بسبب لغمٍ أرضي بتر ساقيها قبل سنتين، تستعين إلهام شوعي (سبعة أعوام) بحمار ينقلها بين مزرعة وكوخ جدّها لأبيها في عزلة بني حسن، في مديرية عبس، في محافظة حجة، غربي اليمن، متحملةً بذلك أن تقضي طفولةً منقوصة وأن تخسر أحلاماً أحالتها الحرب إلى كوابيس.
تعيش إلهام مع والديها وشقيقها أحمد في "عشة" جدّها، أي في كوخ مبني من القش وأغصان الأشجار والطين.
تقول وعيناها غارقتان بالدموع: "لا أقدر على المشي، أصبحت أعيش بنصف جسد".
شقيقها أحمد الذي يكبرها بأربع سنوات كان قد سبقها بسنة واحدة في اختبار قساوة الحرب التي لا تفرّق بين صغير وكبير، وذلك حين انفجر لغم أرضي بالقرب منه أثناء رعيه للأغنام، ففقد كف يده اليسرى، وفقد معه ثقته بالتحرّك خارج العشة، لخوف لا يستطيع التخلص منه أبداً من أن لغماً ما سينفجر به في أية لحظة.
بنبرة يسكنها الوجع، قال أحمد واصفاً حياته في القرية: "الألغام في كل مكان، وأنا أخاف الخروج من البيت، أخاف أن..."، ثم يمد ذراعهُ اليسرى مستشهداً بالفراغ الذي خلّفته يده المبتورة.
ما فاقم عزلة أحمد وشقيقته وآلاف غيرهما من أطفال اليمن، ولا سيما في المناطق والقرى النائية، توقفهم عن الذهاب إلى المدارس بسبب تنقل أسرهم المستمر خلال السنوات الثمان الماضية وهو عمر الحرب اليمنية، خوفاً من أن تطالهم نيرانها.
مليونا لغم و10 آلاف ضحية
حرب اليمن زُرع فيها حسب تقديرات دولية نحو مليوني لغم مضاد للأفراد والآليات، في جميع المناطق التي شهدت مواجهات مباشرة بين الحوثيين والقوات الحكومية.
تنفي تلك المصادر أن تكون الألغام قد زُرعت بنحو عشوائي، بل ترى أنها وُزّعت بمهارة على امتداد الطرق والأراضي الزراعية والمساحات المغطاة بالأشجار بهدف إيقاع أكبر قدر ممكن من الإصابات بين المدنيين والمقاتلين على حد سواء.
وخارطة المواجهات تشير إلى أنها بدأت من محافظة عدن ومحيطها جنوباً لتمتد إلى محافظة صعدة وبقية المناطق الحدودية مع السعودية أقصى الشمال، مروراً بمحافظات لحج وتعز والحديدة ومأرب وشبوه والبيضاء والضالع وأبين والجوف وحجة وغيرها من المحافظات التي عصفت بها الحرب.
وتقدّر الأمم المتحدة أعداد القتلى والمصابين جراء الألغام في اليمن بأكثر من عشرة آلاف، إضافة إلى ما سببته من زعزعة في استقرار المجتمعات المحلية والتسبب في نزوح السكان، ولا سيما داخل محافظة حجة.
انفجر لغم أرضي بالقرب من الطفل أحمد أثناء رعيه للأغنام، ففقد كف يده اليسرى، وفقد معه ثقته بالتحرّك خارج الكوخ الذي قيم فيه مع أسرته، لخوف لا يستطيع التخلص منه أبداً من أن لغماً ما سينفجر به في أية لحظة
وأكدت منظمة اليونيسيف في بيان لها، في 26 كانون الثاني/ يناير 2022، أن الألغام في اليمن تسببت بتلويث الأراضي الزراعية وتعطيل المساعدات الإغاثية. ولا يزال شكل الألغام الأرضية والذخائر غير المنفجرة وطريقة عملها وقدرتها التدميرية من الأمور المجهولة إلى حد كبير وتمثل بذلك خطراً مباشراً على المدنيين وبالأخص الأطفال.
الألغام التي تكتظ بها مزارع وطرقات قرى بني حسن في مديرية عبس قضت على مصدري الرزق اللذين كان المواطنون هناك يعتمدون عليهما، وهما الزراعة والرعي.
هذا ما يقوله محمد شوعي (48 عاماً)، جدّ أحمد وإلهام. يتحدث بكثير من الأسى عن رحلة نزوحه مع عائلته عن القرية قبل ست سنوات عندما وصلت حمم الحرب إليها، قبل أن يعودوا بعد سنتين ليجدوها تحوّلت بمحيطها إلى حقل ألغام.
ويتابع: "هنا الكثير جداً من الألغام وبمختلف الأحجام والأشكال. حفيدي أحمد كان أول الضحايا. ظن أن الشيء الكروي الذي عثر عليه في العراء لعبة، وكان محظوظاً أن انفجار اللغم أدّى إلى بتر يده فقط، في حين أن كثيرين غيره فقدوا حياتهم".
فكر قليلاً قبل أن يضيف بصوت تخنقه العبرة: "بعد سنة، تلته شقيقتهُ إلهام. كانت ذاهبة على ظهر حمار إلى الحقل ومعها طعام الغداء وفي الطريق داس الحمار على لغم أرضي، انفجر بهما، فبترت ساقاها ونفق الحِمار".
يعيش شوعي مع أفراد عائلته ومثلهم عائلات المنطقة بأسرها قلقاً دائماً ويجرّون خطواتهم بحذر شديد خشية الألغام. وغالباً ما يستخدمون الحمير في تنقلهم بين المزارع والمناطق الأخرى المجاورة.
خسائر مادية جسيمة
المواشي بدورها لم تسلم من الألغام. يعدد محمد شوعي خسائره منها بسيارتين، 25 رأساً من الأغنام وواحدة من الإبل وعدد من الحمير.
علي إبراهيم، فلاحٌ آخر من أبناء المنطقة، ذكر أنه على علم بمجموع خسائر سكان قرى بني حسن المادية، وقدّرها بـ65 رأساً من الماشية وثمانية سيارات. ويرى أنها خسائر فادحة لكون السكان فقراء بمجملهم وكانوا يعتمدون بنحو أساسي على ما فقدوه.
ويستدرك: "لكنها على أية حال لا تعادل خسارة الأرواح والأطراف بسبب الألغام اللعينة".
كانت الطفلة إلهام ذاهبة على ظهر حمار إلى الحقل ومعها طعام الغداء وفي الطريق داس الحمار على لغم أرضي، انفجر بهما، فبترت ساقاها ونفق الحِمار
وعن الأضرار غير المباشرة التي تكبّدها أهالي القرى جراء الألغام، يؤكد إبراهيم أنهم غير قادرين على الذهاب إلى المراعي والأراضي الزراعية: "بتنا شبه محاصرين في قرانا ومنازلنا"، يقول وهو يضرب كفاً بكف.
وبحسب المرصد اليمني للألغام، كان شهر كانون الثاني/ يناير 2022 مأساوياً على المدنيين وعلى الفِرق الهندسية، إذ سقط 36 قتيلاً و37 جريحاً نتيجة الألغام والعبوات الناسفة.
وقال المرصد في بيان أنه وثّق مقتل ثلاثين مدنياً بينهم أطفال، معظمهم في محافظات شبوة والحديدة ومأرب والجوف، وكذلك إصابة نحو 35 مدنياً في ذات المحافظات أو محافظات أخرى، ومقتل ستة عاملين في نزع الألغام مع إصابة اثنين آخرين.
وعاد المرصد اليمني للألغام ليؤكد في 9 شباط/ فبراير مقتل خبيرين في مشروع "مسام"، وهو مشروع سعودي لنزع الألغام في اليمن، أثناء تأديتهما واجبيهما في نزع الألغام في مديرية حيس، جنوبي محافظة الحديدة.
جهود بطيئة لنزع الألغام
مشروع نزع الألغام التابع للأمم المتحدة والذي يتّخذ من العاصمة صنعاء مقراً له أعلن مؤخراً أنه أكمل مسح وتطهير أكثر من 23 مليون متر مربع من الأراضي، وإزالة ما يقرب من 635 ألف قطعة من الذخائر المتفجرة، مؤكداً وجود متفجرات في مناطق واسعة من الأراضي في جميع أنحاء اليمن، بما في ذلك المناطق المأهولة بالسكان.
وكان من المفترض أن يعلَن اليمن منطقة خالية من الألغام في عام 2012، بعد إزالة تلك التي زُرعت خلال الحرب بين الثوار ونظام الحكم الإمامي في العام 1962، فضلاً عن الصراع بين شمال اليمن وجنوبه بين عامي 1979 و1982، إذ زرعت المناطق الحدودية بينهما والتي كانت مسرحاً للمواجهات بعدد كبير من الألغام.
احتاج شوعي بلال (55 عاماً)، وهو من سكان مديرية ميدي في محافظة حجة، إلى ثلاثة أيام متواصلة جاب فيها الصحراء منتصف العام 2020 بحثاً عن ابنه البكر إبراهيم الذي كان قد خرج لرعي الإبل، قبل أن يجد أشلاء جسده ممزقة بفعل لغم أرضي انفجر به.
أجهش بالبكاء حين تذكر ما حدث لابنه. يقول: "ما ذنبه؟ لماذا قُتل؟ هو لم يشارك في حرب، ولم يكن يفكر بشيء، سوى رعي الإبل. مَن يتحمل المسؤولية؟ مَن يعيد لي ابني؟".
وإزاء بطء تطهير أراضي اليمن من الألغام، يعتقد العسكري المتقاعد صبري عاصم أن على الجهات الدولية والمحلية تكثيف حملات التوعية من مخاطرها وذلك من خلال جلسات تعقد للأهالي وأخرى للأطفال في المدارس.
ويقول: "الكثيرون لا يعرفون أشكال المتفجرات ولا طرق تقليل الأضرار من الألغام قدر الإمكان، لذلك يذهبون ضحايا وبشكل خاص الأطفال".
إلهام شوعي تلوّح من فوق حمارها لمَن تمرّ بهم وهي في طريقها لنقل الطعام إلى جدها في المزرعة أو خلال عودتها، محاولة التكيّف مع واقع الإعاقة، إلى حين تجد فرصة للحصول على أطراف صناعية.
هي تعرف جيداً طريق الذهاب والعودة اللذين لا تحيد عنهما مطلقاً. تدرك في قرارة نفسها أن الخروج عن المسار قد يفضي إلى ما هو أكثر جسامة مما حدث لها.
كل سكان القرى في اليمن، يقومون بما تقوم به إلهام لتجنب المصير الذي لقته، والقوى المتحاربة تعرف ذلك بدورها، فتجهد نفسها في زرع المزيد من الألغام في مساراتهم، لذا فعداد الموت بالألغام سيظل دائراً إلى أن تقول اليمن ذات يوم، وداعاً للحرب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...