تسابقُ سنية الزمن للظفر بمولود يملأ فراغ حياتها، ويؤنس وحشة بيتها، وتتمنى حدوث معجزة توقف عقارب الساعة وتحول دون مرور الزمن، لتبقى فرص الإنجاب لديها قائمةً. وسنية امرأة أربعينية تسعى وراء حلم الأمومة منذ أن تأخر حملها: "تزوجت سنة 2018، في سن الثامنة والثلاثين. تواترت عليَّ الأسئلة حول حملي من عدمه منذ الأشهر الثلاثة الأولى لزواجي. أسئلة لطالما سبّبت لي حرجاً، ولفتت انتباهي إلى ضرورة زيارة الطبيب للوقوف على أسباب هذا التأخر في الحمل، واستئناف رحلة العلاج مبكراً في حال وجود إشكال يعيق عملية الإنجاب. بعد مرور السنة الأولى، اتسعت دائرة الأسئلة من العائلة المصغّرة، لتشمل الجيران والأقارب وزملائي في العمل، وحتى بائع السمك المتجول! وسرعان ما تحولت هذه الأسئلة المتكررة والنصائح الرتيبة إلى جرح عميق يؤلمني، وزجت بي بين فكَّي الدجالين، وكلفني ذلك ما كلفني".
كابوس مؤرق
تؤكد سنية وهي معلّمة متحدّرة من ولاية نابل، أن رحلة علاجها مع أطباء النساء، بالتوازي مع الطب البديل والعلاج بالأعشاب، أصبحت بمثابة كابوس مرعب يؤرقها، خاصةً في ظل انتشار بائعي الوهم للحالمين بالإنجاب. وتضيف أنها بعد فشل ثلاث عمليات للولادة بتقنية التخصيب المعروفة بـ"طفل الأنبوب"، قرّرت أن تكتفي بالعلاج في المستشفى العمومي، فقد أهدرت جميع ممتلكاتها على العلاج بشتى أنواعه من دون نتيجة تُذكر، علما أنها كانت تحمل وزر تكاليف التلقيح الاصطناعي في مصحة خاصة بمفردها، على الرغم من ارتفاع ثمنها، فشريكها لم يكن ينفق ولا مليماً واحداً.
تحولت هذه الأسئلة المتكررة والنصائح الرتيبة إلى جرح عميق يؤلمني، وزجت بي بين فكَّي الدجالين، وكلفني ذلك ما كلفني. واليوم لجأت إلى تقنية "طفل الأنبوب" لتحقيق حلم الأمومة
يوضح الأخصائي في أمراض النساء والتوليد ومعالجة العقم، الدكتور عمار العابدي، أن عملية طفل الأنبوب تقتضي المرور بمراحل عدة أولها تشخيص وضعية الشريكين، المرأة والرجل، والقيام بتحليلات طبية للتحقق من وجود التهابات أو بكتيريا أو طفيليات، كون وجودها يقلص نسبة نجاح العملية من 60 إلى 10 في المئة، وتالياً وجب توفير حظوظ النجاح، ثم إجراء فحوصات بالمنظار للرحم قبل وضع الأجنة بعد عملية الحصول عليها من الرجل.
ويؤكد الأخصائي في تصريحه لرصيف22، ضرورة القيام بتحاليل أخرى إجبارية، وهي تحاليل التهاب الكبد الفيروسي بأنواعه، ومرض الإيدز. وإذا ثبت حمل الشخص لمثل هذه الأمراض المعدية، يُخصَّص له يوم معيّن لتفادي نقل العدوى.
مسيرة الألف ميل...
ويتابع الطبيب أنه بعد "بعد مرحلة التحضير الأولي، والتأكد من أن المرأة لا يمكنها الحمل إلا عن طريق طفل الأنبوب، نضعها في برنامج أطفال الأنابيب، ونُعلِم المخبر، ثم ننطلق في مرحلة تنشيط المبيضَين حتى يتم إنتاج بويضات سليمة وبأكبر عدد ممكن، وتستغرق هذه العملية ما بين 12 و14 يوماً، حسب استجابة المرأة. وعندما يتم تحصيل بويضات جاهزة للتلقيح بحجم 2 سم، مع بطانة رحم تظهر عليها إمكانية الاستجابة، يتم شفط البويضات في مصحة، وتجميد أكبر عدد ممكن منها لتحصيل أكبر عدد من الأجنّة المفترضة، ثم يتم زرعها في الرحم. بإمكاننا تخزين أجنّة لاستعمالها مرةً أخرى، وتفادي عملية التنشيط لكلفتها الباهظة".
على الرغم من أن تونس رائدة في مجال التلقيح الصناعي، وتُجري سنوياً نحو عشرة آلاف عملية طفل أنبوب، بنسب نجاح محترمة، فإن التكاليف التعجيزية لمثل هذه التدخلات الطبية تحرم العديد من الأزواج من تعزيز فرص الإنجاب
وبيّن الدكتور عمار العابدي، أن كلفة عملية طفل الأنبوب في المصحات الخاصة تُقدَّر بنحو 1،500 دولار، أي 4،500 دينار تونسي. يُخصص ألفا دينار لحقن التنشيط، وألفان آخران للمصحة الخاصة، و500 دينار للطبيب الذي قام بعملية التنشيط، مشيراً إلى أنه لا يتم توجيه المرأة إلى المصحة إلا بعد التأكد من أن حظوظ نجاح العملية وافرة، علماً أن حظوظ النجاح مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بعمر المرأة، فكلما كانت أصغر تكون الحظوظ أوفر.
