رافقت فترتَي حكم الرئيسَين التونسيَين السابقَين، الحبيب بورقيبة وخليفته زين العابدين بن علي، حملاتٌ شعبيّةٌ كبيرةٌ مساندةٌ لنظامَيهما، بمحاسنهما وسيئاتهما، وعرفت ذروتها مع نظام بن علي، بإحداثه ما يُسمّى بـ"الشُّعب" في كل المحافظات، ويتولى أعضاؤها استقطاب عامّة الشعب بشتى الطرق لضمان ولائهم التام لرئيس الدولة.
تلك "الشُّعب" تلاشت، وحلّت محلّها "الحملات التفسيرية" للرئيس الحالي قيس سعيّد، في الميدان، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، وتضم عدداً كبيراً من أنصاره من عامة الشعب الذين لا يخفون ولاءهم المطلق له ولسياساته "لتصحيح المسار" في البلاد.
وضمن من يدافعون عن "مبايعته المطلقة" للأنظمة الحاكمة في تونس على اختلافها، من يرون أنها نتاج عوامل عدة على رأسها الدعاية الإعلامية والخوف وانجرار المجتمعات نحو العاطفة في تعاطيها مع الحكام.
"مساندتي المطلقة للرئيس قيس سعيّد، لم تأتِ من فراغ، فأنا أحببته مذ كان أستاذاً للقانون الدستوري ومحللاً سياسياً في القنوات التلفزيونية وقبل ترشحه للانتخابات الرئاسية 2019، إذ كنت أحرص على حضور محاضراته وشدّتني طريقته في الحديث والإقناع وأنزّهه عن كل صفات الخبث والاحتيال التي يتمتع بها سياسيو تونس"، تقول انتصار قمودي، لرصيف22.
بين الحبيب بورقيبة وقيس سعيد حقب وأحداث مختلفة. لكن "مبايعة" جزء من الشعب واحدة. فما السر في هذا الولع التونسي بالرؤساء؟
بالنسبة إلى انتصار ابنة محافظة سيدي بوزيد (وسط غرب)، فإن محاسن سعيّد لا تُحصى ولا تُعدّ، وأبرزها "حملته الانتخابية البسيطة والتي ظفر فيها بأصوات ناخبيه الذين يثقون به لأنه غير متحزب ويداه نظيفتان".
وتؤكد قمودي (27 سنةً)، أن سعيّد، "ليس فاسداً، وهو يلبّي بقرارات 25 تموز/ يوليو 2021، رغبات الشعب وأهمها حل البرلمان الذي كان نوابه لا يخدمون سوى مصالحهم الشخصية، لذلك سأسانده اليوم وغداً".
اتهامات كيدية
اتهامات عديدة من معارضي سعيّد لأنصاره برفض الاختلاف وتشويه أي صوت ناقد لقرارات الرئيس، تصفها انتصار بالكيدية، وتؤكد أن كل شخص "حر في خياراته السياسية، وأن الشاذ يحفظ ولا يقاس عليه وأنها فئة مندسة ولا يتحمل مسؤوليتها لا سعيّد ولا أنصاره".
كما ترفض اتهام أنصار الرئيس "بالمساندة العمياء له"، لأن هذا النوع من الدعم يكون "لشخص غارق في الفساد ومتورط مع مافيات أو بعض رؤساء الأحزاب في تونس، أو في سرقة أموال الشعب، أو شريك مع من يداه ملطختان بدماء الشعب، وسعيّد في نظرها منزّه عن كل ذلك".
وعن دعمها لسعيّد على الرغم من عدم وفائه بتعهداته بتحسين أوضاع المواطنين الاجتماعية والاقتصادية المتأزمة، تشدد على أن "الرئيس لا يملك عصا سحريةً خاصةً وأنه تتم سرقة الدولة منذ أكثر من مئة سنة، ولم تكن عنده الصلاحيات الكافية، وبدأ بالعمل حديثاً بعد إجراءات 25 تموز/ يوليو الماضي".
وترى انتصار أن "إعادة بناء الدولة عملية أشق من البناء بحد ذاتها، وأن سعيّد الآن هو في مرحلة إعادة البناء، ويحتاج إلى رجال صادقين لتحمل المسؤولية ولا نرى كثيرين منهم في تونس، وحالياً لدي ثقة في حاشيته من محافظين ورئيسة حكومة ووزراء، والذين نصّبهم ويقومون بعمل جبار".
