يتعرض الجنيه المصري لضغوط متصاعدة في ظل تراجع الاستثمار في أدوات الدين التي تعتمد عليها الدولة كمورد أساسي للحصول على العملة الصعبة، في ظل استمرار تراجع الاستثمار الأجنبي المباشر، وميل ميزان المدفوعات لمصلحة الاستيراد عوضاً عن الإنتاج والتصدير.
الضغوط التي يتعرض لها الجنيه، خاصة مع تخارج المستثمرين الأجانب، دفعت بنك الاستثمار الأمريكي الأهم "جيه بي مورغان JPMorgan " إلى توقع إقبال الحكومة المصرية على وقف "التعويم المدار"، وترك الجنيه حتى يصل إلى "سعره الحقيقي" مقابل الدولار، والذي تقدره التحليلات بنحو 17.25 جنيهاً مقابل الدولار الواحد. إذ يرى المحللون أن سعر الجنيه الحالي أعلى من قيمته الفعلية بنحو 15%.
ووفقاً لـ "رويترز"، يواجه الاقتصاد المصري توتراً كبيراً بسبب ارتفاع أسعار السلع الغذائية والانخفاض المحتمل في أعداد السياح الروس جراء الحرب الروسية الأوكرانية، إضافة إلى ما كان يعانيه بسبب جائحة كوفيد-19. وقال مجلس الوزراء في بيان صدر الخميس 10 مارس/ أذار الجاري، إن التضخم ارتفع 2% خلال الشهر المنقضي، وهو ما دفع خبراء اقتصاد ومالية مستقلين إلى انتقاد الطريقة التي تحسب بها الدولة مؤشراتها التي هي مجافية للواقع.
يواجه الاقتصاد المصري توتراً كبيراً بسبب ارتفاع أسعار السلع الغذائية والانخفاض المحتمل في أعداد السياح الروس جراء الحرب الروسية الأوكرانية، إضافة إلى ما كان يعانيه بسبب جائحة كوفيد-19
وتوقع محللو JPMorgan احتمال لجوء مصر إلى صندوق النقد الدولي للحصول على مساعدات جديدة لدعم احتياطي العملة الأجنبية، والوفاء بالتزاماتها الكبيرة من الديون، وتغطية الاحتياجات المحلية من الغذاء والأدوية والطاقة المستوردة بغالبيها.
ووضع محللو بنك الاستثمار الأمريكي أكثر من تصور للسيناريوهات التي قد تتعامل بها الحكومة المصرية: أولها الإبقاء على سعر العملة عند المستويات الحالية من دون تغيير، والآخر خفض قيمتها أمام الدولار كما حدث عامي 2015/ 2016، عندما سمحت السلطات بخفض قيمة الجنيه 5% تقريباً، وتالياً بخفض أكبر في قيمة العملة في إطار برنامج جديد مع صندوق النقد.
وبتحليل السيناريوهات المحتملة، يرجح "جي بي مورجان" انخفاض قيمة الجنيه بنسبة 8.5%، عن سعره الحالي المحدد بـ15.72 للدولار وفقاً لبيانات "رفينيتيف"، ليصبح 17.25 جنيهاً مقابل الدولار الواحد.
هل يحدث تعويم جديد للجنيه؟
يقول الخبير الاقتصادي ورئيس المنتدى المصري للدراسات الاقتصادية، رشاد عبده: "لا يوجد ما يسميه البعض بالتعويم الثاني للجنيه المصري، لأن الجنيه معوم منذ أن أطلقت الدولة سعر صرفه أمام الدولار عام 2016، وفقاً للعرض والطلب".
وفي 3 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، قرر البنك المركزي المصري تحرير سعر صرف الجنيه أمام العملات بهدف القضاء على السوق السوداء التي انتعشت تلك الفترة نتيجة الضغوط على الدولار، والنقص الحاد في موارد مصر من العملات الأجنبية، حتى أن سعر الدولار في السوق السوداء وصل إلى 18 جنيهاً، بينما كان محدداً رسمياً بـ8.8 جنيهات.
يرجح "جي بي مورجان" انخفاض قيمة الجنيه بنسبة 8.5%، عن سعره الحالي المحدد بـ15.72 للدولار وفقاً لبيانات "رفينيتيف"، ليصبح 17.25 جنيهاً مقابل الدولار الواحد
ويوضح عبده لرصيف22 أن ما قد تشهده الفترة المقبلة سيتمثل في زيادة الطلب على الدولار مع انخفاض المعروض منه لعدة أسباب، منها الحرب الروسية الأوكرانية التي أثرت بشكل مباشر على السياحة المصرية المدرة للعملة الصعبة، إضافة إلى ما يعتبره "استهلاك المصريين الزائد للسلع الأساسية" تزامناً مع دخول شهر رمضان والحاجة إلى الاستيراد. ويزيد: "كل ده من شأنه رفع سعر الدولار لكن مش هنقدر نحدد بنسبة أد إيه، لإن العرض والطلب هو المتحكم".
وتركت الحرب الروسية الأوكرانية مصر في مواجهة مع تكاليف عالية بسبب احتياجها الكبير لاستيراد القمح، فضلاً عن خسارة في عائدات السياحة من الزائرين الروس والأوكرانيين. فقبل يومين من اندلاع الحرب انخفضت نسبة إشغالات الفنادق في مدينتي شرم الشيخ والغردقة إلى 30%، وألغيت جميع الرحلات التي كانت مقررة إلى مصر من روسيا وأوكرانيا، اللتين تمثلان معاً أهم الأسواق المصدرة للسياحة في مصر. وبحسب البيانات الرسمية لوزارة السياحة، يُشكل الروس وحدهم 33% من إجمالي السائحين الذين تستقبلهم مصر سنوياً، وتوقعت الدولة في أغسطس/ آب 2021 أن تصل أرباحها من السياحة الروسية إلى نحو 3 مليارات دولار خلال العام الجاري. ووفقاً لوكالة السياحة الحكومية الأوكرانية، بلغ عدد الرحلات السياحية إلى الخارج التي قام بها المواطنون الأوكرانيون عام 2021، نحو 14.7 مليون رحلة، وجاءت مصر في المرتبة الثانية بنسبة 21%.
كذلك قفزت أسعار القمح، الذي تُعد مصر من أكبر مستورديه، إلى مستويات غير مسبوقة، خاصة أن روسيا وأوكرانيا كانتا من أكبر موردي القمح إلى مصر، وهذا ما ترتب عليه ارتفاع في أسعار العديد من السلع الغذائية في السوق المحلية.
مغالاة في سعر الجنيه
في السياق نفسه، يرى مدحت نافع الخبير الاقتصادي ومستشار وزير التموين لشؤون الشركات، أن انخفاض سعر صرف الجنيه مقابل الدولار متوقع منذ فترة، وقبل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، ودل عليه الخروج المستمر للاستثمارات الأجنبية من السندات وأذون الخزانة بمعدلات كبيرة. ويضيف: "آخر ثلاثة أيام خرج 1.19 مليار دولار من أدوات الدخل الثابت المصرية، وده تعبير عن تسعير المستثمر لقيمة الجنيه، هو بيهرب لإنه شايف قيمته مغالى فيها وسعر الفائدة المرتفع نسيباً الذي تقدمه مصر لا يعوض فرق سعر الصرف".
ووفقاً لرويترز، دفعت المخاوف بشأن الحرب الروسية الأوكرانية المستثمرين الأجانب إلى بيع نحو 1.19 مليار دولار من سندات الخزانة في ثلاثة أيام فقط. وقال مصرفيون إن المستثمرين يقلصون مراكزهم خوفاً من عجز كبير في الحساب الجاري والميزانية في مصر، فضلاً عن احتمال رفع البنك الفيدرالي الأمريكي سعر الفائدة، كما يخشون تقليص حيازاتهم إذا اضطرت مصر إلى خفض قيمة عملتها.
ويقول نافع لرصيف22 إنه في ظل الوضع الراهن على البنك المركزي الاختيار بين رفع سعر الفائدة بنسبة ملحوظة لامتصاص هذه الصدمة، وبين اللجوء إلى تخفيض سعر صرف الجنيه مباشرة. ويضيف: "شخصياً أرجح انه سيلجأ أولاً إلى رفع سعر الفائدة، خاصة مع زيادة حجم التضخم الرسمي المعلن عنه إلى 8.8%، وأتمنى أن تتخذ الدولة إجراءات سريعة لأن تأخرنا في المرحلة السابقة كانت نتيجته فقدان الجنيه أكثر من نصف قيمته".
خبير اقتصادي: السوق السوداء لا تنشأ بإذن الدولة ولا تزول بإذنها. الدولة تضع قواعد وقيوداً وتفرض قبضة حديدية على المتاجرين، لكن كل هذا لا يعني أنها تستطيع أن تمنع ظهور السوق الموازية
هل تظهر سوق سوداء؟
وعن احتمال ظهور سوق سوداء للدولار نتيجة وجود فجوة بين سعر صرف الجنيه الرسمي وقيمته الفعلية، يوضح نافع أن الدولة "لا تملك ألا تسمح بظهور سوق موازية"، لأن تلك السوق تنشأ نتيجة الحاجة إلى الدولار، وهي تعبير عن حالة من الرفض للقيمة الرسمية للجنيه، ويزيد: "هذه السوق لا تنشأ بإذن الدولة ولا تزول بإذنها. الدولة تضع قواعد وقيوداً وتفرض قبضة حديدية على المتاجرين، لكن كل هذا لا يعني أنك تستطيع أن تمنع ظهور السوق الموازية، بل إن فعلت ذلك فقد تمنع التعاملات نفسها لأن هذه التعاملات لا تجد في بعض الأحيان منفذاً إلا من خلال سوق موازية".
