كانت طلتها الساحرة على الشاشة الفضية لا تقاوم، تجمع بين موهبة أشبه بمعجزة، وجمال أخاذ مراوغ ببرائته وأنوثته المشعّة.
لم تكن المرة الأولى التي تستعرض فيها السندريلا سعاد حسني، قدراتها الفنية المتعددة، تمثل، ترقص وتغني، كما يشير الملصق الدعائي للفيلم، ولكن "زوزو" ليس دوراً عادياً، بل دور العمر وسبب الشهرة الواسعة، والاسم الذي ظل لصيقاً بها حتى يومنا هذا.
انتشرت الأغاني في كل مكان، وتحولت ملابس الشخصية إلى أيقونات تحاكيها الفتيات، وراجت الجمل الحوارية مترددة على الألسن.
حسن الإمام
خَلق "خلي بالك من زوزو- 1972" حالة سينمائية خاصّة، حققت نجاحاً غير مسبوق في شباك التذاكر لمدة تزيد عن عام، ولا تزال محتفظة بجمالياتها وبريقها بعد مرور نصف قرن على عرضها.
مثّل الفيلم نقطة تحول في حياة صنّاعه، وعلى رأسهم مخرجه حسن الإمام، الذي نمر بذكرى ميلاده اليوم 6 مارس/ آذار.
فقد اشتهر منذ البداية بتقديمه لنوعية القصص الميلودرامية، الحافلة بمآسٍ تستدرّ العواطف، ومصادفات متعاقبة، يتخللها أغاني ورقصات مثيرة، وتنتهي بموعظة/درس في أغلب الأحوال.
استطاع الإمام أن يصنع عالماً خاصاً به، لا تخطئه العين، سواء كان العمل من تأليفه أو مقتبساً عن الأدب، كأعمال نجيب محفوظ، أما فيلم "زوزو" فكان محطة جديدة في سينماه، تولى اهتماماً أكبر بالاستعراضات والغناء وإن كانت المآسي حاضرة، ظهرت بوادرها في فيلم "إضراب الشحاتين-1967" الذي يحكي عن واقع الشحاذين عقب ثورة 1919، في قالب موسيقي.
كذلك لعب الفيلم دوراً في مسيرة صلاح جاهين، لأنه أول تجاربه في كتابة السيناريو والحوار، بعد باع طويل في ممارسة الشعر وإصدار الدواوين ورسم الكاريكاتير، فضلاً عن كتابة الأوبرتات والأغاني التي كان أغلبها يحتفي بثورة 1952 ومبادئها ومشروعاتها.
سياقات ولادة "زوزو"
ظهر "خلي بالك من زوزو" في فترة تحولات عميقة ومتسارعة في تاريخ مصر على جميع الأصعدة. كانت بداية الحقبة الساداتية ذات النهج المغاير لمبادئ ثورة يوليو وزعيمها، حيث تم القضاء على مراكز القوى الناصرية، وأطُلق سراح الإخوان، وظهرت مؤشرات أولية لسياسة الانفتاح التي أُعلن عنها رسمياً فيما بعد. أما الروح المعنوية فقد كانت منخفضة، بسبب حالة اللاسلم واللاحرب التي طالت بعد نكسبة 1967، وانطلقت انتفاضة الطلبة مطالبة بتحرير الأرض.
سينمائياً، ساد توجه عام بتقسيم الأفلام إلى نوعين؛ إما هزلية غرضها إلهاء الجمهور وتغييب الوعي، أو هامة تقدم في الغالب تحليلات عميقة لأسباب الهزيمة.
كان "أبي فوق الشجرة-1969" لحسين كمال، أبرز مثال على الأعمال التي اعتبرها النقاد آنذاك هابطة، بالرغم من الإقبال الكبير عليه واستمراره في دور العرض لأكثر من 50 أسبوعاً.
توضح الممثلة نادية لطفي، في مذكراتها "اسمي بولا": "نجاح الفيلم عمل غيرة شديدة في الوسط السينمائي، يعني حسن الإمام مثلاً قرر أن يرد عليه، ولم يسترح إلا بعد النجاح الهائل لفيلم (خلي بالك من زوزو) مع سعاد حسني وحسين فهمي".
أصبح المزاج العام يميل إلى الهروب من مرارة الواقع وارتباكه ويفتش عن البهجة. ولم يكن الأمر مقتصراً على الجمهور، حتى بعض المثقفين والفنانين كانوا بحاجة إلى النسيان مؤقتاً. هذا ما حدث مع صلاح جاهين، وقصته المعروفة مع الاكتئاب، وشعوره بالمسؤولية والمشاركة في خداع الشعب.
كان عليه أن يخوض مغامرات جديدة، خاصة بعد رحلته العلاجية في موسكو. من هنا جاء الحماس لـ "زوزو"، الذي عرّضه لانتقادات قاسية واتهامات بالتخلي عن المبادئ.
كيف تمردت "زوزو" على مآسي الميلودراما؟
يفتتح حسن الإمام الفيلم على سباق جري، تفوز فيه بطلته بالمركز الأول وترفع الكأس، ويلحقه بحوار تجريه معها زميلتها في الجامعة لمجلة الحائط.
تتحدث زوزو بذكاء وخفة ظل عن طموحاتها وأحلامها، وتلخصها في التخرج والحصول على وظيفة حكومية آمنة، وسرعان ما نتعرف على عمران (محي إسماعيل) الشاب المتزمت، ومجلته المعارضة للأنشطة والأفكار التحررية.
مزاج عام يميل إلى الهروب من مرارة الواقع وارتباكه، ويفتش عن البهجة. مثقفون وفنانون كانوا بحاجة إلى النسيان
ولكن هذا لا يحول بين زوزو وداعميها، الذين يرون فيها الفتاة المثالية، كما نشاهد في الاستعراض الأول. يحرص الإمام في هذا التتابع المشهدي على التأسيس جيداً لعالم الجامعة، الذي يشكل موقعاً مهماً للأحداث وتصاعدها، ويعرفنا على الخصم الأبرز في حياة شخصيته الرئيسية.
ننتقل بعدها إلى العالم الآخر الذي تنتمي له زوزو، وندرك ازدواجية واقعها وعمق صراعها، حيث شارع محمد علي وعوالمه وموسيقييه وشروط عمله التي تهدد أحلام البطلة، ابنة الراقصة، ورغبتها في العيش بطريقة أفضل.
يعرف المخرج بواطن هذا العالم، ويقدر الفن القادم منه، بل ويتعاطف مع ممتهنيه، ولا يحاكمهم أخلاقياً.
ينحاز الإمام إلى تمسكهم بمفهوم الشرف التقليدي، مثلما يفعل في "خلي بالك من زوزو"، وإن كان يتغاضى عن أمر العفة في أعمال أخرى، مدركاً قسوة المجتمع عليهم. يقول: "عشت سنوات طويلة مع عوالم شارع محمد علي، كان يطلق عليهن في زمانهن لقب (الهوانم) وكن بالفعل هوانم شكـلاً وهامة واحتراماً".
الميلودراما حاضرة في الحكاية المستوحاة من قصة لاعب رفع الأثقال، الذي تزوج راقصة شهيرة وأنجب بنتاً، صارت فيما بعد صحفية كبيرة بالأهرام. لكن زوزو شخصية إيجابية، تعلم ماذا تريد وتسعى للوصول إليه بجرأة ووضوح، أو كما تقول وهي تشير بقبضة يدها "تؤخذ الدنيا كدهه". لذا، تبادر بالتقرب من المخرج الشاب الذي يروق لها، وتتغزل في جماله وطباعه في أغنيتها "يا واد يا تقيل". تعي جيداً أن عائلته الثرية لن تتقبل حقيقتها. ولكن عندما تجدهم يسخرون من أمها ومنها، لا تهرب، بل تقف وتواجه في مشهد راقص حزين يعري الطبقة البرجوازية وقيمها الهشة.
ورغم ترنّحها لفترة إثر هذه الواقعة، خاصة بعد أن يُكشف سرها في الجامعة، فإنها تعود من جديد مستعدة للمواجهة، غير راغبة في التخلي عن الطريق، الذي رسمته لنفسها.
يُعبر "زوزو" عن التغيرات التي طرأت على تركيبة المجتمع المصري بعد ثورة يوليو، وما صاحبتها من سياسات، مثل اتساع قاعدة التعليم المجاني، فالجامعة باتت ساحة تضم أبناء شرائح اجتماعية مختلفة ومتفاوتة، والجميع يطمحون في الترقي الطبقي، والتحرر من ماضيهم.
وهنا، يصبح سؤال "من أنت؟" الذي سألته البطلة لحبيبها مهماً وملحاً على مدار الأحداث. تتجلى إجابته في شخصية سليمان الأنكش (سمير غانم) عازف الكلارينت في شارع محمد علي، الذي أكمل دراسته وسافر في بعثة، غيرت مستقبله المهني ووضعه الاجتماعي.
وتتبلور بشكل خطابي مباشر في النهاية، عندما تقف زوزو في مدرج الجامعة، مدافعة عن حقيقتها، وعن حق كل إنسان في اختيار طريقه في الحياة بصرف النظر عن أصله وبيئته.
وصحيح أن التناول لا يخلو من أبعاد أخلاقية وتصرفات رجعية، يغازل بها حسن الإمام جمهوره، كصفعة المخرج على وجه زوزو ليمنعها من العمل في ملهى ليلي وهجر الدراسة.
لكن هذا لا يقلل من أهمية الأفكار الأخرى التي يطرحها، والمواقف التي يتبناها. خاصة وأن تقديم عمل لا يدين الراقصات، وينظر إلى الرقص الشرقي باعتباره فناً، يبدو أمراً صعباً في يومنا هذا، وقد يتعارض مع "قيم الأسرة المصرية"!
جماليات صامدة أمام الزمن
حكاية زوزو لم تكن مثل غيرها من حكايات الصراع الطبقي والبحث عن الذات، وإنما كانت ظاهرة في كيفية صناعة البهجة بصدق وحرفية عالية، بداية من انسيابية الحوار وبساطة كلماته وقربها من بيئة الشخصيات نفسها. حيث تعلق في الأذهان وتصبح صالحة للاستدعاء في أي وقت، مثل "جمعاء" و"كلنا ولاد نعيمة ألماظية"، ينسحب الحديث أيضاً على الأغاني وألحانها الخفيفة المميزة، والاستعراضات الحركية المتقنة التي تؤديها سعاد بحيوية وتألق.
كما أن اختيار ممثلين يتمتعون بحس كوميدي عال وبصمة أداء واضحة، مثل نبيلة السيد وسمير غانم ووحيد سيف، يعد من أهم العناصر الجذابة في الفيلم. هذا إلى جانب قوة تأثير تحية كاريوكا، سواء بصفتها خارج الشاشة، كواحدة من أهم الراقصات في تاريخ مصر، أو داخلها بتجسيدها لشخصية راقصة، تغير الزمن من حولها بعدما سرق جمالها وقوتها، كذلك حضور حسين فهمي، الوجه الجديد الوسيم الذي اكتشفه الإمام، ووظفه جيداً في دور فتى الأحلام.
وبشكل عام، تميز الإمام على مدار مشواره السينمائي بقدرته على توجيه ممثليه، ومساعدتهم على ضبط الانفعالات خلال فترة البروفات، فهو يعشق اللقطات الطويلة الممتدة، التي تعتمد أساساً على براعة الممثل وتحركاته داخل المشهد مع استمرارية الحوار، متأثراً ببداياته المسرحية مع يوسف وهبي في فرقة رمسيس.
"زوزو" في مواجهة الاتهامات
النجاح الكبير الذي حققه الفيلم تجارياً، قابله غضب شديد من النقاد، وحملات هجوم في الصحف على صنّاعه، تتهمهم بالخيانة الوطنية وتشويه صورة انتفاضة الطلبة، واختزالها في الدفاع عن راقصة، حتى أن الناقد سامي السلاموني، خلال حضوره ندوة بجامعة القاهرة، دعا إلى مسيرة احتجاج تتحرك من الجامعة إلى سينما "أوبرا" للتنديد بمضمون الفيلم.
كذلك كتبت الأديبة غادة السمان عقب عرض الفيلم في بيروت، إنه عمل فني عتيق ورجعي، لم يأت بأي جديد.
وأضافت: "ها هي سعاد حسني تخلع ثيابها وجمهور 5 حزيران/يونيو يركض، والفيلم كله رقص، وغنج، وموسيقى، ودلع، وتخدير من أي موقف إنساني عميق".
عمل لا يدين الراقصات، وينظر إلى الرقص الشرقي باعتباره فناً، وعالم العوالم لديه "الشرف" بغض النظر عن "العفّة"... يتعارض كل ذلك الآن مع "قيم الأسرة المصرية"!
لم يستطع المثقفون أن ينظروا إلى إيجابيات الفيلم، أو يتقبلوا وجود أنواع مختلفة من الفنون للمشاهدة والتلقي خلال هذه الفترة الحرجة، لكن صموده طوال هذه السنوات، وتعاقب الأجيال على حبه، دفع بعض النقاد إلى مراجعة مواقفهم وآرائهم، مثل الناقد السينمائي كمال رمزي.
يقول: "أتذكر إنه عُرض في فترة حرب، عدد منا هاجمه، لم أكتب عنه لأنني شعرت بأنني متناقض، بالمعايير الفكرية الصارمة لست مع الفيلم، وعلى النقيض أحببته، وأحببت الأشياء الجميلة فيه، والحقيقة أن بعض الكتَّاب الأجانب كتبوا عن الفيلم كلاماً من الناحية الفكرية والسياسية ناضجاً جداً، من نوع أنه ينتصر للحاضر ضد الماضي، وللمستقبل ضد الحاضر والماضي، وأنه فيلم يؤكد قدرة الإنسان على صنع مصيره، ويدعم شجاعة الإعلان عن الوضع الوظيفي أو الطبقي للإنسان، وأنه فيلم مؤمن بالعلم، فبطلة الفيلم (زوزو) غيرت بالعلم واقعها كله، وهذه قيم إيجابية موجودة بالفيلم، لكن صوت السياسة كان عالياً في المجتمع".
ربما كان توقيت عرض الفيلم غير مناسب للمتخصصين المهمومين بالظرف السياسي، لكن المؤكد أن الجمهور كان يتوق لمشاهدة فن يمتعه ويسليه، وهما صفتان متحققتان في (خلي بالك من زوزو" دون شك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين