عندما أطلق رئيس حركة النهضة الإسلامية في تونس، راشد الغنوشي، مؤخراً، تصريحات على أكثر من صعيد في محاولة لاستفزاز خصمه الرئيسي، الذي أطاح به من دفة الحكم الذي كان يديره من مقر البرلمان في باردو، الرئيس قيس سعيّد، لم يكن ليتصور أن تُقابَل تلك التصريحات بهذا الكم الهائل من السخرية واللا مبالاة، وكأن الرجل شأنه شأن حركته يعيشان في عالم آخر موازٍ.
قال الغنوشي في اجتماع لمبادرة "مواطنون ضد الانقلاب"، ذراع حركة النهضة الإسلامية الرئيسية في مواجهة سعيّد، إن البرلمان "عائد أحب من أحب وكره من كره"، فالرد هنا واضح بأن البرلمان سيعود بالفعل لكن بتركيبة جديدة، فبعد انتخابات تشريعية مبكرة من المقرر إجراؤها في 17 كانون الأول/ ديسمبر المقبل، سيكون هناك برلمان تونسي منتخب، لكن ليس ذلك البرلمان الذي جُمِّد في 25 تموز/ يوليو 2021، بعد سلسلة من الفضائح وصلت إلى حد إراقة الدماء والتعدي على المرأة التونسية جسدياً ورمزياً، ما مثّل سقوطاً صارخاً لمؤسسة ضحّى العشرات من التونسيين من أجلها ضد المستعمر في 9 نيسان/ أبريل 1938.
الحقيقة هي أن الحركة فقدت قاعدتها الشعبية بسبب تقلب مواقفها السياسية، ليس لتمرير مشاريع تنفع التونسيين، وإنما للحفاظ على نفوذها، فالحركة التي وعدت بقطع الطريق نهائياً على رموز النظام السابق من حزب التجمع الدستوري الديمقراطي
عاد الغنوشي بعد ذلك في سلسلة من التصريحات إلى قناة الجزيرة، ليقول إن سعيّد هو الوحيد المعبّر عن معاني الفشل، واللافت هنا أن رئيس حركة النهضة الخارجة من رحم جماعة الإخوان المسلمين، تناسى أن حركته قادت البلاد إلى هذا الوضع المُعقد سياسياً واقتصادياً. فمنذ 2011، سيطرت النهضة على كل الحكومات تقريباً، وحتى تلك التي لا تسيطر عليها علناً فإنها تقوم بتحريكها من خلف الستار، ما يعني أن الفشل الحالي تتحمّل مسؤوليته الحركة قبل أي طرف آخر، ولو أن سعيّد ليس بريئاً مما آلت إليه الأوضاع، فالرجل قضى سنتين في الحكم إلى الآن وأكثر من ستة أشهر وهو يمسك بكل السلطات تقريباً.
يُقال إن السياسة هي "فن الممكن"، لكن يبدو أن الغنوشي الذي كان يمثّل رقماً صعباً لم يدرك ذلك، شأنه شأن قيادات حزبه ونوابه، فالأمور تجاوزت النهضة التي تبدو أوهن من بيت العنكبوت بعد فشلها في حشد الشارع ضد سعيّد، وفشلها أيضاً في تأليب الرأي العام الإقليمي والدولي ضده على الرغم من الاستنفار الذي قامت به منذ الخامس والعشرين من تموز/ يوليو الماضي.
من المقولات الأخرى للغنوشي لدى سؤاله من قبل "الجزيرة نت"، عما إذا كان حل المجلس الأعلى للقضاء سيمهّد لحل حركته أيضاً، أجاب بأن حزبه لا ينتظر شهادة وفاته إلا من التونسيين، وفي هذا مكابرة وتجاوز للواقع، فالحركة التي اعتمدت خطاباً دينياً في انتخابات 2011، إثر عودة قيادتها من المنافي محاولةً دغدغة مشاعر الناخبين الدينية في مجتمع محافظ، قد تهاوت شعبيتها تدريجياً، حتى أنه عندما طالب الغنوشي في السادس والعشرين من تموز/ يوليو الماضي أنصاره بالنزول إلى الشوارع "انتصاراً للديمقراطية"، لم يستجب له سوى العشرات قبل أن ينسحبوا.
فخزان الحركة الانتخابي سرعان ما انهار منذ 2011، إذ حازت الحركة على 89 مقعداً في المجلس الوطني التأسيسي عندما منحها مليون ونصف المليون من الناخبين أصواتهم، قبل أن يتراجع عدد المصوّتين لها بحدود الـ900 ألف ناخب في 2014، إذ حجزت الحركة 84 مقعداً فقط في البرلمان (من مجموع 217)، ثم في 2019 صوّت لها 560 ألفاً فقط، ما مكّنها من حيازة 52 مقعداً لا غير.
الحقيقة هي أن الحركة فقدت قاعدتها الشعبية بسبب تقلب مواقفها السياسية، ليس لتمرير مشاريع تنفع التونسيين، وإنما للحفاظ على نفوذها، فالحركة التي وعدت بقطع الطريق نهائياً على رموز النظام السابق من حزب التجمع الدستوري الديمقراطي، صوتت لصالح مشروع قانون المصالحة (مع رجال الأعمال)، وصوتت ضد مشروع قانون العزل السياسي الذي طرحته المعارضة، والنهضة نفسها التي تقدّم نفسها على أنها حزب إسلامي، أقصت مناضليها لفسح المجال في الانتخابات المحلية والبلدية أمام نساء غير محجبات لتظهر بـ"لوك جديد" أثار موجةً من السخرية في 2018، ذلك أن الناس يدركون أن النهضة تناور فحسب، لكنها لم تتغير، وهذه عقيدة الإسلاميين، فهم يتجملون لكنهم لا يتغيرون.
هناك حقيقة ثانية هي أن الإسلاميين في تونس جازفوا بمصداقيتهم لربح معارك سياسية، ذلك أن خصمهم الأول في 2019، والذي نعتوه بأبشع النعوت من فاسد ومتحالف مع الصهاينة وغيرها، ألا وهو نبيل القروي، رئيس حزب "قلب تونس"، تحالفوا معه في ما بعد، ثم الآن تجاوزوا ذلك بمحطات ودخلوا متاهة "التهريج السياسي"، وهذا ليس من باب التجنّي.
في المحصلة، يعيش الإسلاميون في تونس في عالم آخر موازٍ تماماً لذلك الذي يعيشه التونسيون، وأي معارضة حقيقية قادرة على التصدي للسلطة، فهم لا يزالون يكابرون وكأن وهم القوة عندهم يكبر يوماً بعد يوم
فخروج المتحدث الرسمي باسم البرلمان والقيادي في حركة النهضة، ماهر مذيوب، من أمام البيت الأبيض وهو يهدد التونسيين بصورة يتيمة له من أمام البيت البيضاوي في ذروة الأزمة الأوكرانية، وأرفق تدوينته بجملة: "من أمام البيت الأبيض، من أجل القضية التونسية"، يُعد ضحكاً على ذقون تونسيين همهم الوحيد التخفيف من وطأة الأزمة التي تعيشها بلادهم، بما ينعكس على قدرتهم الشرائية وعلى أحوالهم بعد أن أنهكهم تردّي الوضع الاقتصادي وغيره.
في المحصلة، يعيش الإسلاميون في تونس في عالم آخر موازٍ تماماً لذلك الذي يعيشه التونسيون، وأي معارضة حقيقية قادرة على التصدي للسلطة، فهم لا يزالون يكابرون وكأن وهم القوة عندهم يكبر يوماً بعد يوم، ويُضيفون إلى رصيدهم السلبي في الحكم استفزازات لا طائل منها، مثل دعوة الغرب إلى قطع المساعدات عن تونس، سواء الطبية أو المالية أو غيرها
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 19 ساعةأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يومينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...