وتنتقد بشدة الأصوات "التعجيزية" التي تنتظر من الرئيس "القضاء كلياً على البطالة، وتعميم العيش الرغيد على كافة الشعب في ظرف عامَين اثنين، في حين أن الدولة تعاني منذ الاستقلال في ظل فقدان الشعب الثقة بكافة الأحزاب التي جرّبها منذ 2010، ولم تقدّم له شيئاً".
وتختم: "علينا أن نتحلّى بالصبر، وندعم الرئيس، وألا نضع العصا في العجلة (لا نعطّل)، وبإذن الله ستكون تونس بخير".
الصادق والأمين
فهيمة نوري (35 سنةً)، ربة بيت وابنة محافظة سيدي بوزيد، تساند بدورها بصورة تامة سعيّد، لأنها وجدت فيه "رجل القانون الصادق الأمين الذي لا ينتمي إلى المنظومة التي حكمت طوال السنوات العشر الماضية في تونس"، كما تؤكد لرصيف22.
كما شدّها إليه عدم انتمائه إلى أي حزب سياسي، وأنه "لا يباع ولا يشترى ولم يأتِ لحماية مصالح أجنبية، وليس متورطاً في أي قضايا أخلاقية أو اقتصادية، ولا يسعى إلى الحصول على أي نوع من التعويضات، وهو صاحب أيادٍ بيضاء".
وتقول: "رأيتُ فيه البساطة والالتزام بقضايا المواطن، وتحمّل المسؤولية، فهو لا يبحث عن السلطة، بل استجاب لنداء الشعب ووضع حداً للعبث في البرلمان وللامبالاة الحكومة بالوضع الصحي والاجتماعي المتدهور، بالإضافة إلى عزمه على تغيير الدستور لتعديل النظام السياسي الهجين وطريقة الحكم العبثية، وتصحيح المسار السياسي والنهوض بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للبلاد".
وحسب فهيمة، فإن معارضة الرئيس تعني "التعطيل وفتح الباب للتدخل الخارجي والعبث باستقلالية القرار الوطني وتحريض المعارضة التي تتكون من إخوان فاشلين في الحكم وانتهازيين لا تعنيهم إلا مصالحهم وخير دليل على ذلك استنجادهم بالقوى الدولية وخاصةً أمريكا وفرنسا وبريطانيا ضد الدولة الوطنية بتعلّة الخوف على الديمقراطية والحريات".
كما تعزو مساندتها غير المشروطة لسعيّد، إلى سعيه إلى "تغيير القوانين الانتخابية لأنها فقدت الثقة في نجاعة مؤسسات الدولة الحاكمة في ظل طريقة الحكم الفاشلة، وفي الجدوى من الانتخابات التشريعية المقبلة بهذه القوانين التي تسمح للمهربين والسارقين وأعوان المافيا بالوجود في البرلمان".
ووفق نوري، فإن معارضي قيس سعيّد، هم "من يشوّهون أنفسهم باستنجادهم بالكونغرس الأمريكي والسلطة الفرنسية واتحاد البرلمان الدولي، وبربط العلاقات مع إعلام هذه الدول لتشويه الدولة التونسية والتحريض عليها، وليسوا بحاجة إلى تشويه أنصار الرئيس".
وفاءُ نسبة مهمة من الشعب التونسي للرؤساء الذين حكموا البلاد منذ الاستقلال إلى اليوم، ظاهرة قديمة برزت مع الرئيس السابق الحبيب بورقيبة الذي ما زال أنصاره إلى اليوم
وتقرّ بتدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في البلاد، وبوجود تقدّم طفيف في إصلاحها، وتؤكد في المقابل أن حالة الفقر التي تعيشها تونس "لم تولد مع سعيّد، وإنما هي موجودة منذ القدم، لأن الفساد استشرى في الإدارات والمؤسسات العمومية والخاصة، لذلك أساند سعيّد، إذ ليس أمامي خيار آخر، ولا أمل وثقة بأي شخص آخر".
وتختم: "أفضّل أن يحكمني شخص أثق به، بلا نمو اقتصادي، على أن يحكمني من أدخل السلاح والإرهاب إلى البلاد وأشرف على اغتيالات سياسية".
وفاءُ نسبة مهمة من الشعب التونسي للرؤساء الذين حكموا البلاد منذ الاستقلال إلى اليوم، ظاهرة قديمة برزت مع الرئيس السابق الحبيب بورقيبة الذي ما زال أنصاره إلى اليوم يحيون ذكرى ميلاده ووفاته على حد سواء، ولا يخشون لومة لائم، ولا يخفون ولاءهم الأبدي له.
"لا يجب أن نشيطن بورقيبة، ولا أن نؤلّهه، فله محاسنه ومساوئه"، يقول المندوب السابق في وكالة الأنباء التونسية الرسمية وأستاذ الإعلام والاتصال كمال الشطي، الذي عمل مدة عشر سنوات في مؤسسة رئاسة الجمهورية خلال حكم بورقيبة، وعايش الرئيس من قرب، ونقل كل حركاته وسكناته، وهو من أنصاره الذين لا يزالون أوفياء لذكراه.
نظرة ثاقبة
أُعجب الشطي وما زال، بخصال بورقيبة، خاصةً في ما يتعلق "بنظرته الثاقبة في السياسة الخارجية، وبما يتصل بالقضية الفلسطينية، وبتأسيسه لمنظومة التنظيم العائلي التي كان لها أثر إيجابي في إنقاذ تونس من كارثة ديمغرافية كبرى"، يقول لرصيف22.
ومن محاسنه كذلك إصداره أوامر في الجريدة الرسمية للجمهورية التونسية، بإجبارية أخذ اللقاح في المدارس الابتدائية، مما قضى على الكثير من الأمراض التي كانت منتشرةً في تونس، كالحصبة والشلل، وإنشائه غالبية سدود المياه الموجودة اليوم في البلاد. فـ"ماذا أنجز هؤلاء الذين يدّعون الديمقراطية خلال السنوات العشر الأخيرة؟"، يتساءل الشطي.
ويقرّ أستاذ الإعلام والاتصال بوجود ما وصفها بالعاطفة التلقائية في تونس التي يمتّع بموجبها عامة الشعب الحاكم بالمساندة التامة، "إلى درجة نجعله يقع في أخطاء كثيرة ويفتقد النقد الإيجابي الذي يجنّبه هذه الأخطاء، وهي مساوئ العرب بصورة عامة في إعمال عاطفتهم وإغفال العقل في تعاملهم مع حكامهم".
ظاهرة نسبية
في تحليله لظاهرة مبايعة عامة الشعب للحكام في تونس، يقول المتخصص في علم الاجتماع، نجيب بوطالب، إنها تبقى نسبيةً ومقاييسها مختلفة وغير دقيقة، خاصةً وأن وسائل الإعلام الرسمية ودعاية الأحزاب والشخصيات النافذة تضخّم عمليات هذه المبايعة، حسب رأيه.
ويوضح بوطالب، لرصيف22، أن المجتمعات العربية تتأثر بالدعاية والعواطف، وتبارك كل جديد لأنها مصدومة من القديم ومن تصديق الوعود، كما أن مكتسبات الشعب من التحليل العقلاني السياسي ضعيفة جداً.
من جهته، يصف الناشط في المجتمع المدني، رضوان الفارسي، "ظاهرة الولاء اللا متناهي لشخصية الرئيس بالطبيعية، لأن الإنسان الضعيف يرى دائماً القوة في رؤسائه، ولأن عامة الشعب المتواضعة اقتصادياً واجتماعياً تكون تواقةً إلى تغيير وضعيتها، فترى في قدوم رئيس جديد جرعةً من الأمل بالتغيير، فتصبح مواليةً له بشكل تام".
بدوره، يرى الباحث في التاريخ رضا مقني، أن ظاهرة الولاء طبيعية، "ولا يجب التعامل بقسوة مع الوعي الشعبي الواسع لأنه قوة تاريخية يمنح ثقته للقيادات، لكنه يسحبها حين يشعر بأن هذه القيادات لا تمثل مصالحه، لذلك وجب منح هذا الشعب الوقت واحترام رأيه، وعلى النخبة توعيته وليس شتمه".
سلوك القطيع
وتتعدد أسباب هذه الظاهرة، فيعزوها بوطالب إلى "سلوك القطيع وانتشار عقلية الولاء والخوف من الحاكم، والطمع في عطاياه، وهي عوامل تساهم عادةً في موالاة عامة الشعب للحكام".
أما الفارسي، فيرجعها إلى "امتلاك الرئيس لوسائل الإعلام، خاصةً في الدول النامية، ما يسهّل عليه التحكم بعقول العامة من الشعب، فيكون الولاء المطلق أحياناً ضرورةً وليس خياراً، خاصةً في الأنظمة الدكتاتورية"، يقول لرصيف22.
ويوضح أن أسباب هذا الولاء تختلف من شخص إلى آخر، ومن فئة إلى أخرى، فهناك فئة "لا تهتم بالديمقراطية، وتحنّ إلى ماضي حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي، وفئة لديها تحفظات على تجربة السنوات العشر الأخيرة وترغب في التغيير مهما كانت التكاليف، وفئة موالية لمن هو ضد المنظومة التي حكمت بعد الثورة، وفئة منبهرة بالتجربة المصرية وتحلم بتطبيقها في تونس".
كما يُرجع رضوان الفارسي هذه المبايعة التامة في مثال الرئيس الحالي قيس سعيّد، إلى أسباب نفسية مردها "شخصيته ونوعية خطاباته الحماسية، وكونه من سكان حي شعبي لا خلفية سياسية له، وهو ما جعل الناس تألف تجربته بحكم كرهم للسياسة ورجالها بعد 14 كانون الثاني/ يناير 2011، خاصةً وأنه لا يتوانى عن تقديم وعود بحل الملفات الحارقة بالنسبة إلى المواطن البسيط"، يقول.
ضرورة الفرز
أما الباحث في التاريخ، رضا مقني، فيرى ضرورة الفرز بين المستويات المختلفة في مسألة تعامل الشعوب مع أنظمتها الحاكمة، "فهناك المستوى والوعي الشعبيان العامَّان من جهة، وموقف النخبة والقوى المحنّكة سياسياً وتنظيمياً وذات المرجعية الفكرية من جهة ثانية".
هذه النخبة وما يُسمى "بطليعة المجتمع، تشهد بدورها عملية فرز، ومنها النخبة التي كانت معارضة لبورقيبة، وهي قوى بارزة قادت منظمات يسارية وتعرضت للاعتقال، استطاع بن علي استقطابها وأصبح بعض أفرادها قياديين في حزب التجمع المنحل، وإطارات عليا في الدولة"، حسب مقني.
أما بالنسبة إلى عامة الشعب، "فهو يراقب ويقيّم ويعاقب، وهو ما حدث تاريخياً في تونس عندما صفّق الشعب لبورقيبة في 1 حزيران/ يونيو 1955، واستقبله استقبالاً جماهيرياً في حلق الوادي، ثم عاقبه في كانون الثاني/ يناير 1978، في انتفاضة الخبز وفي محطات تاريخية أخرى"، يضيف لرصيف22.
كذلك "طبّل الشعب لبن علي، واعتقد أنه سيمنحه الديمقراطية والرخاء الاجتماعي وسيقاوم الفساد، لكنه انتفض عليه في أحداث الحوض المنجمي سنة 2008، وفي الصخيرة وبن قردان، ثم في ثورة 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010"، وفق الباحث في التاريخ.
وفي ما يتعلق "بمبايعة عامة الشعب لقرارات 25 تموز/ يوليو"، يقول رضا مقني إن هناك قوى سياسيةً انساقت في البداية، ولكنها راجعت موقفها لاحقاً، ومن بينها الوطد الموحد، وحركة إلى الأمام، وحتى حركة الشعب.
ويرفض وصف الشعب "بالغباء، والاستهزاء به، واحتقاره، لأن هذا الشعب يتعلم من تجاربه، والدليل على ذلك معاقبته حركة النهضة التي تقلص عدد ناخبيها من مليون ونصف مليون ناخب سنة 2011، إلى 500 ألف ناخب فقط سنة 2019، وسينخفض رصيدها أكثر عند إجراء انتخابات مقبلة، يختم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...