تندرج هذه المادة في "ملف عيد الحب".
في الأوبرا الفرنسية الشّهيرة La cabine téléphonique لصاحبتها الموسيقية "كلود أريو" )1903-1990( التي ظهرت سنة 1958، نرى بينوا البدين يقصد محلاًّ للهاتف العمومي لإجراء مكالمة مهمّة، تلحقه دينيس، الفتاة المتشوقة للزواج التي تحتاج استخدام الهاتف للاتّصال بالبيطري لأنّ ببغاءها مريض، وشابّ خجول يحتاج الهاتف ذاته لإخبار أحد ما بأنّه سيتأخّر خمس دقائق عن موعد الإفطار، وامرأة أخرى على حافة الانهيار، جاءت إلى المحل لكنها نسيت لأي سبب كانت تحتاج الهاتف، وبرنار "خبير التّواقيع" الذي كان يحتاج إجراء مكالمة للسبّاك كي يخبره عن عطب في الحمّام، كلّ هؤلاء يقفون متأففين في طابور بانتظار الشابة نيكول روبان التي استحوذت على الكابينة وغرقت في مكالمة عاطفية ساخنة.
حكايات عاطفية عدّة حيكت داخل محلات الهاتف العمومي التي لم تكن فقط بطلة لأعمال درامية عديدة من مسلسلات وأفلام وحتى أعمال أوبرالية، لكنها كانت البطلة الخفية خلف قصص الحب في الواقع.
حكايات عاطفية عدّة حيكت داخل محلات الهاتف العمومي في تونس التي لم تكن فقط بطلة لأعمال درامية عديدة من مسلسلات وأفلام وحتى أعمال أوبرالية، لكنها كانت البطلة الخفية خلف قصص الحب في الواقع
اختلاس بعض الحميمية في الأماكن العامّة
وأنت في طريقك لمحلّ الهاتف العمومي، "التاكسيفون"، التسمية التي جرت على كلّ لسان في وقت ما، سيكون عليك أن تُحدّد كلماتك وأن تُخلّصها من الحشو، وأن تعدّ القطع النقدية المحدّدة للمكالمة. تدخل الكابينة لترفع السمّاعة وتنقر أو تُدير الرقم بحسب نوع الآلة، وتسمع رنين القطعة النقدية المتزامن مع إجابة المُخاطَبِ و"oui شكون معايا؟" الممطوطة التي يقولها التوانسة دائماً بضجر أو نفاد صبر.
وهكذا تنطلق الكلماتُ آتيةً على القطع المعدودة القطعة تلو الأخرى. ومن بين المفاجآت التي قد تحدث لك هي أن تنزلق النقود في وقت يكون فيه الحوار حاسماً أو تكون على استعداد للبوح بأمر ما، فينقطع الاتصال ويختفي السرّ للأبد. أو قد يقف أمام الكابينة طابور يتأفّف أفراده فيأثّرون على مزاجك وينسونك ما رغبت في قوله.
وأنت في طريقك لمحلّ الهاتف العمومي، "التاكسيفون"، التسمية التي جرت على كلّ لسان في وقت ما، سيكون عليك أن تُحدّد كلماتك وأن تُخلّصها من الحشو، وأن تعدّ القطع النقدية المحدّدة للمكالمة
وقد يسخر منك أحد المنتظرين "تتمعشق في التاكسيفون!"، لأنّ البعض يعتبرونه واسطة لقضاء الحاجات الأكيدة لا الغرق في الغزل وكلمات الغرام الناعمة. وقبل انتشار الموبايلات حين لم يكن هنالك من بديل، كان عليك أن تتحلى بالشجاعة الكافية كي تصطنع خلوتك وسط الزحام، وتمسك السماعة وأنت تنظر في عيون المنتظرين وتطيل المكالمة بصفاقة.