ويؤكد أن الحل الوحيد لمواجهة نشأة هذه السوق هو معالجة السبب. ويشرح: "السبب أن ثمة تقديراً لا يخلو من الغلو لقيمة الجنيه مقابل الدولار، ولن تنشأ السوق السوداء، أو تظهر على استحياء، إذا استطعنا سريعاً وقف النزيف بزيادة سعر الجنيه من خلال رفع سعر الفائدة، أو تخفيض سعره أمام الدولار".
ويلفت نافع إلى أن العديد من الفرص لم تُستغل منذ تعويم الجنيه في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، وأهمها سوق المال التي أضاعت فترة ذهبية لجذب استثمارات أجنبية كثيرة، إذ كان يمكن أن تعوض عن الأموال الساخنة التي تخرج سريعاً حالما تلاحظ تفاوتاً في سعر العملة، كما حدث خلال الأيام الماضية.
وعن فكرة التعويم الثاني للجنيه، يقول نافع إن ما تم عام 2016 لم يكن تعويماً كاملاً لسعر الصرف، بل تعويماً جزئياً أو مُداراً. ويضيف: "الدولة سابت إيدها عن الدولار ومسكته تاني، وبالتالي هو الآن في حاجة لإطلاقه مرة أخرى". ويرى أن الوقت الراهن قد يكون غير مناسب لاستكشاف سعر الجنيه أمام الدولار، خاصة مع "نفاد السيولة واضطراب حركة التجارة التي قد تسيء أكثر فأكثر إلى تقدير العملة المحلية". وتوقع أن يلجأ البنك المركزي أولاً إلى أدوات السياسة النقدية التقليدية برفع سعر الفائدة قبل أن يفكر في أدوات أخرى.
ويشير نافع إلى أنه في حالة خفض الدولة سعر الجنيه أمام الدولار، سيتبع ذلك انخفاضاً في القدرة الشرائية للمواطنين نتيجة ارتفاع الأسعار: "لكن النسب غير متوقعة، لأنه غير متوقع نسبة الانخفاض هتكون أد إيه، والأسعار العالمية هترتفع أد إيه في ظل الظروف الراهنة".
خبير اقتصادي: مصر قد لا تلجأ إلى تخفيض العملة ولا يزال لديها أدوات أخرى مثل رفع الفائدة. ويمكنها الاستفادة من الحرب عبر إلزام الشركات العالمية الكبرى التنقيب عن الغاز
نظرة متفائلة
في مقابل النظرات المتشائمة بشأن قيمة العملة المصرية، يرى الخبير الاقتصادي عادل عامر أن البنك المركزي المصري لن يلجأ إلى تخفيض سعر صرف الجنيه مقابل الدولار، بل قد تستفيد من أزمة الحرب الروسية الأوكرانية لتعويض الفرق في سعر العملة.
ويقول لرصيف22: "الحرب الروسية الأوكرانية لم تؤثر اقتصادياً على مصر فقط بل على العالم كله، لكن مصر لديها فرصة لتعويض هذا الانهيار الاقتصادي من خلال إلزام بعض الدول الكبرى بتشغيل شركاتها للتنقيب عن الغاز الطبيعي بغية تصديره إلى الدول المتضررة من الحرب لتعويض الغاز المفقود من روسيا وأوكرانيا".
ووفقاً لجهاز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء المصري، نجحت مصر في احتلال المركز الـ14 عالمياً ضمن مصدري الغاز الطبيعي المسال، وبلغ الفائض في العام الماضي 3.5 مليار متر مكعب جرى تصديرها للخارج. ومع توالي اكتشافات الحقول، قد تمثل الحرب فرصة لمصر لتنفيذ خطتها الطموحة من أجل دخول فئة المصدرين للغاز المسال، والتخفيف من الضغط على موازنتها العامة وتوفير العملة الصعبة. فعلى سبيل المثال، يحصل الاتحاد الأوروبي على نسبة 41% من احتياجاته للغاز الطبيعي من روسيا، وهي احتياجات باتت مهددة بسبب الحرب.
لكن عامر توقع حدوث ارتفاع في أسعار السلع لأن مصر تعتمد على روسيا وأوكرانيا في توفير العديد من السلع الغذائية الأساسية، لذا يجب على الدولة تشغيل المشروعات الزراعية الإستراتيجية لتعويض نقص السلع من خلال الإنتاج المحلي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...