وأنت تتجول مساءً في مدن تونس وأحيائها، تلاحظ أن الأماكن العمومية كالمنتزهات تعج بالكلاب التي يصطحبها مالكوها للتنزه أو لمرافقتهم في نشاطهم الرياضي. وإذا كان البعض منهم يتقيدون بوضع كمامةِ الكلاب، إلا أن غالبيتهم لا يعيرون اهتماماً لمثل هذه الإجراءات الوقائية إيماناً منهم بأن كلابهم أليفة ومطيعة ولا تشكل أي خطر على المارة.
تربية الكلاب ظاهرة آخذة في الانتشار في تونس، ورائجة خاصةً في صفوف الشباب والمراهقين، فلا يكاد يخلو منزل من نباح كلب أو اثنين على الرغم من ارتفاع أسعار اقتنائها، وأسعار مستلزماتها أيضاً. كما أن الكلاب "الأصيلة" هي التي تحظى باهتمام المربّين على الرغم من نداءات جمعيات الرفق بكلاب الشوارع لتبنّي الأخيرة، لتخفيض عددها وحمايتها من المخاطر التي يمكن أن تتعرض لها كالقنص من قبل البلديات أو التعذيب من قبل فئة معيّنة في المجتمع.
تربية الكلاب "غرام"
يقول وديع الزوابي، شاب ثلاثيني، إنه من هواة تربية الكلاب منذ ما يزيد عن عشرين سنةً، وإنه سبق أن اشترى طوال هذه المدة أنواعاً كثيرةً من الكلاب واستقر حالياً على تربية نوع "القوقازي"، وهو من أحسن أنواع الكلاب وأجودها وأكثرها ألفةً على الإطلاق وفق توصيفه.
ويضيف الزوابي في حواره مع رصيف22، أنه كان يتردد بصفة شبه يومية على صديقه "مربّي الكلاب" فاكتسب "غرام" تربية هذه الكائنات الأليفة وقرر شراء كلب ليعيش معه في المنزل على الرغم من أن العائلة جابهت قراره بالرفض للوهلة الأولى، إلا أنهم تعودوا على وجوده واقتنعوا بتربيته ليرتفع عدد الكلاب لديه إلى سبعة كلاب حالياً.
وينفق محدثنا على كلابه ما بين 300 و400 دينار شهرياً، كما أنه يوفر لها العلاج واللقاحات الضرورية ويخضعها لتدريبات خاصة بها. ولا تقتصر هواية "وديع" على تربية الكلاب فحسب، بل إن "غرامه" تطور وأصبح يتاجر فيها أيضاً، فجرو القوقازي على سبيل المثال يباع بنحو ألفي دينار.
وديع وكلبه
تربية الكلاب لم تعد تقتصر على الأشخاص البالغين فحسب، بل للأطفال الصغار نصيب منها أيضاً إذ أصبحوا يتعلقون بهذه الكائنات ويرعونها وإن كان يختار بعضهم تربيتها فإنها للبعض الآخر بمثابة علاج نفسي.
تؤكد أم مجد أن الكلب يصاب بحالة من الذعر والحزن كلما تعرض ابنها لنوبة صرع، ولا يعود إلى سالف نشاطه إلا بعد تحسن الأوضاع
يعاني مجد من مرض الصرع الذي خلّف عنده تعباً وإرهاقاً نفسياً شديداً استوجب عرضه على أخصائي نفسي للأطفال. تقول أم مجد إن الطبيب لم يصف له دواءً ولا علاجاً، وأعلمها أن تحسن حالته مقترن بتربية جرو صغير في البيت فحسب. لم تقتنع في البداية لكن لا حل أمامها إلا التجربة... تقول أم مجد إن المرض جعل من ابنها طفلاً منزوياً ومنطوياً على نفسه يرفض اللعب مع أصدقائه ويتجنب حتى الحديث، لكن دخول الجرو بوتشي إلى حياته غيّر كل شيء. "توجهت يوم الأحد إلى "سوق المنصف باي"، وقررت أن اشتري جرواً من نوع الراعي الألماني لأنه أليف ولا يشكل خطراً على الأطفال. عندما رآه للمرة الأولى لم يعِره اهتماماً، ولم تظهر عليه علامات الترحيب به، وخلت أن وجود الكلب لن يغير شيئاً، ولكن مع مرور الأيام تمكن بوتشي بطرافته من التسلل إلى قلب ابني وأخرجه من عزلته"، تحكي أم مجد.
"خلت أن وجود الكلب لن يغير شيئاً، ولكن مع مرور الأيام تمكن بوتشي بطرافته من التسلل إلى قلب ابني وأخرجه من عزلته". تربية الكلاب في تونس
وتضيف في حديثها إلى رصيف22، أن الكلب أضفى حركيةً وحيويةً على البيت كله، وأصبح محط أنظار الجميع كما حظي بعناية خاصة من قبل مجد الذي تغير سلوكه وطباعه في أشهر معدودة، فعاد للّعب واللهو كما تمكن من تخطي مخاوفه وكأن الكلب وفّر له الإحساس بالأمان والطمأنينة. بعد حديث مطول عن خصال بوتشي، تؤكد أم مجد أن الكلب يصاب بحالة من الذعر والحزن كلما تعرض ابنها لنوبة صرع، ولا يعود إلى سالف نشاطه إلا بعد تحسن الأوضاع؛ "في البداية لم أعِر اهتماماً لتصرفات الكلب في أثناء مرض مجد، إذ يكون جل اهتمامي منصبّاً على ابني لكن زوجي لاحظ تغيّراً في تصرفات بوتشي خلال نوبات المرض، وعاينت ذلك في أكثر من مرة حتى أنني أشعر بالشفقة نحوه، وأحاول جاهدةً أن امنعه من رؤية ابني على تلك الحال".
كلاب شرسة
على الرغم من حظر دخول بعض الكلاب إلى التراب التونسي، إلّا أنها تربى في المنازل وتتجول في الأحياء من دون كمامات، وأحياناً بلا قيود كما أن البعض يستغلها في عمليات سلب ونشل وحتى جرائم قتل. وتؤكد الجمارك التونسية أنه "يُمنع توريد أنواع الكلاب الخطرة والشرسة التي تنتمي إلى سلالات بيتبول وروت وايلر وتوسا وماستيف أو بور بول، لكن الكلاب الخطرة الممنوع استيرادها تباع علناً في أسواق بيع الكلاب وعلى مواقع التواصل الاجتماعي من دون تراخيص ولا وثائق تلقيح في غياب كلي للمراقبة وتخاذل السلطات المعنية عن تطبيق القانون.
وقد أدى التهاون والاستهتار في تربية الكلاب إلى العديد من الحوادث لعل أبرزها حادثة هجوم كلبين من نوع روت وايلر على رجل وطفليه في الشارع، بالإضافة إلى حادثة اعتداء كلب من نوع الراعي البلجيكي على امرأة كانت في انتظار ابنتها أمام المدرسة وتحمل رضيعة بيدها مما خلف للرضيعة أضراراً فادحةً. ولا تقتصر حوادث هجوم الكلاب الشرسة على المارة إذ تم تسجيل العديد من حوادث اعتداء كلاب على مربّيها، ففي سنة 2019 توفي شيخ هاجمته كلابه الستة وهي من نوع بيتبول ستاف ونهشته حتى الموت.
كلاب الطفل مجد
كما تعرض أمنيون خلال قيامهم بعملية قبض على مشتبه به في محافظة سوسة إلى إصابات متفاوتة الخطورة بعد أن عمد الأخير إلى تهييج كلابه الشرسة وتحريضها على مهاجمة الوحدات الأمنية.
على الرغم من شراسة هذه السلالات من الكلاب إلا أنها تحظى بإعجاب فئة معيّنة من التونسيين خاصةً منهم المراهقين الذين يعدّونها رمزاً للقوة والصلابة، فيرى عزيز، وهو تلميذ في البكالوريا، أن بيتبول من أجود أنواع الكلاب التي تخول لها بنيتها الجسدية القوية الدفاع عن مالكها والتصدي لكل من يحاول الاعتداء عليه، كما يرى أن كلب بيتبول قوي وليس شرساً كما يتم الترويج له، لكن تدريبه أمر مهم جداً لكي يتمكن مالكه من السيطرة عليه وتتراوح كلفة التدريب بين 300 و400 دينار حسب عدد الحصص وفق تعبيره.
ويضيف عزيز: "كلبي بلاك لم يكن مرحباً به في منزلنا، لأن أبي كان يرى أن الكلاب نجسة ولا مجال لإدخالها إلى البيت، فقررت أن أربيه فوق سطح المنزل ووفرت له جميع مستلزماته وقد تمكن بفطنته خلال الصيف الماضي من إنقاذ المنزل من عملية سرقة".
البعض يبحث عن تعزيز قيمته من خلال اكتساب كلب، وكلما كان الكلب أشرس كلما اتّقى الناس شر مالكه وهابوه، أي أنها حالة من التقمص
يرى المختص في علم النفس عبد الباسط الفقيه أن انتشار هواية تربية الكلاب يعزى بالأساس إلى القدرة المادية على تربية كلب، فليس بإمكان شخص ضعيف الدخل تربية حيوان وتوفير مستلزماته الأساسية كالأكل والتلقيح وغيرها، بالإضافة إلى توفر جميع أنواع الكلاب التي يطلبها المربي في السوق.
ويضيف محدث رصيف22، أن البعض يبحث عن تعزيز قيمته من خلال اكتساب كلب، وكلما كان الكلب أشرس كلما اتّقى الناس شر مالكه وهابوه، أي أنها حالة من التقمص، مضيفاً أن الكلب الشرس يمثل القوة والصلابة.
ويتابع الفقيه: "الأطفال والمراهقون يعيشون تنافساً عبر الصورة. فمن يمتلك كلباً أشرس يدور حوله أصحابه لأنه الوحيد الذي بإمكانه التحكم بالكلب ويتقربون منه لصورة القوي بذاته أو بمن معه".
كما رأى أن الكلب يمكن أن يوفر لمالكه قيمةً واهتماماً وحمايةً يمكن أن يكون قد فقدها في الوسط العائلي، فترى الكلب يدافع عن مالكه ويلعقه كتعبير عن المحبة وتالياً فهو تعويض عن علاقة أصلية مفقودة.
تجارة مزدهرة
تزامناً مع تنامي ظاهرة تربية الكلاب في المنازل، وإيلائها اهتماماً شديداً من قبل مربّيها على مستوى تغذيتها ومظهرها، ازدهرت مؤخراً تجارة بيع مستلزمات الحيوانات الأليفة، فتعددت محالّ بيع مأكولات القطط والكلاب ومحالّ بيع الإكسسوارات والأقفاص والألعاب الخاصة بهذه الحيوانات الأليفة في جميع محافظات البلاد وأصبحت تجارةً مربحةً تجذب هواة تربية الكلاب. وبالإضافة إلى مستلزمات الحيوانات الأليفة، تم بعث مشروع "استثنائي" يتمثل في مركز تجميل الحيوانات الأليفة، وهو المركز الوحيد في تونس الذي يُعنى "بجمال وأناقة" هذه الحيوانات، فيحظى فيه الكلب أو القط بعناية خاصة بشعره وأظافره ونظافته وجماله، كما يقبل التونسيون عليه ويحجزون اشتراكاً شهرياً لحيواناتهم.
كما ازدهرت في تونس تجارة الكلاب وأصبحت مهنةً مستقلةً بذاتها تدر عائدات مهمة مما شجّع الكثيرين على الانخراط فيها، ويمثل سوق المنصف باي وجهة الراغبين في اقتناء كلب، وتختلف الأسعار في هذا السوق حسب نوع الكلب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...