تجنبت في الفترة الأخيرة قراءة ومشاهدة ما يعيد ذاكرتي إلى سوريا. حاولت أن أتخذ مسافة تسمح لنجاتي بالاكتمال ولقلبي بالشفاء من آلام الدمار.
إلا أن أرتال الناس التي خرجت من أوكرانيا بحقائب صغيرة تشبه تلك التي خرجنا بها من سوريا، أعادت نبش الذكريات نفسها ولم يعد من المفيد الهرب إلى الأمام.
فتحت كتاب "العصافير لا تعود" وبدأت قراءة الرواية الغرافيكية التي كتبتها ورسمتها ناديا نخلة. سحرتني اللوحات التي تروي من خلالها المؤلفة حكاية طفلة سورية تعبر الحدود متجهة إلى أوروبا.
نجحت الفنانة-الكاتبة في نقل رؤية الطفلة أمل إلى العالم المظلم الذي يدفعها إلى ترك جدها وجدتها خلفها والمضي وحيدةً في رحلة اللجوء. غلب اللون الأسود على معظم الرواية مما جعل دخول اللون إلى اللوحات في لحظات قليلة ذا أهمية وتأثير كبيرين. امتلكت شخصيات نادرة ملامحَ وجوه فيما ظلت بقية الشخصيات من دون وجوه وملامح، وهذا ما زاد قسوة العالم الذي تعيشه الطفلة الهاربة من حضن عائلتها الدافئ.
تلتقي أمل خلال رحلتها شخصيات ثانوية تستكمل رواية الرحلة الصعبة للهرب، إلا أن الشخصية الثانية الرئيسية تظهر في الفصل الثالث، وهي شخصية باسم، مقاتل حمل السلاح بعدما قتلت أخته الصغيرة، ويتركه وينشق بعد تلقيه أوامر بإطلاق النار على مدنيين. ولا أنكر أن انحيازي السياسي للثورة السورية جعلني أتوقف عند هذا التفصيل الإشكالي مطولًا رغم إمكانية حصوله في الواقع، مما أعاد لذاكرتي نقاشات كثيرة دارت بيني وبين أصدقاء حول دورنا كعاملين في مجال الفن بحفظ الرواية السورية وإيضاح ما يجري وخطورة الوقوع في فخ الفن الذي يتحول إلى مانيفستو سياسي يهدف إلى إدانة النظام السوري وشرح تفاصيل القضية بدل أن يروي حكايات السوريين وما عاشوه. ويزداد هذا الحوار تعقيداً عندما نتوجه إلى جمهور غير ناطق باللغة العربية.
تستعرض الرحلة أشكال القهر والاستغلال التي يمكن أن تتعرض لها فتاة قاصر تسافر وحيدة. ففي المخيم، تنشغل أمل بتعبئة الماء للخيمة بدل أن تتعلم.
يخطر لي أحيانًا أن رواية كهذه قد تكون مصدر المعلومات الوحيد الذي يستند إليه قارئ حول ما جرى ويجري في سوريا. ولأن الرواية مكتوبة بالفرنسية قد يخطر للمرء أن المعلومات قد تختلط على القارئ، ولكن السؤال يبقى حاضرًا ومعلقًا من دون إجابة: هل دور الرواية أن يشرح لنا ما جرى أم أن يروي لنا حكاية أمل وباسم؟ لا سيما أن الرواية تنطلق من هرب أمل بسبب قصف الطائرات لمدينتها. تبدو الإجابة عن السؤال ضرورية، وفي نفس الوقت تحمل الرواية ما لا قبل لها على حمله، ولكن انزعاجي الشخصي قائم بالدرجة الأولى على قلق من مسح روايتنا ومن خوف دائم من أن تضيع عدالة القضية من كثرة التعقيدات المحيطة بها.
تستعرض الرحلة أشكال القهر والاستغلال التي يمكن أن تتعرض لها فتاة قاصر تسافر وحيدة. ففي المخيم، تنشغل أمل بتعبئة الماء للخيمة بدل أن تتعلم. تمر سيارة في المخيم ويحاول السائق استدراجها لتركب معه بحجة مساعدتها في إيصال الماء، يحاول المهرب إقناع باسم ببيعها له، وتحاول قوادة استغلالها في أوروبا بُعيد وصولها. ولكن الرواية ترغب في إعطائنا جرعة من الأمل، إذ تتغلب الطفلة على كل تلك المصاعب والمواقف إما بشجاعتها أو بمساعدة أشخاص طيبين يدافعون عنها عند الضرورة.
يضاف إلى الرواية عنصران آخران يزيدان من جماليتها، هما التقابل الذي تخلقه المؤلفة بين هجرة أمل وباسم وهجرة الطيور، إذ ترافق الطيور المهاجرة أحلام أمل التي تنفتح وسع السماء الزرقاء، وعالم الموسيقى الذي يفتحه عود باسم أمام أمل الصغيرة التي تبني عالمًا كاملًا ومستقبلًا من أغنية يؤلفها باسم خصيصًا لرحلتهما تروي حكاية الطيور المهاجرة.
ترغب الرواية في نقلنا إلى عالم من السحر والخيال كي تخفف عنا وطأة الواقع المؤلم الذي تعكسه، كما تركز على أهمية العطف الذي قد يبدو في الأحوال الطبيعية عاديًا، ولكنه في الحالات القصوى، كما حالة أمل، يعني أكثر بكثير من مجرد وردة تهديها بائعة إلى طفلة متعبة، لتصبح تفاصيل اللطف الصغيرة جوهر قدرة أمل على الاستمرار في رحلتها وعلى الإيمان بقدرتها على الوصول إلى هدفها.
أعادتني الحكاية مع انتهائها إلى نقطة الانطلاق. كنت تجنبت الروايات المشابهة بعض الوقت كي لا أعود إلى حنيني، ولكن الرواية نفسها تؤكد أن "العصافير لا تعود" بل تفرد أجنحتها وتطير من دون التفات إلى الخلف، ماضيةً في رحلتها نحو الهدف.
تنجح الرواية أيضًا في نقل شحنة عاطفية شديدة، وتجعلنا نترجّح في مشاعرنا بين الحزن والبهجة، وبين اليأس والأمل، وبين الواقع والحلم، مما يحوّل عالم الرواية الساحر ولوحاته المدهشة إلى صور مؤثرة تهز المشاعر بقدر ما تؤثر الفيديوهات الحقيقية، ولكن بصيغة فنية أرفع.
أعادتني الحكاية مع انتهائها إلى نقطة الانطلاق. كنت تجنبت الروايات المشابهة بعض الوقت كي لا أعود إلى حنيني، ولكن الرواية نفسها تؤكد أن "العصافير لا تعود" بل تفرد أجنحتها وتطير من دون التفات إلى الخلف، ماضيةً في رحلتها نحو الهدف.
فكرت، قد يكون هربي ذاك نوستالجيًا في ذاته، إذ يحفظ ما تبقى من تلك الصور الباقية عن مدينة عشتها، وأعلم أنها لا تشبه أي صورة مما هي عليه اليوم. قد أكون بتجنبي رؤية ما يحدث اليوم أحيط تلك الصورة القديمة بما أمكن من الحرص كي لا يتهشم ما بقي منها.
لعل العصافير لا تعود، ولكنها تحنّ مهما حاولت المقاومة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...