كما رأى أن نتائج عمليات طفل الأنبوب في تونس مشرّفة، وتتراوح نسبة نجاحها بين 50 و60 في المئة، وهي نسب تضاهي النسب المسجلة في أوروبا على الرغم من أن مصحاتهم لا تقبل إجراء العملية لمن تجاوز عمرها الأربعين سنةً، لتكون نسبة النجاح لديهم عالية.
وبخصوص الحالات التي تستوجب إجراء عمليات طفل أنبوب، أكد الأخصائي أنها تتلخص في ضعف المبايض، أو انسداد القنوات عند المرأة، وضعف الحيوانات المنوية لدى الرجل، أو انعدامها أحياناً، وفي حالات العقم غير المفسَّر، وتكون في هذه الحالة نسبة نجاح العملية وافرةً جداً.
تعدد الأسباب... والحلم واحد
سعيدة امرأة أتمّت عقدها الرابع قبل أشهر فقط، التقينا بها داخل إحدى عيادات طب النساء والتوليد في مدينة باردو في محافظة منوبة، وهي حامل في شهرها السادس، وتتردد على طبيبها دورياً لمتابعة تطور نمو جنينها الأول الذي انتظرته لأكثر من 12 سنةً. تتحدث سعيدة عن مشاعر الفرح الممزوجة بالخوف التي تعتريها منذ أن تحقق ما كانت تظنه مستحيلاً.
تقول سعيدة إنها أجرت عملية تلقيح اصطناعي في مصحة خاصة، ونجحت التجربة منذ المرة الأولى: "لقد ظننت أنني سأقضي بقية حياتي وحيدةً، ولم أتخيل يوماً أني سأحمل وأضع وأصبح أمّاً كسائر نساء العالم. للأسف أهدرت وقتاً طويلاً في الانتظار، لكن لم يكن في وسعي فعل الكثير، فزوجي كان ممتنعاً عن تلقي العلاج خاصةً عندما أعلمه الطبيب المباشر لحالتنا بأن الاضطرابات الهرمونية لديه هي السبب في عدم حدوث الحمل".
كلفة عملية طفل الأنبوب في المصحات الخاصة تُقدَّر بنحو 1،500 دولار، أي 4،500 دينار تونسي. عملية باهظة السعر لكن تلجأ إليها الكثير من التونسيات
تروي سعيدة بإيجاز عن سنوات الألم التي قضتها في الركض وراء حلمها، وعن شتى أنواع التنمر والاستغلال التي تعرضت لها، وكذلك عن الخلطات "العجيبة" التي تعدّها جدتها مبروكة بكل حب، والمتمثلة في مزيج من الأعشاب الجبلية مع بعض "التعويذات" التي ترددها في كل مرة، عسى أن تظفر بحل لحفيدتها.
على الرغم من انتظارها لسنوات طويلة، فإن سعيدة أوفر حظاً من لبنى التي أضاعت جميع فرص الحمل في رحلة العلاج الماراتونية لدى أطباء الاختصاص، ولم تأخذ بعين الاعتبار دقة المرحلة التي تمر بها. تقول لبنى إن وضعها المادي الصعب وغلاء كلفة التلقيح الاصطناعي في تونس، حالا دون قيامها بهذه العملية في مصحة خاصة، على الرغم من أن "الوقت يداهمها". لذا لجأت إلى المستشفى العمومي حيث تم تشخيص حالتها وزوجها، وأحيلا إلى القيام بالتحاليل اللازمة، لكن عند عرض ملفها على "الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي" (مؤسسة الرعاية الصحية الحكومية)، لتغطية كلفة العملية، جُوبِه ملفها بالرفض إذ تجاوزت سن الأربعين، وفرص نجاح طفل الأنبوب بلغت أدنى مستوياتها وفقاً لتقدير صندوق التأمين.
تونس رائدة ولكن...
على الرغم من أن تونس رائدة في مجال التلقيح الصناعي، وتُجري سنوياً نحو عشرة آلاف عملية طفل أنبوب، بنسب نجاح محترمة، فإن التكاليف التعجيزية لمثل هذه التدخلات الطبية تحرم العديد من الأزواج من تعزيز فرص الإنجاب لديهم، وتظل المستشفيات العمومية وطوابير الانتظار ملاذهم الوحيد.
يؤكد الناطق الرسمي باسم الصندوق الوطني للتأمين على المرض، عبد العزيز السبعي، أن الصندوق يتكفل بتأمين الحقن المنشطة لمصحات الضمان الاجتماعي، ويتم النظر في التقارير الطبية من قبل لجنة فنية تنعقد أسبوعياً للنظر في مطالب التكفل بعمليات طفل الأنبوب في غضون ثلاثة أسابيع، وإذا تم تجاوز هذه الفترة فهناك نقص في الملف.
ويضيف السباعي في حديثه إلى رصيف22، أن الصندوق يتكفل بتأمين الحقن حتى للنساء اللواتي يتجاوزن سن الأربعين بسنة أو اثنتين، وذلك حسب طبيعة كل حالة وعلى ضوء التقارير الطبية.
وتجدر الإشارة إلى أن كلفة عمليات طفل الأنبوب في المستشفى العمومي "عزيزة عثمانة"، في العاصمة، أو "فرحات حشاد" في سوسة، رمزية تُقدَّر بـ60 ديناراً تونسياً (20 دولاراً)، علما أن صندوق الضمان الاجتماعي يتكفل بتأمين الحقن المنشطة ثلاث مرات فقط.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...