يقضي أسبوعاً دافئاً مع أسرته التي تستعد لاستقبال العيد، وفجأةً تنقلب الفرحة إلى قلق، بعدما نشر شخص باسم مستعار تدوينةً على حسابه يتهمه فيها بالاعتداء عليه جنسياً، قبل حذفها واستبدالها بثانية تتضمن معطياتٍ مختلفةً، لتتواصل سلسلة من التناقضات في أقوال المشتكي عقب اعتقال سليمان الريسوني، من محضر الشرطة إلى المواجهة ثم قاضي التحقيق.
"من تناقضت أقواﻟﻪ بطلت حججه". قاعدة فقهية في القضاء المغربي توضح نهاية مثل هذه القضايا التي ستكون على الأغلب البراءة فيها للمشتبه به، وبطلان دعوى المشتكي. لكن نهاية محاكمة الصحافي الريسوني كانت مختلفةً تماماً.
في ليلة الـ24 شباط/ فبراير الحالي، أيدت محكمة الاستئناف في الدار البيضاء الحكم الابتدائي بسجن سليمان خمسة أعوام بتهمة "اعتداء جنسي" ضد شاب، في قضية أثارت اهتماماً واسعاً ومطالب بالإفراج عنه منذ اعتقاله في العام 2020.
"من تناقضت أقواﻟﻪ بطلت حججه". قاعدة فقهية في القضاء المغربي توضح نهاية مثل هذه القضايا التي ستكون على الأغلب البراءة. لكن نهاية محاكمة سليمان الريسوني في الاستئناف كانت مختلفة. فما السبب؟
وخلال الجلسة التي استمرت أكثر من تسع ساعات، عدّ الريسوني، رئيس تحرير يومية أخبار اليوم المتوقفة عن الصدور، والذي اشتهر بافتتاحياته المنتقدة للسلطة، محاكمته "سياسيةً"، وجدد التأكيد على براءته واصفاً تصريحات المطالِب بالحق المدني بـ"المتناقضة"، لافتاً إلى أنها "تضمنت عشرة ادّعاءات كاذبة"، منذ بداية الملف وصولاً إلى المرحلة الاستئنافية.
من جانبه، رفض دفاع الصحافي أن تُصدِر المحكمة حكمها الاستئنافي الأخير، وذلك "لأن الملف غير جاهز"، مشيراً إلى "عدم وجود وثيقتين حاسمتين في الملف على الرغم من أنه سبق وطلب ضمهما وتمكينه من الاطلاع عليهما"، ويتعلق الأمر بنتيجة انتداب موجه إلى شركة اتصالات بشأن رقمين يستعملهما المطالِب بالحق المدني، ونتيجة خبرة تقنية طالب الدفاع بضرورة إجرائها على هاتف المشتكي.
يقول ميلود قنديل، محامي الدفاع عن الريسوني، في حديث إلى رصيف22، إن التناقضات التي جرى تسجيلها "لا يمكن أن ينتج عنها غير البراءة لفائدة المتهم، لكن للأسف المحكمة كان لها رأي آخر"، مشيراً إلى أن هيئة الدفاع حاولت استعمال كل وسائل الإيضاح خلال المرافعة، متفقةً على تكرار تنبيه المحكمة إلى التناقضات التي جاءت على لسان المشتكي "لأن ما تكرر تقرر"، حسب تعبيره.
ويلفت قنديل إلى أن هيئة الدفاع تنتظر أن يبرر قرار المحكمة الذي يصدر خلال الأيام القادمة الحكمَ، ويجيب على سؤال: لماذا رفضت الاستجابة إلى المطالبات بوثائق وإجراءات تُعدّ "حاسمةً" في ملف سليمان؟ "وإلا فسنكون مضطرين إلى الجوء إلى محكمة النقض من أجل إبطال هذا القرار"، يضيف المتحدث ذاته.
"تناقضات وادّعاءات كاذبة"
يقول المحامي ميلود قنديل، في حديثه إلى الموقع، إن من بين التناقضات التي تم الوقوف عليها، تقديم المشتكي وصفاً مختلفاً لشكل منزل سليمان في كل مرة، وتصريحه بأكثر من رواية حول طريقة استدراجه إلى المنزل، ومصادفة وجود الخادمة داخل البيت من عدمه.
بالإضافة إلى انتقاله من الحديث في التدوينة عن مقاومته لسليمان ودفعه، إلى "الحديث في المحكمة عن استسلامه من دون مقاومة لأن وضعه لم يكن يسمح بذلك".
ولفت دفاع سليمان أيضاً إلى "تناقض المُطالب بالحق المدني في ذكر اسم الطبيبة النفسية التي ادّعى اللجوء إليها بعد الاعتداء، إذ قدّم اسماً تم إثبات عدم وجوده قبل تغييره في تصريح آخر"، فضلاً عن تصريحه بعدم التعرّف إلى المشتبه به قبل 14 أيلول/ سبتمبر 2018، بينما تشير صور الشاشة الملتقطة إلى تاريخ 11 أيلول/ سبتمبر من العام نفسه، في المحادثات التي قال الدفاع إنها مع حساب يحمل اسم سليمان، وليس "سليمان الريسوني".
وبدوره تحدّث سليمان عن "عشرة ادعاءات كاذبة"، خلال كلمته الأخيرة أمام المحكمة، منها قول المشتكي في محضر الاستماع إليه من طرف الشرطة، بتاريخ 21 أيار/ مايو 2020: "التقيته (سليمان) على مقربة من مقر سكنه، ورافقته إلى غاية الشقة"، ثم يقول بعد أقل من 48 ساعةً في محضر المواجهة: "حضرت إلى منزلك بعدما كنت توجهني من خلال مكالمة هاتفية عبر رقمي الهاتفي من خلال رقمك الهاتفي، وذلك إلى غاية أن فتحت لي باب الشقة".
وعلّق قائلاً: "طبعاً لا مجال للنسيان في تفصيل مهم مثل هذا. يبدو أن الدافع من وراء تغيير الرواية كلياً هو ملاءمة الوقائع مع التهم".
وأشار الريسوني أيضاً إلى قول المشتكي في التدوينة الأولى التي اعترف أمام المحكمة بتعديلها: "راجعت طبيبا نفسيا مدة ثلاثة أشهر من أجل محاولة نسيان الواقعة"، قبل أن يصرّح أمام قاضي التحقيق بأنه "لم يسبق له أن تردد على طبيب نفسي لا ليوم ولا لثلاثة أيام".
وتساءل الصحافي المعتقل: "لماذا اعتمدت الشرطة التدوينة الثانية الخالية من حكاية الطبيب النفسي والأشهر الثلاثة، وغضت الطرف عن التدوينة الأولى؟"، وأضاف مجيباً: "يبدو أن التضحية بحكاية ثلاثة أشهر من العلاج، كانت خوفاً من أن تطالب المحكمة بما يثبت ذلك".
وخلال الجلسة الأخيرة أشار دفاع الريسوني أمام القاضي، في محكمة الاستئناف في الدار البيضاء، إلى أن المشتكي امتنع عن الإجابة على 70 في المئة من تساؤلات الدفاع، على عكس المتهم، "علماً أن قانون المسطرة الجنائية يمنح هذا الحق للمتهم، ولا ينص عليه لصالح المطالب بالحق المدني".
قضية انتقامية
يرى الرئيس السابق للعصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان، محمد الزهاري، أن الحكم الاستئنافي على الصحافي سليمان الريسوني، كان "صادماً"، مشيراً إلى أن سليمان دأب بخلاف المرحلة الابتدائية "على حضور كل أطوار المحاكمة، ورافع برفقة دفاعه بقوة وشجاعة لتفنيد ادعاءات المشتكي، وأظهر بالدليل والبرهان براءته من التهم الموجهة إليه خلال كلمته الأخيرة في مرافعة طويلة دوّنها على ما يزيد عن ستة وعشرين صفحةً".
ويقول الزهاري في حديث إلى رصيف22، إن مرافعات الدفاع وكلمة سليمان تطرح العديد من الأسئلة، منها: "كيف يتم حجز هاتف سليمان وإجراء الخبرة عليه على الرغم من أن تعليمات النيابة العامة كانت تهدف إلى الاستماع إليه بخصوص التهمة الموجهة إليه؟ مقابل ذلك تم رفض إجراء خبرة على هاتف الطرف المدني، بل إنه برر عدم حيازته الهاتف خلال بداية مسطرة المتابعة بإهدائه إلى صديقه؟"، وذلك على الرغم من أن تحريك المتابعة ضد سليمان "هو حوار مسجل في ذاكرة الهاتف، ورسائل عبر تطبيق مسنجر؟".
وكانت خبرة تقنية أنجزها مختبر تحليل الآثار الرقمية للشرطة القضائية تحت إشراف وكيل الملك على هاتف الريسوني، قد أثبتت، حسب دفاعه، أنه "لا توجد آثار لمحادثة بينه وبين المشتكي"، مشيراً إلى صعوبة التخلص من الأثر الرقمي، لأنه "يمكن للمختبر استخراج حتى المحادثات المحذوفة، بل إن محاولة محوها تُسجَّل في ذاكرة الجهاز".
وتساءل الناسط الحقوقي أيضاً، حول "كيف يمكن إنجاز محضر استماع للمشتكي الذي يقيم في مدينة بعيدة في أقل من ساعتين، تبعاً لتعليمات صادرة عن النيابة العامة من الدار البيضاء (المدينة التي يسكن فيها سليمان)"، لافتاً إلى تساؤلات عدة أخرى من قبيل: "لماذا لم يتوقف الادعاء العام عند واقعة مادية أساسية تتعلق بحديث المشتكي عن إغلاق سليمان باب المطبخ على الخادمة بالمفتاح، في حين أن المطبخ أمريكي لا يوجد فيه باب؟".
"الحكم الصادر بحق الصحافي سليمان الريسوني، "توظيف واضح" للقضاء في تصفية للحسابات مع صحافيين وكتاب رأي كما حدث مع توفيق بوعشرين، وعمر الراضي، وآخرين"
ولماذا غيّر الطرف المدني مضمون أقواله في اتجاه التمهيد لحكم قاسٍ، "من زعمه في بدايةً بالتعرض للتحرش إلى إقراره بالاعتداء الجنسي والاحتجاز؟"، يضيف الزهاري.
ويشدد المتحدث على أن مفتاح براءة سليمان يكمن في "تغييب واضح للإجابات التي حملتها كلمته، ومرافعات الدفاع عن هذه الأسئلة، والتي أكدت أن سيناريو المتابعة يفتقد شروط المحاكمة العادلة، والتي مع كامل الأسف لم تأخذها هيئة المحكمة بعين الاعتبار".
"سليمان تعرّض لظلم كبير وانتقام واضح بسبب مواقفه وآرائه التي كان يعبّر عنها عبر الافتتاحيات التي كان ينشرها كرئيس تحرير ليومية أخبار اليوم". يقول الزهاري، مشيراً إلى أن كل من يتابع القضية "يستنتج بُعدها الانتقامي، خاصةً من خلال الإبقاء على سليمان داخل أسوار السجن (قبل إدانته)، وما رافق ذلك من دعم إعلامي للطرف المدني ومن معه".
ويرى الزهاري، الحقوقي ورئيس فرع التحالف الدولي للدفاع عن الحقوق والحريات في المغرب، الحكم الصادر بحق الصحافي سليمان الريسوني، "توظيفاً واضحاً" للقضاء في تصفية للحسابات مع صحافيين وكتاب رأي كما حدث مع توفيق بوعشرين، وعمر الراضي، وآخرين"، مناشداً السلطات طي هذه الصفحة وإطلاق سراح المعتقلين لأن الظرفية الاقتصادية والاجتماعية للوطن تقتضي ذلك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...