"نحبك"
تقول منية ع. وهي سيدة تونسية وأمّ لشابّين الآن: "كنتُ أقطع مسافة طويلة من أجل الوصول إلى محلّ يقع في (ساحة برشلونة) وسط العاصمة. أقصده دون غيره لأنّ فيه كابينات عازلة للصوت، لا تكشف أسراري للمنتظرين في الخارج، كي أتحدث مع حبيب لي كان يقيم في فرنسا. أحصل على فكّة من الدنانير الفضية اللامعة وأحرص على ألاّ يكون بينها دينار قديم حتّى لا ينزلق فجأة فأفقد صوت الحبيب. ورغم العيون المتلصصة واكتفائنا بالقليل من الكلمات المقتضبة، كانت تلك المكالمات أكثر عمقاً وصدقاً. والغريب أننا حين نكتفي بالضروري من الكلام نقول (نحبّك) ونسمعها من الحبيب. كان صوته يصلني رنّاناً من تلك الآلات الزرقاء الحلوة".
تمكّن الشبان والشابات من اختراع وسائل ملتوية لإطالة المكالمات، وكانت قطعة "المائة ملّيم المثقوبة" بطلة جيل كامل
اصطياد الوقت الملائم للمكالمة
أمّا السيد ناظم غ. فهو موظّف يقيم في إحدى المناطق شبه الرّيفية الواقعة على تخوم العاصمة التّونسية يقول: "كنّا في التسعينيات نملك محلّاً وحيداً موضوعاً على ذمّة المتساكنين. نتحين الوقت الملائم لإجراء مكالماتنا –نحن الشبّان- بكلّ أريحية. وكان ذلك الوقت عموماً في فترة الظهر حين لا يغامر أحد بالخروج تحت الشمس اللاهبة. نقصد التاكسيفون بقطعنا النّقدية ونغرق في الكلام، حتى أشفق علينا صاحب المحل من طول الوقوف ووضع لنا كراسي في الكابينة. بعد ذلك، أصبح يبيعنا السّجائر التي كانت تخفف عنا وطأة العشق والشجار وسوء الفهم. طبعاً أغلق المحل بعد ظهور الهواتف المحمولة وتحوّل إلى كشك لبيع السّجائر".
حيَل التسعينات
تمكّن الشبان والشابات من اختراع وسائل ملتوية لإطالة المكالمات، وكانت قطعة "المائة ملّيم المثقوبة" بطلة جيل كامل. وهي عبارة عن قطعة نقدية تُثقب وتُشدّ بخيط متين، من الأفضل أن يكون خيط صنّارة وأن يكون طوله مضبوطاً، وهكذا يتمّ استخدام تلك القطعة مرّات عديدة بسحب الخيط بنعومة في كلّ مرّة يشارف فيها الوقت على الانتهاء. "كان صاحب المحلّ يعاني منّا كما يقول السيد ناظم. فبمائة ملّيم تحدّث حبيبتك في شؤون الدنيا والآخرة. خصوصاً وأنّ الوالد كان قد حرّم علينا استخدام الهاتف المنزلي إلا للضّرورة. ومع دخول الهاتف "الأرضي" البيوت، أصبح أبي ظله وحارسه الأمين يتنقل في زوايا البيت حاملاً الهاتف معه".
بل وكان بعض الآباء الساديين يغلقون الهاتف بوضعه في صندوق خشبي وتثبيت قفل صغير، أو بحيل مفبركة في غاية التعقيد تثير الضحك.
كان استخدام التاكسيفون دليلاً بيناً على كلّ من يعيشُ قصّة حبّ. فأن تقصدي محلّاً للهاتف العمومي يعني أنك واقعة في غرام أحدهم، وقد تثيرين الشكوك والشبهات
التاكسيفون والدراما
من الطبيعي أن يستميل التاكسيفون الدراما التونسية ونجده في أكثر من مسلسل تلفزيوني مثل "إخوة وزمان" الذي كتبه ظافر ناجي وأخرجه حمّادي عرافة ويشارك في دور البطولة فيه كلّ منعلي الخميري ووجيهة الجندوبي ونادرة لملوم وظافر العابدين ونصر الدين السهيلي وغيرهم... ويروي المسلسل قصّة عائلة تعيش في حي شعبي، حيثُ عصام الذي يمرّ بفترة مراهقة خطرة، يجنح للانحراف بعد فقدانه لأمّه وزواج أبيه مرّة أخرى.
يمثّل التاكسيفون في هذا العمل الدرامي مكوناً أساسياً، إذ يتوسّط الحي الشّعبي ليلتقي فيه قاصدون كثر، وحيث الفتاة الّتي تتنصّت على حكايات كلّ من يقصد الهاتف العمومي، فنعرف نحن كلّ كبيرة وصغيرة تدور في الحي.
تكرّر هذا التنصّت في أعمال أخرى ولعلّ أشهرها "الكاميرا الخفية" للمخرج رؤوف كوكا الذي استخدم محلّ الهاتف العمومي بمطار تونس قرطاج وثبّت ميكروفوناً بالقرب من آلة الهاتف ليتردّد صوت المتكلّم على مسمع من الجميع. عمل المخرج على سرية المكالمة، لأنّ قاصد التّاكسيفون، خلافاً للصّارخين في الهاتف الجوّال في كلّ مكان كأنّهم يريدون لمكالمتهم أن تصل إلى الجميع، كان يبحث عن السرية.
تمكّن التاكسفون من التسرّب للأغاني الشعبية في تونس وفي مختلف الأقطار المغاربية. منها الأغنية "محبوبة التّاكسيفون"، حيث تصرّ المحبوبة تلك على استخدام التاكسيفون في حين يعرض عليها المحبوب شراء "بورطابل" لتسهيل المكالمة
ثمّة سلسلة تلفزيونية جزائرية تتّخذ من التّاكسيفون إطاراً مكانياً، حيثُ يتابع المشرف على المحلّ سير المكالمات من جهاز حاسوب ويستغرب من الفرق الشّاسع الموجود بين طول المكالمة وما يقابلها من نقود، في إشارة لأهمية تلك المكالمات الّتي قد توفّر لممارسيها فرص ربح كبيرة، في حين لا يجني صاحب "الطّاكسي فون" وفق الشكل الجزائري للكلمة إلا بعض المليمات.
وصمة حبّ
تقول ن. إنّ التاكسيفون واستخدامه كان دليلاً بيناً على كلّ من يعيشُ قصّة حبّ. فأن تقصدي محلّاً للهاتف العمومي يعني أنك واقعة في غرام أحدهم، وقد تثيرين الشكوك والشبهات. لكن للمفارقة، في الجنوب التونسي حيث العلاقات أقل تعقيداً، تخفّ رغبة الأهل في التحكّم والتلصص على الفتيات اللواتي يستخدمن التاكسيفون كنقطة لقاء لتبادل أطراف الحديث والنكات وإعطاء النصائح للعشاق الذين يخرجون من الكابينات إما بمزاج مشرق أو متكدّر بسبب المحادثات.
خلافاً لما تتّصف به مكالمات اليوم، وحتى مختلف أشكال التواصل الأخرى كـ"التشات" و"المسنجر" التي توحي بأن الجميع متاح وفي متناول اليد، كانت تلك المكالمات القديمة صعبة، مقتضبة لا مبالغة ولا ثرثرة فيها، مُنقّطة بالصمت والتردد، ما يؤجّج نار الحب ويبقيها مشتعلة.
التاكسيفون في الأغاني الشعبية
وتمكّن التاكسفون من التسرّب للأغاني الشعبية في تونس وفي مختلف الأقطار المغاربية. منها الأغنية "محبوبة التّاكسيفون"، حيث تصرّ المحبوبة تلك على استخدام التاكسيفون في حين يعرض عليها المحبوب شراء "بورطابل" لتسهيل المكالمة فيقول لها: "ليش التاكسيفون، نشريلك بورطابل".
أو الأغنية الشعبية الجزائرية العاطفية "دائماً تاكسيفون" التي تتحدّث عن عاشق متحير دائماً أمام محبوبة متمنّعة، يبذل كلّ أمواله في التّاكسيفون لاستمالتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين