يجلس نورا إلى جوار والدته، وتحيط به النساء من كل حدب، بأجسادهن المكشوفة والمغطاة بلؤلؤات المياه.
نورا الذي يتأرجح بين الطفولة والصبا، يظل عقله مشغولاً بما رآه داخل حمام نسائي، يتحول من مجرد مكان للتنظيم إلى ساحة لأحلام طفل لم يغز الشعر بعد عتبات ذقنه.
هذه هي ملامح طفولة نورا، كما صورها فريد بوغدير في فيلمه الأول "عصفور السطح" 1990، الذي تناول حي الحلفاوين، بما يخوله من تناقضات، تتجلى داخل نفوس ساكنيه، هكذا تعرف الجمهور للمرة الأولى على سينما فريد بوغدير الروائية الطويلة.
تعرّض فيلم "عصفور السطح" وقت عرضه إلى موجة من الاضطهاد والتباين، مما دفع الجمهور لاحتلال صالات السينما، وجرده البعض من جوانبه الجمالية، ولم يجد فيه إلا العري والفسوق.
"نوستالجيا لطفولته الأولى"
يحكي بوغدير أن عصفور السطح أو شخصية نورا، التي جسدها ابنه سليم بوغدير هي "نوستالجيا لطفولته الأولى".
كبر فريد في كنف والد توفيق بوغدير، الذي عمل في الصحافة، والإذاعة، تولى منصب نقيب الصحفيين في تونس، بينما كان الابن مولعاً بالسينما التي تغيبت كثيراً عن حيهم القديم في حمام الأنف، هذه المدينة الساحلية المطلة على جبل بوقرنين.
انتهي فريد من دراسته الثانوية، وحلم بدراسة الفن السابع، ولكن والده نحّاه عن ذلك، فالسينما لم تكن حاضرة في تونس، كما هو الحال في مصر، إلا بعد الاستقلال عام 1966.
توجه فريد لدراسة اللغات، ومنها إلى الصحافة والنقد، نهج نهج الوالد، وأمسى امتداداً له.
"مختار"
حلم بوغدير بالسينما، وقرر الانخراط في عالمها أكثر فأكثر، وكانت البداية مع فيلم "مختار" الذي كتب السيناريو الخاص به، وأخرجه الصادق بن عيشة، وهو الفيلم الثالث في تاريخ السينما التونسية، وصدر عام 1968.
أظهر الفيلم تأثر صنّاعه الشباب بالسينما الفرنسية، وحصل على جائزة التانيت البرونزية في أيام قرطاج السينمائية.
واشتهر بوغدير كاسم مساهم في الصناعة الوليدة بتونس، وتوجه في عام 1972 لصناعة أول أفلامه القصيرة بعنوان "نزهة رائقة"، ضمن شريط متوسط الطول، حمل اسم "في بلاد الطررني"، ورافقه اسمان آخران على "تتر" الإخراج.
اختفى بوغدير ما يقارب 10 سنوات ليعود من جديد مع "كاميرا إفريقية"، فيلم تسجيلي صدر عام 1983، يرصد شهادات وأحلام صناع الأفلام في القارة السمراء، أسماء مثل "عثمان سامين" و"ميد هوندو"، وغيرهم من المؤثرين/ات في صناعة السينما الأفريقية.
عُرض الفيلم في قسم "نظرة ما" في مهرجان "كان"، ويعتبر من كلاسيكيات الأفلام الإفريقية.
قدم فريد بوغدير نفسه كناقد عن طريق الصورة؛ تحدث عن السينما والصناعة في القطر الإفريقي والعربي من زاويته الخاصة.
لم تطل كثيراً رحلة بوغدير مع السينما الوثائقية، وحان الوقت لغزو السينما الروائية الطويلة، وكانت البداية مع "عصفور السطح"، وتلاه فيلمان، ليكمل بهما ثلاثيته "صيف حلق الوادي" 1996، و"زيزو" 2016.
الأسمر وعقدة الخواجة
تشكل ثنائية الأنا والآخر حيزاً كبيراً من تفكير القارة السمراء، أحياناً يصفها البعض بعقدة "الخواجة".
قدم المخرج الموريتاني ميد هوندو هذه الثنائية في فيلمه الأول "أيتها الشمس" 1967، التي تجلت بصورة واضحة عبر مشاهده المتتابعة، رغم حالة الاحتقان التي يعيشها الفنانون الأفارقة من الرجل الأبيض، لكن هناك علاقة تشبه "عقدة ستوكهولم"، تربط الأفريقي بالغرب، كما صورها بدوره كاتب نوبل النيجيري "وول شوينكا" في مسرحيته "الموت وفارس الملك" فإن النظرة لذواتنا الأفريقية مرهونة بنظرة الآخر\الغرب\الرجل الأبيض لنا، وهكذا في كل فعل وتصرف.
اتهم كثيرون بوغدير أنه يسير وفق هذه الثنائية أو على أقل تقدير يقع تحت تأثيرها، بالنظر إلى فيلمه الأول "عصفور السطح"، يتضح هذا الملمح بصورة ما، حيث اعتمد بوغدير على استحضار الأسطورة، وعالم "ألف ليلة وليلة"، والصورة الاستشراقية التي رسمها الغرب للمشرق العربي.
لا يخفى على أحد أن عالم الأسطورة المشرقية كان حاضراً في أعمال مخرجين تونسيين عاصروا بوغدير أيضاً، مثل الناصر خمير، صاحب أفلام "الهائمون"، و"طوق الحمامة المفقود"، و"باب عزيز"، والتي عرفت باسم "ثلاثية الصحراء"، حيث الهيام على الوجه، والبحث عن الحقيقة والذات.
اختلاف خمير وبوغدير كان في القطب الآخر، الذي يكمل أفلامهما، استقى الأول من التراث ما يلهمه لفهم الذات والاستمتاع بأصالة الثقافة المشرقية، بصبغة صوفية أصيلة، في حين قدم الثاني التراث بنظرة أقرب إلى لوحات المستشرقين، وهو ما انعكس على طبيعة موضوعاته، والصورة السينمائية، لا سيما في "عصفور السطح" و"صيف حلق الوادي".
مكانة الجسد
يحتل الجسد مكانة هامة أيضاً في فيلم "صيف حلق الوادي"، وذلك لأن الجسد لدى بوغدير لا يقف عند عتبة الإغراء، بل هو مُعبر عن داخل الإنسان، إذ يشكل الصراع الأول الأصيل بين الغريزة والفضيلة أو الكبت والفضول.
ثلاث فتيات ينتمين إلى دين "سماوي" مختلف، تربطهن علاقة صداقة وطيدة، كما كان الحال في تونس قبل عقود، يقررن خوض تجربة الحب الجسدي للمرة الأولى، وسط بيئة تتأرجح بين التسامح والتطرف، الحقيقة والادعاء، الصواب والخطأ، لتدور الحكايات...
يهودية ومسيحية ومسلمة، يقررن تجربة الحب الجسدي للمرة الأولى، لتدور الحكايات... تعرف على أفلام المخرج التونسي بوغدير المثيرة للحواس والفكاهة والتفكير
قدّم "صيف حلق الوادي" الكثير من الأفكار من خلال الصورة السينمائية، مثل حالة الازدواج التي يعيشها الحاج، قام بدوره الممثل المصري جميل راتب، وكذلك غياب الحقيقة التي يعيشها أهل البلد، وتلقيهم معلومات خاطئة عن انتصار مصر في هزيمة 67، وإرهاصات نبذ الآخر، ذلك المختلف في الدين والعقيدة.
رغم كل هذا التعقيد فإن الفيلم حضر، كحال أفلام فريد بوغدير، محمّل بالفكاهة والكوميديا الساخرة، إذ يتعامل مع الفكاهة كوجه آخر للتفكير، كما عبر عنها أرسطو، فهو لا يتباكى على الشخوص بل يجعلهم يضحكون، ويغرقون في المفارقات والكوميديا السوداء بعد ذلك. تارة يشفق عليهم المشاهد، وتارة أخرى يفكر في مصيرهم وما يفعلوه.
الفضول والتلصص سمات حاضرة في شخوص وأفلام بوغدير، بداية من نورا مروراً بالحاج وصولاً إلى زيزو، زيزو القادم من القرية إلى تونس العاصمة، للحصول على فرصة عمل، والتمتع بعالم العاصمة الواسع، يشبه الاسفنجة التي تمتص كل جديد، كما أن عمله كعامل لتركيب هوائي القنوات الفضائية، يمكنه من الانتقال بين الأسطح.
تدور أحداث "فيلم زيزو" بين عامي 2010 و2011 قبل الثورة التونسية بفترة بسيطة، يسلط بوغدير كاميرته وسيناريو فيلمه على صورة المجتمع بتبايناته المتفاوتة، وحضور الإسلاميين في مقابل العلمانيين، وتخبط زيزو فيما بينهم، كل هذا في مناخ من الفكاهة والضحك.
يهدف بوغدير إلى التأمل لا التباكي.
بوغدير والسينما المصرية
فريد بوغدير حصل فيلمه الأول "عصفور السطح" على جائزة "التانيت" الذهبي من أيام قرطاج السينمائية، وترأس لجنة تحكيمها المخرج المصري العالمي يوسف شاهين.
تأثر بوغدير بشاهين كثيراً في أفلامه، وإسكندريته الحاضرة في "حلق الوادي"، وطفولته النابعة من "حدوته مصرية"، ويظهر بعضاً من صداها في "عصفور السطح".
وجه بوغدير الكثير من الانتقاد للسينما المصرية، كما انتُقد في الصحافة المصرية، في فيلمه “كاميرا عربية” أو هكذا رأها البعض،
وجّه بوغدير انتقادات للسينما المصرية في فيلم "كاميرا عربية" إنتاج 1987، ورأى فيها عالماً مغايراً لا يعبّر بالضرورة عن وضع السينما في العالم العربي، وكُرّم في مهرجان الأقصر الحالي... فهل نتفق معه؟
رأى بوغدير في السينما المصرية عالماً مغايراً لا يعبر بالضرورة عن وضع السينما في العالم العربي، وكرّم في مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية في دورته الحادية عشر في مارس/ آذار 2022.
السؤال الآن: هل حقاً، كما يشاع، لا يقدّر بوغدير السينما المصرية؟
تكمن الإجابة في جوهر السؤال، يرى بوغدير أن السينما المصرية، كما صورها في فيلمه "كاميرا عربية" الذي كان يجهز له منذ عام 1974 وصدر في 1987، هي "استوديو القاهرة"، هذا الاستوديو الذي يشبه عالم هوليود، إذ أن السينما في مصر هي صناعة قائمة بذاتها، تعتمد على آليات وكوادر مدربة، وتمتهن مهناً عديدة في هذه الصناعة، فقد تجاوز الفنانون المصريون حد الهواية وباتوا محترفين، وهو ما يظلم صناع السينما الآخرين في المحيط العربي.
كان ذلك خلال فترة الثمانينيات، التي شهدت فيها السينما المصرية ظهور جيل جديد، قدم الواقعية بصورة مغايرة عن أسلافه، وهو الوقت ذاته الذي ولدت به السينما في دول عربية انضمت إلى مصاف الرواد، نتيجة جودة منتجها، وسعة حيلتها في سقف الحريات.
قبل النهاية
في طفولته، كما حكى فريد، التي قضاها في الحي القديم "حمام الأنف"، كان هو وأصدقاؤه يشاهدون خلسة الأفلام لعدم امتلاك المال، وعادة ما كان يفوته النهاية، فأصحاب دار السينما يطردونهم جمعياً، وعاهد نفسه آنذاك أن يكون مخرجاً حتى يشاهد الفيلم كاملاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع