تشتهر مدينة تونس العتيقة "المدينة العربي"، بأبوابها الخمس التي تحيط بها من كل جانب، وتشهد على الحضارات العريقة المتعاقبة على البلاد منذ سنين مضت. أبواب أضفت جماليةً على المنطقة، بطرازها المعماري الفريد من نوعه، وميَّزَتها بطابع خاص عن سائر المدن الأخرى، يجمع بين عبق الماضي وفرادة الحاضر في آنٍ واحد.
مدينة الأبواب
ضمت "مدينة الأبواب" التي تمتد على بضعة كيلومترات، سابقاً، ما يزيد عن أربعة وعشرين باباً اضمحل جلّها بسبب التوسع العمراني، ولم يتبقَ منها سوى خمسة أبواب ثابتة، بينما تحول كل شيء من حولها. هي أبواب أدت دورها كحارسات للمدينة، وسكانها، وظلت صامدةً طوال قرون، كدليل على الفنون المعمارية، والازدهار الاقتصادي والثقافي الذي شهدته المنطقة على مرّ العصور... أبواب عملاقة وعتيقة على شكل أقواس شُيّدت بحجارة جابهت العوامل الطبيعية بشموخ وصمت، لتظل الوجه المشرق للمدينة، ومقصداً للسياح الأجانب.
بعد فترة طويلة من الركود المعماري، حظيت تونس خلال العهد الموحدي، بعناية كبيرة بسبب موقعها البحري الإستراتيجي الذي مكّنها من إبرام علاقات تجارية مع دول أوروبيّة، وساهم في ازدهارها معمارياً، فشيّدت أسواراً تتخلّلها أبواب اندثر أغلبها، وظلّت أسماؤها تطلَق على أماكن وجودها سابقاً.
باب البحر، صورة Jóhannesbjarki
وتنقسم الأبواب إلى قسمين، داخليّة وخارجية، وارتبطت تسمية كل باب من أبواب مدينة تونس، باتجاهها، أو بوجود وليٍّ صالح في المنطقة، ولكل منها حكاية رسخت في المخيال الشعبي، وتم تداولها جيلاً بعد جيل.
ومن أشهر الأبواب المتبقية، "باب بحر" الذي شُيّد في عهد الأغالبة، وأُطلق عليه هذا الاسم لأنه يفتح في اتجاه البحر. كما سُمّي خلال فترة الاستعمار بباب فرنسا، ويتم تداول هذا الاسم أيضاً إلى يومنا هذا. ويمثّل باب بحر القلب النابض للمدينة، فهو يفصل بين المدينة العتيقة والحديثة، وكأنما يفصل بين زمنين، فيُطِلُّ جانبٌ منه على المدينة العتيقة، و"الأسواق العربي"، أما الجانب الآخر فيفتح على تمثال ابن خلدون، وشارع الحبيب بورقيبة.
"باب الغدر" في صفاقس كانت تُستخدَم وقت الحرب لطلب المدد وللهروب، وتتعدّد أسماء الأبواب التاريخية في تونس وفق ظروف تشييدها
كما أُحدث باب الجديد في عهد السلطان يحيى الحفصي، سنة 1278م، وهُدم في الربع الثاني من القرن الثامن عشر، ثم جدِّد على يد علي باي بن حسين سنة 1769م، ويُعرف كذلك باسم باب الحدادة، لأنه يفتح على سوق الحدادة، وسُمّي الشارع على اسمه.
أما باب الخضراء، فقد بُني سنة 1320م، وهُدم بدوره ليعاد بناؤه سنة 1881م، وقد استمد تسميته من البساتين الخضراء التي تمتد من السور إلى الضاحية الشمالية.
باب العسل تم تشييده في العهد العثماني، وسُمّي على لقب عائلة بني عسّال، وهي عائلة غنية كانت تسكن بالقرب منه. أما باب سعدون فهو باب ذو ثلاثة أقواس، لتسهيل المبادلات التجارية آنذاك، واستمد اسمه من وليٍّ صالح يُدعى سيدي بو سعدون.
أبواب مدينة تونس العتيقة المتبقية حظيت باهتمام ومتابعة من قبل جمعية صيانة مدينة تونس، ورُمّمت أكثر من مرّة، لحمايتها من الزوال والتلاشي، على غرار الأبواب التسعة عشر الأخرى التي اضمحلّت للعديد من الأسباب، لعلّ أبرزها التوسع العمراني.
إرث بائد
من بين الأبواب المضمحلّة، نجد باب الجزيرة، وباب الأقواس، وباب سيدي عبد السلام، وباب سيدي عبد الله الشريف، وباب سوق القماش، وباب سويقة، وباب سيدي قاسم، وباب العلوج، وباب عليوة، وباب الجباليّة، وباب الفلّة، وباب القرجاني، وباب المرقد، وباب قرطاجنة، وباب منارة، وباب بنات، وباب القصبة، وباب الغدر، بالإضافة إلى باب أنتجمي.
وترجع تسمية هذه الأبواب إلى أحداث تاريخية على غرار باب الفلّة الذي هرب عبره سكان الحاضرة خلال الهجوم الإسباني على تونس، سنة 1535م، و"الفلّة" في اللهجة التونسية هي المكان الصغير الضيق. كما ترجع بعض التسميات الأخرى إلى التجمعات السّكنية، مثل باب العلوج المشتق من كلمة "علج"، وتعني الشخص الأجنبي الأوروبي.
يؤكد الباحث في التاريخ التونسي، عبد الستار عمامو، أنه منذ القرن التاسع عشر، أزيلت هذه الأبواب، ولم يتبقَّ منها سوى ثلاثة أبواب في السور الخارجي، وبابين في السور الداخلي. وعلى الرغم من هدم هذه الأبواب، فإنها بقيت محفورةً في ذاكرة التونسيين، وأُطلقت أسماؤها على أماكن وجودها سابقاً.
باب الخضراء
وشرح محدّث رصيف22، بأن السور الداخلي للمدينة العتيقة، كان يحتوي على باب الجديد، وباب أرطة، وباب بنات، وباب قرطاجنة، وباب سويقة، وباب الجزيرة، وباب منارة. أما السور الخارجي، الذي شُيّد في العهد الحفصي، فيتخلله باب العسل، وباب سيدي عبد السلام، وباب القرجاني، وباب عليوة، وباب الفلة، وباب الأقواس، وباب العلوج، وباب الخضراء، وباب سعدون، وباب القرجاني.
كما لفت إلى أن صورة باب الجديد تؤكد أن أبوابه مفقودة منذ القرن العشرين، مرجحاً أنه تم التخلي عنها خلال تأسيس بلدية تونس، سنة 1885م.
وإن اندثرت جل أبواب "المدينة العربي"، فإن أبواب المدينة العتيقة في محافظة صفاقس، حافظت على وجودها وسط سور المدينة المحيط بها، والذي تمّ ترميمه أكثر من مرة، من دون أن يفقد شكله الأصلي ذا الهندسة العربية الإسلامية، والمكوّن من أبراج دفاعية وشرفات ومحارس ورباطات.
تزخر مدينة تونس بالأبواب التاريخية، إلا أن الكثير من أبواب العاصمة اضمحلّت لأسباب تاريخية. فما هي قصتها؟
ويبين المؤرخ زاهر كمون، أن المدينة العتيقة في صفاقس أُسست في القرن التاسع الميلادي، على مساحة 600 هكتار، بشكل مستطيل تحيط بها أسوار شاهقة يتخللها بابان رئيسيان، هما باب الجبلي وباب الديوان، وكانا يُغلَقان في الليل، ويُفتحان في النهار، ويتم إغلاقهما كذلك في أوقات صلاة الجمعة، وخلال الحروب والانتفاضات.
ويضيف محدّث رصيف22، أنه قد أنشئت أبواب أخرى عدة نتيجة تطور الأنشطة التجارية داخل المدينة، وهي باب فرنسا، وباب بحر، وباب الجبلي الجديد، وباب القصر، وباب القصبة، وباب النار، والباب الشرقي، والباب الغربي، وكذلك ثلاثة أبواب سريّة تُسمى "أبواب الغدر"، تُستخدَم وقت الحرب لطلب المدد، وللهروب. كما أفاد أن بابين منهما لم يحدَّد مكانهما إلى الآن، وهناك باب موجود في القصبة، وهو "برج مراقبة شيّده الأغالبة على الساحل".
ويتابع كمون أن العديد من الجمعيات، على غرار "صفاقس المزيانة"، وجمعية "صيانة مدينة صفاقس"، تعمل على التحسيس بضرورة الحفاظ على المدينة العتيقة وأبوابها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم