كتبت منذ سنة تقريباً مقالاً بعنوان "حبيبنا كيم جونغ أون... عن الشبق الدامي وشوق العرب إلى الديكتاتورية"، حلّلنا فيه الخطاب الشعبي في تلك الأيام التي اختفى فيها دكتاتور كوريا الشمالية وقتها.
وكان العرب قد أغدقوا عليه بالمديح والتمجيد، واختبأ معظمهم وراء الفكاهة، ولكننا نعلم أيضاً أن الفكاهة أسلوب صار معروفاً عندنا لنخرج لاوعينا وفانتازماتنا ونشرع إعلانها دون مساءلة. ويبدو أنه منذ سقوط صدام حسين والقذافي ظل ذلك الشبق مكبوتاً، ويتفجّر كل مرة مع ظهور طاغية جديد، فرأيناه مع كيم جون أون ووحشيته، ورأيناه مع ترامب عندما كان يذلّ هم، واليوم نراه مع بوتين، حيث أغرقت الحشود وسائل التواصل الاجتماعي بهذه الخطابات الشبقية والغزلية لهذا الطاغية الجديد، الذي اجتاح بلداً آمناً وشعباً يكابد بحثاً عن نجاة من مشاكله الاقتصادية والسياسية.
الموقف الرسمي المخجل
ظلت الحكومات العربية صامتة، تعضّ على ألسنتها وهي تشاهد الجريمة النكراء التي تحصل أمام أعينها وسقوط آلاف الضحايا، بسبب تعنّت دكتاتور يمتلك أسلحة للدمار الشامل ونزوعاً لاستعادة مجد إمبراطوري بائد. لم يحرك القادة العرب ساكناً إلى الآن، منتظرين أوامر أسيادهم، فهم يأتمرون بأمرهم، بل إن تونس مثلاً كان موقفها مخجلاً عندما أعلنت أنها تقف على الحياد. إن هذه الجريمة الإنسانية التي يتابعها العالم لا يمكن فيها أن نقف على الحياد، لأن الحياد تجاه معركة غير متكافئة هو اصطفاف غير معلن مع القوي.
ويمكن أن نفهم هذا الموقف الغريب بالرجوع إلى حيثيات عامة، فقد كانت الدبلوماسية التونسية، عبر تاريخها، تتحدث عن الشرعية الدولية والتي هي في صالح أوكرانيا المعتدى عليها، بينما الوقوف على الحياد موقف جديد لديكتاتورية ناشئة، يحاول أن يرسي قواعها الرئيس التونسي المنقلب قيس سعيد. وهو أيضاً موقف نابع من الخلاف بين الغرب الأوروبي والأمريكي والكندي من إجراءات قيس سعيد وانقلابه على الدستور منذ 25 تموز/ يوليو. وكأنه بهذا الموقف يرد على مواقفهم منه ومن إجراءاته الاستثنائية وهو يبحث عن شريك جديد.
هذا الموقف التونسي المخجل من الحرب على أوكرانيا وازاه موقف سافر وأكثر عاراً، متمثل في موقف نظام بشار الأسد الذي ارتمى في حضن الدبابة الروسية منذ اللحظات الأولى، وهو بذلك يأتمر بأوامر سيده بوتين الذي استجار به لقمع انتفاضة شعبه.
التأمل في الخطاب الجماهيري والمخيال الشعبي للزعيم يطرح أسئلة خطيرة متعلقة بمدى مقدرة الشعوب العربية على انتزاع حريتها. شعوب تسخر من الشعوب الضعيفة، وتشرّع لسحقها ومحقها من جيرانها، وتسخر من القادة السلميين، وخاصة منهم من كانت له تاريخ ثقافي
أما الموقف الليبي المندّد بالغزو والموقف اللبناني على نبله، نعلم أنه أيضاً ليس موقفاً حراً بقدر ما هو اصطفاف لوضعية البلدين سياسياً واقتصادياً وعلاقتهما بالمعسكر الغربي، ولكنه من حسن حظهما هو اصطفاف مع الإنسانية. فمهما كانت دوافع الحرب فهي مدانة دائماً.
الحشود السادية
أما مواقف الحشود فهي الأخطر، فقسم كبير من الجماهير العربية تمدح حرباً لا ناقة لها فيها ولا جمل، فقط هي تمارس شبقها التاريخي وشوقها الأبدي للذكر العنيف. شعوب افتقدت لوطء الطاغية، ذلك القائد القوي الدموي الذي يجلدها ويستثير عواطفها بالعنف.
جانب آخر منهم وصل به الأمر إلى فبركة فيديوهات للأوكرانيات والتندّر بهن وترويج أخبار عن وصولهن لمطار تونس قرطاج، مستندين على ثقافتهم الذكورية والدينية المشوهة.
هذه الحشود السادية المتشوقة للألم لم تعد تطيق انتظارها فحولته إلى فانتازم، واندفعت تبحث عنه في قادة شعوب أخرى عندما فشلت في صناعته. إنهم يتلذذون برؤية دبابة روسية تسحق مواطناً في سيارته، بل إن بعض المنتسبين إلى الثقافة راحوا يبررون اجتياح بوتين لأوكرانيا بالتصغير من شأن رئيسها، على اعتبار أنه كان ممثلاً كوميدياً، وبذلك لا يحق له أن يدير البلاد أو أن يصل السلطة. نسى هؤلاء أنه منذ سنة فقط كان حبيبهم ترامب، الكومبارس في الأفلام، رئيساً للولايات المتحدة، ونسي هؤلاء أن في الماضي البعيد كان ممثل أفلام الوسترن، رونالد ريغان، رئيساً لأمريكا. فجأة صار التمثيل عورة سياسية عندهم.
يبدو أن هذا الموقف من مدنية الرئيس وارتباطه تاريخه الشخصي بالفن نابع من إيمان عند هذه الحشود بأن القائد عليه أن يكون عسكرياً، كما كان صدام حسين وجمال عبد الناصر وزين العابدين بن علي ومعمر القذافي وعبد الفتاح السيسي وغيرهم من قادة بلدان العرب.
إن التأمل في كل هذا الخطاب الجماهيري والمخيال الشعبي للزعيم يطرح أسئلة أخطر متعلقة بمدى مقدرة هذه الشعوب على انتزاع حريتها. شعوب تسخر من الشعوب الضعيفة، وتشرّع لسحقها ومحقها من جيرانها، وتسخر من القادة السلميين، وخاصة منهم من كانت له تاريخ ثقافي.
إن الحشود العربية في مجملها عندها عداء خاص تجاه الثقافة والمثقفين، وتعتبرهم زوائد عن الحاجة وعالة عليهم، والأجدر أن تمحى وزارات الثقافات وتحول إليهم ميزانياتها، مع أن تلك الوزارات نفسها منخرطة في نظام إبادة المثقفين
إن الحشود العربية في مجملها عندها عداء خاص تجاه الثقافة والمثقفين، وتعتبرهم زوائد عن الحاجة وعالة عليهم، والأجدر أن تمحى وزارات الثقافات وتحول إليهم ميزانياتها، مع أن تلك الوزارات نفسها منخرطة في نظام إبادة المثقفين. الكثير من صناع المحتوى والمؤثرين في العالم العربي انخرطوا في حملة السخرية البشعة، أما المثقف العربي، للأسف إلى الآن، يبدو إما صامتاً أو متورطاً في هذه الكوميديا السوداء التي تديرها الحشود، مقابل الكوميديا السوداء الحقيقية التي تعيشها الإنسانية.
الروائي أندريه كوركوف وموقف المثقف
كان الكاتب الأوكراني الشهير أندريه كوركوف مستاء من مآل الثورة الأوكرانية أو ما يعرف الثورة البرتقالية (أواخر نوفمبر 2004 حتى يناير 2005) في أعقاب جولة إعادة التصويت على الانتخابات الرئاسية الأوكرانية، وظل يسخر في رواياته منها، فلئن حققت بعض الانجازات السياسية، فإنها لم تستطع أن تخلص الأوكرانيين من وضعهم الاقتصادي المزري، بل زادته سوءاً، كما ضربت وعياً باطنياً بالانتماء إلى الاتحاد السوفياتي. يقول في حوار قديم: "بالنسبة إلي، من الصعب أن أصدق أن الاتحاد السوفياتي لم يعد موجوداً، ومازال لدي إلى الآن بعض الحنين، كنت أسافر كثيراً، وبين ليلة وضحاها أصبحت بعض الأماكن التي كانت وطني بلداً آخر، انقطعت لسنوات عديدة عن الذهاب الى موسكو، كانت طريقتي للاحتجاج على وضع حدود بين روسيا وأوكرانيا".
إن النزوع إلى الحرب هو نزوع إلى البدائية، والجانب الحيواني فينا يتعاظم كلما شعرنا بأننا أكثر قوة من الآخرين، ما يشرع لنا طمسهم أو استعبادهم أو انتهاكهم، وهذا ما تفعله روسيا اليوم
يكتب كوركوف بالروسية، وفي روايته "عزيزي صديق المرحوم" يداور عبر التخييل هذه الأزمة في كوميديا سوداء. فتروي الرواية قصة توليا، مترجم فاشل قرر الانتحار بعد اكتشاف خيانة زوجته بسبب الفقر والخصاصة، غير أن توليا يكتشف أن الانتحار لا يحقق له الاشباع الكافي الذي رامه من خلال عملية تغييبه من الحياة، فيؤجر قاتلاً محترفاً لتصفيته. غير أن ظهور لينا أربك خطته، لأنه أعاد إليه الرغبة في الحياة، وتنطلق الرواية من جديد في جو بوليسي كافكاوي ساخر لمحاولة استعادة الحياة التي أمر البطل ودفع من أجل التخلص منها. ويصطدم بواقع "فات الأوان"، فالقاتل المأجور انطلق في تنفيذ المهمة، وهو صاحب ضمير ولا يمكن أن يتراجع أو يتقاعس عن أداء مهمته أو التلاعب بسمعته كقاتل محترف، فلا يجد توليا من حل غير تكليف قاتل ثان بقتل القاتل الأول، فتتشابك الأحداث وتتعقد الأمور، وتتحرك الدماء المتجمدة في حياة الشخصية التي كانت تعيش حالة من اليأس والجمود الناتج عن تراكم الخيبات من حوله. ليحمله القدر إلى عشق جديد ينسيه خيانة زوجته له، حب ينبت في السواد بينه وبين زوجة من أجّره لقتله فقتله.
إن موقفه النقدي من الثورة ومن تفكك الاتحاد السوفياتي وكتابته بالروسية لم يدفعه إلى الارتماء في أحضان الروس، بل وقف مدافعاً عن بلده وهو الآن تحت القصف، متنقلاً بين الفنادق والملاجئ كأي مواطن أوكراني.
وككل كاتب شريف وأصيل، يوقف كوركوف العمل على روايته الجديدة ويتحول إلى مراسل حربي وداعم لشعبه وجيش بلاده، من خلال تغريداته الحينية على تويتر أو عبر حواراته مع الصحافة الأجنبية.
هكذا يضع كوركوف نفسه على ذمة بلده بطريقته، غير عابئ بما يمكن أن يحدث له لو سقط في أيدي الروس، وهو المعروف عندهم وجهاً ونصاً.
إبان الثورات والحروب، يتوقف الروائيون عن إنهاء مشاريعهم الروائية القائمة على التخييل والبناء، ليذهبوا إلى الكتابة الصحفية أو كتابة اليوميات، أذكر جيداً تلك الأشهر التي شهدت الانتفاضات العربية عندما تحول بعضنا، بعض الكتاب، إلى مراسلين وكتاب يوميات، وقتها تحدثت مع الروائي الليبي محمد الأصفر، الذي كان يتابع تحرير ليبيا من بنغازي ويعايش الثوار، وكنت في تونس أراسل الصحف الإيطالية والأمريكية في سلسلة من اليوميات. تناقشنا وقتها عن استحالة الكتابة التخييلية في واقع أشد من التخييل رعباً، وواقع متحرك تحت أقدامنا، علينا أن نمسك لحظاته لحظة بلحظة ونسجله للمستقبل. هكذا اليوم يفعل كوركوف في أوكرانيا، وما يمثله اسمه من ثقل في العالم، عبر إنتاجه الغزير وقرائه في كل مكان، ليكون منبراً قوياً يروج للقضية الأوكرانية في ظل التعتيم الإعلامي والترسانة الإعلامية الروسية.
لا يتردد الروائي في أحد حواراته الجديدة مع "تيليراما" في نقد السياسة الأوكرانية وافتقارها إلى مدرسة سياسية تمكنها من رعاية مصالحها بين القطبين الغربي والروسي، والعيش بسلام بجوار شخص مثل بوتين، واعتبر صاحب "عزيزي صديق المرحوم" أن المنطقة تعيش عودة البلشفية.
من الغريب أن آخر رواياته "النحل الرمادي" تدور أحداثها حول الجيران الأعداء أو "أصدقاء - أعداء" سيرجيتش، مربي النحل المخلص لأصوله الأوكرانية، وباشكا صاحب القلب الذي يميل نحو الانفصاليين. وتحت القصف ونيران القناصة، تتدافع أحداث شبيهة بما يجري اليوم بين أوكرانيا وروسيا، وأثر ذلك على الأبرياء.
إن هذا النزوع إلى الحرب هو نزوع إلى البدائية، والجانب الحيواني فينا يتعاظم كلما شعرنا بأننا أكثر قوة من الآخرين، ما يشرع لنا طمسهم أو استعبادهم أو انتهاكهم، وهذا ما تفعله روسيا اليوم، وما فعلته ألمانيا في الحرب العالمية الثانية وما فعله صدام حسين بغزو الكويت.
ومن ثم، فواجب الإدانة واجب إنساني قبل كل شيء، غير أن المصالح الصغيرة لبعض الأنظمة تحجب هذا الواجب أو تحظره، لكن الشعوب التي كانت دائماً ناطقة بذلك الصوت المكتوم؛ صوت الضمير الإنساني، صارت اليوم بفعل سياسة التجهيل ونشر العنف وثقافة التشفي، أصبحت شريكة في إنتاج هذا الدمار البشري العام. ولم تعد مراجعة كتاب "أفكار لأزمنة الحرب والموت" لسيجموند فرويد وألبيرت أنشتاين، كافية لفهم هذا الكائن البشري وشوقه الشبقي لإراقة الدم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...