حوا، أبو أحمد، آخر الطباعين في المدينة. من هنا ولدت فكرة "ولفي".
الطباعة الحموية على القماش
"كان التحدي بالنسبة إلينا هو إعادة استقطاب الناس إلى هذه الحرفة التي اقتصرت لوقت طويل على المفارش والملاءات وأغطية الطاولات. أمور صارت من الكماليات بالنسبة للشعب السوري الخارج (أو ربما الذي لم يخرج بعد) من إحدى عشرة سنة حرب وتهجير ونزوح، ناهيك عن توقف الحركة السياحية والتبادل التجاري مع الخارج.
"نصنع منسوجات وألبسة وأغطية صديقة للإنسان والتراث والطبيعة في نفس الوقت"، هكذا تعرف الصحفية والكاتبة سعاد جروس عن مشروعها الذي يُعنى بإحياء حرفة الطباعة الحموية التقليدية على القماش القطني الخام
ففكرنا بإنتاج قطع ألبسة شبابية معاصرة من القماش القطني الخام نفسه وباستخدام تقنيات الطباعة نفسها، وكانت البداية من (الدامر) و(القنباز) والحقائب القماشية والأكياس. بالنسبة لأبي أحمد كان ذلك بمثابة مغامرة كبيرة لا بد من خوضها في محاولة لتحريك المياه الراكدة. حاولنا أن تكون الأسعار في متناول الجميع، وخاصةً السوريين في الداخل، فهذه المرة لن ننتظر السياح كي يُنعشوا حرفنا العريقة.
شيئاً فشيئاً بدأت بوادر الانتعاش بالظهور بوجود أصدقاء آمنوا بالمشروع وبدؤوا يلبسون قطعاً من (ولفي) وينشرون صورهم على السوشيال ميديا، ولاقت الفكرة إقبالاً، خاصةً في أوساط الفنانين والمهتمين بالشأن الثقافي والبيئي، كونها ملابس من أقمشة صديقة للبيئة وبألوان طبيعية 100%. وعادت الحياة لمشغل أبو أحمد بعد سنوات من الركود".
حماه وقماشها المطبوع عبر التاريخ
من بين الأشكال التزيينية التقليدية، نجد زهرة القطن التي تعبر عن البيئة الزراعية في حماه، وورقة العنب. ولا تخلو الطباعة من العنصر الحيواني، فنجد الحمامة والديك والعقاب السوري ذا الرأسين وهو رمز آشوري، والسمكة التي نجد مثلها على تمثال عشتار آلهة النهر
في محاضرة لسعاد جريس عن تاريخ حرفة الطباعة الحموية، تقول إن الاقبال عليها كان محصوراً بالبدو والفلاحين والفقراء من سكان الأرياف المجاورة. الذين كانوا يشترون الأقمشة المطبوعة لتزيين البيت الداخلي لأفرشة النوم والجلوس والوسائد، أي ما يدعى بـ"الحجرية" والتي تكون محشوة بالقطن أو الصوف، تُغطى من الخارج بغطاء مطرز ينزع بشكل دوري لتنظيفه. لكن مع ظهور معامل النسيج القطني المطبوع في سوريا، منتصف القرن الماضي، وتطور طرق التنظيف وفرش البيوت، انحصر الاهتمام بالطباعة التقليدية، فتراجع عدد مشاغل الطباعة إلى أن تلاشت تدريجياً، ولم يصمد منها سوى عدد محدود لتلبية حاجة السياح الذين كانوا يُبدون اهتماماً خاصاً بالحرف التراثية.
وبخروج القطع من حيز استخدامها التقليدي لتصبح تراثاً فنياً ومقترحاً جمالياً، بدأت تنتقل من كونها حجريات فرشات وأغطية داخلية إلى قطع فنية بحد ذاتها، لكن الطلب عليها كان مقترناً بالحركة السياحية التي بلغت أوجها خلال التسعينيات وحتى العام 2010، حيث جاءت الحرب وأوقفت الزمن.
وتتميز الطباعة الحموية بأن تقنياتها يدوية بالكامل. فالقماش يجب أن يكون قطنياً من النوع الخام حصراً، أما الألوان فهي بشكل أساسي الأسود والأحمر (وهما الأقدم) بالإضافة إلى الأزرق والأخضر. وهي ألوان ذات ثبات عالٍ مقاومة لمرور الزمن وقابلة للغسل، تُستخلَص بسريةً تامة من مواد نباتية، كقشر الجوز والرمان والورد. ويعتبر تحضير اللون العملية الأكثر تعقيداً، إذ يستغرق الأمر أكثر من شهر بين الطبخ والتخمير وما إلى ذلك من العمليات التي تُعد سر أسرار الحرفة.
هذا السر ظل تناقله حتى اليوم محصوراً بأبناء الحرفيين الذين يبدون شغفاً بالتعلم، ويُقسمون على عدم إفشاء التركيبات اللونية لأيّ كان، حتى إخوتهم. ولعلّ هذه الطريقة في حفظ أسرار الحرفة هي الضمان الوحيد لاستقلاليتها بعيداً عن النقابات، لكنها وللمفارقة كانت أيضاً عاملاً من عوامل اندثارها.
أما القوالب المستخدمة في الطبع فتُصنع من الخشب المحلي مثل الجوز أو الزيتون أو الورد. تُنقع قبل استخدامها بزيت الزيتون كي تكتسب الليونة المطلوبة، ومن ثم يُحفر النقش عليها يدوياً باستخدام سكين. النقوش هي عبارة عن وحدات زخرفية هندسية أو نباتية أو حيوانية متصلة بالموروث البصري للمدينة، وضاربة في عمق التاريخ، مما يدلّ على مدى تشبع الحرفي بصرياً بمحيطه وتأثره به.
ولفي "قالب الديك"
القالب الأكثر شيوعاً يُسمى "تريسة"، ويعطي نقشاً على شكل دائرة تشبه إلى حد كبير ناعورة حماه، ونجد أيضاً القالب "المقرَّن" على شكل صليب بيزنطي شرقي مع زهرة السوسن السورية المتواجدة بكثرة في المناطق الأثرية المحيطة كمدينة أفاميا.
ومن بين الأشكال التزيينية الأخرى، نجد زهرة القطن التي تعبر عن البيئة الزراعية في حماه، وورقة العنب. ولا تخلو الطباعة من العنصر الحيواني، فنجد الحمامة والديك والعقاب السوري ذا الرأسين وهو رمز آشوري، والسمكة التي نجد مثلها على تمثال عشتار آلهة النهر، بالإضافة إلى العقرب الذي يُعد رمزاً للحماية عند الرومان.
قصة حب عاصفة بين فوزي وشويكار
لم يقتصر التحديث الذي أدخله مشروع ولفي على حرفة الطباعة التقليدية على إنتاج ألبسة فحسب، بل تجاوز ذلك إلى ابتكار قوالب ذات قصص أكثر معاصرةً تُطبق بالتقنيات التراثية ذاتها.
اهتم العديد من الفنانين التشكيليين السوريين المعاصرين بالطباعة التقليدية وتقنياتها وأدخلوها في صلب أعمالهم الفنية وقدموها للعالم، نذكر منهم طلال العبد الله وعبد اللطيف الصمودي ومصطفى فتحي
تعوّل سعاد كثيراً على دعم الأصدقاء وإيمانهم بالمشروع داخل سوريا وخارجها، وتنظر إلى المستقبل بتفاؤل، فعلى الرغم من أن المشروع حتى الآن غير مربح تجارياً، إلا أنها تأمل أن يتغير هذا الوضع ويزداد الإقبال على منتجات الورشة والوعي بأهمية العودة إلى الطبيعة وحماية التراث.
فجة الخرق باللهجة المحكية هي البساط المصنوع من قصاصات القماش المعاد استخدامها والمقصوصة على شكل شرائط. تحاك هذه القصاصات على شكل بسط أو منسوجات على النول أو باستخدام الكروشيه. وهي تقنية في إعادة التدوير موجودة في كل سوريا
"لن أشكر الحرب"
"في صيف عام 2012، وصلت أكبر موجة نزوح جماعية إلى مدينة السويداء"، بهذه الجملة تستهل خلود، صاحبة مشروع "فجة خرق" حديثها لرصيف22: "لم تكن الموجة الأولى لكنها كانت الأكبر من حيث العدد. فوجئ سكان المدينة بأشخاص جدد غصّ بهم مدخل المدينة. استقبلهم البعض بترحاب، بينما أظهر البعض الآخر تخوفاً على الرغم من محاولات الحفاظ على وجه المضيف الودود.
نشأت علاقة بين الضيف والمضيف، لكنها كانت علاقة تفتقر إلى مساحة دافئة وآمنة وأقل خوفاً. في تلك الفترة كنت أعمل كمعالجة نفسية مع فرق الإغاثة في المدينة. بقيت تلح علي فكرة الحاجة إلى بناء علاقة امنة بين أبناء السويداء والوافدين الجدد إلى أن جاءت فكرة مشروع فجة خرق".
خلود صاحبة مشروع "فجة خرق"
وفجة الخرق باللهجة المحكية هي البساط المصنوع من قصاصات القماش المعاد استخدامها والمقصوصة على شكل شرائط قبل أن تُوصَل ببعضها البعض. تحاك هذه القصاصات على شكل بسط أو منسوجات على النول أو باستخدام الكروشيه. وهي تقنية في إعادة التدوير موجودة بكثرة في كل المدن والقرى في سوريا عموماً وفي السويداء خصوصاً. وتزخر ذاكرة خلود بصور من طفولتها مليئة بالمنسوجات الملونة الجميلة التي نسجتها أمها من قماش مستهلك.
في بداية عام 2017، أسست خلود مع خمس نساء أخريات من سكان المدينة والوافدات إليها الورشة الأساسية التي انطلق منها مشروع "فجة خرق" لإعادة التدوير. كان الدافع هو خلق مساحة آمنة للقاء وقص الحكايات ونسجها والعمل على مقاومة ثقافة الاستهلاك، والرغبة بالمشاركة بقضايا تعنى بالبيئة والوقوف في وجه تدمير الطبيعة الذي يحصل اليوم.
ورشة "فجة خرق"
تم استئجار بيت صغير في المدينة بحجارة سوداء ليحتضن الورشة الصغيرة، ومن ثم انطلقت خلود في رحلة للبحث عن نول خشبي تقليدي في قرى محافظة السويداء، إلا أنها عادت بخفي خنين، فلم يبق أي نول خشبي صالح للاستخدام في كل القرى التي استطاعت الوصول إليها.
بالتعاون مع حرفيين وخبراء استطاعت تصميم نول جديد مطابق للنول التقليدي، وبدأت ورشتهم الصغيرة بالإنتاج.
من قصة لقصقوصة
كان هنالك هاجس يلح على خلود وهو إيجاد طرق لتسويق القطع التي تنتجها الورشة، فالطلب المحلي عليها كان قليلاً، إذ اقتصر تسويقها على البازارات التي تقام هنا أو هناك كل فترة. لكن هذا الواقع الصعب لم يؤثر على العلاقة المتينة التي نشأت بين النساء أنفسهن ومع العمل الذي يقمن به. لقد كان بمثابة متنفس لهن من أعباء الحياة والضغوط التي يعشنها. ففكرة النسج ومزج الألوان والخلق من العدم كانت تشكل لهن دافعاً للاستمرار رغم المردود المادي المتواضع.
إضافة إلى ذلك، باتت الورشة تشكل لهم مكاناً للقاء اليومي وتبادل الأحاديث والقصص. من هنا جاءت فكرة إقامة ورشة عمل للنساء يتبعها معرض فني حمل اسم "من قصة لقصقوصة"، كانت فكرته الأساسية هي تحويل الحكايات الى قطع فنية من المنسوجات المعاد استخدامها. أقيم المعرض في السويداء وعرضت فيه 33 لوحة وحكاية، وشهد إقبالاً جيداً ساهم في وصول المشروع لعدد أكبر من الناس.
إحدى نساء الورشة واسمها أم أحمد شاركت في المعرض بلوحة عبرت فيها عن ألمها الذي سببه فقدانها لابنها المختفي قسرياً منذ 2014 حتى اليوم. كان حينها في السادسة عشر من عمره. تقول أم أحمد إنها عندما تنسج على النول تتكلم مع القطع وتُسِرّ لها بحكاية أحمد، الذي صوّرته في الوحة كزهرة غاردينيا بيضاء.
لوحة أم أحمد
وككل المشاريع المشابهة، يعاني "فجة خرق" من العديد من الصعوبات، كتغطية المصاريف التشغيلية للورشة وأجور النساء وتنظيم البيع وفتح أسواق جديدة وإيجاد طرق آمنة وغير مكلفة للشحن.
تقول خلود إن المشروع تعثّر مرات عديدة إلا أنه يعود ويقف على ساقيه في كل مرة، بسبب إيمان النساء وشغفهن. وقد تبدو جهودهن بسيطة ومتواضعة مقابل الإهمال الحكومي للتراث والعولمة المتغولة التي تجتاح العالم وتمحي الهويات الثقافية الصغيرة، والرأسمالية التي تبتلع كل شيء. لكنها على بساطتها وتواضعها، تشق طريقها بثقة نحو المستقبل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...