لا شكّ أن أصعب المراحل أو التجارب التي يمكن أن يمرّ بها، أو يعيشها أي إنسان، هي العجز، والعجز بدرجاته واختلاف مظاهره مؤلم وموجع، وأشدّه صعوبةً وقسوةً هو العجز عن القيام بأبسط الأمور البشرية وأن يكون المرء معتمداً في ذلك بالكامل على أشخاص آخرين. هو وضع قاسٍ ومؤلم. وقد لا يجد المريض العاجز بسهولة من يقوم بخدمته على أكمل وجه، فهذا يتوقف على حظه في الدنيا. كذلك قد يكون هذا الوضع صعباً ومقيّداً أيضاً لأقارب المرضى الذي يقدّمون وقتهم وجهدهم وأحياناً صحتهم النفسية والجسدية، لخدمة أقاربهم في المستشفيات، بسبب غياب الأطر الكفيلة بالقيام بالمهمة.
برّ بالأم والقربى
في قسم الصدرية في مستشفى ابن الجزّار في محافظة القيروان، تجد نجلاء وشقيقتها سلوى نفسيهما مجبرتين على التواجد طوال الوقت مع والدتهما المريضة، التي تدخل المستشفى من فترة إلى أخرى، لتلقّي العلاج، حيث تقيم لأيام ثم تخرج. وعلى الرغم من أنه يُمْنَعُ على أهالي المرضى التواجد في هذا القسم، خشية العدوى، إلا أنهما تضطران إلى مخالفة القانون والبقاء في القسم بالتناوب: الأولى في النهار، والثانية في الليل، لأن والدتهما مقعدة، وتعاني من نوبات هذيان ونسيان شبه متواصلة منذ إصابتها بجلطة. لذا تلازمانها كظلّها وتحاولان التخفيف عنها وتنشيط ذاكرتها خشية أن يتمكن منها مرض الزهايمر الذي بدأت بوادره تظهر عليها.
ويمنع قانون المستشفيات وجود مرافقي المرضى في الأقسام التي لا توجد فيها شروط حفظ الصحة، وهي أقسام كوفيد19، والعناية المركّزة، والأمراض الصدرية.
ولعدم وجود أطر طبية كافية للعناية بالمرضى ونظافتهم، يُسْمح ببعض الاستثناءات، وهنا يؤكّد مدير مستشفى ابن الجزار، محمد علي الحمدي، لرصيف22، أنه تم انتداب أكثر من مئة مساعد صحي في مستشفى ابن الجزار بعد الثورة، جميعهم تمت ترقيتهم إلى خطة ممرض، لأنهم باتوا يقومون بمهام الممرض، وتتمثّل هذه المهام في إعطاء الحقن والدواء للمرضى حسب وصفة الطبيب، بالإضافة إلى خدمات أخرى.
تروي سلوى لرصيف22، أن ظروف الإقامة مع والدتها في المستشفى صعبة، لغياب النظافة، بالإضافة إلى أنه غير آمن، ويزداد الوضع سوءاً معها عندما لا تتمكّن من النوم خلال الليل، لعدم وجود سرير شاغر لها، وحتى النوم على كرسي أو على حافة سرير والدتها هي محرومة منهما لأن والدتها لا تكفّ طوال الليل عن التقلب والتألم. وخشيةً من الإصابة بالتهابات بكتيرية، لا تستعمل سلوى دورات مياه المستشفى، وتقضي حاجتها في سطل، وهو ما يزعج غيرها من نزيلات الغرفة التي تقيم فيها والدتها، وتواسي نفسها بأنّها "أيّام وسأعود بعدها إلى البيت وينتهي هذا العذاب".
تصبح عائلات المرضى في تونس مضطرة إلى مرافقتها طيلة رحلة المرض داخل المستشفيات لغياب أطر طبية كفيلة بالقيام بالمهمة، ولو عرّض ذلك الأقرباء لأخطار الإصابة بأمراض معدية
ويضيف حمدي أن خطة المساعد الصحي، أو مساعد الممرض، الذي من المفترض أنّه تلقّى تكويناً ليقوم بدور العناية بالمرضى العاجزين من خلال تغيير حفاضاتهم وملابسهم والعناية بهم والإشراف على نظافتهم، مهملة وهذا التخصّص غير متوفر بشكل كافٍ في المستشفيات العمومية حيث توقفت الانتدابات بعد ثلاث أو أربع دفعات إثر الثورة، نتيجةً لسياسة الدولة التي اتجهت نحو تخفيض الانتدابات في القطاع العام، في حين يقتصر حالياً الاهتمام بهذا الاختصاص على القطاع الخاص.
غياب سياسة حكومية
وكانت وزارتا الصحة العمومية والتكوين المهني والتشغيل قد قرّرتا في أيلول/ سبتمبر 2011، تعليق التكوين في اختصاص مساعد صحي في القطاعين العمومي والخاص، وذلك بدءاً من السنة التكوينية 2011-2012، إلى أن يتم استيعاب المتخرّجين وتشغيلهم، معللتَين ذلك بارتفاع عدد خريجي مدارس علوم التمريض العمومية والخاصة في اختصاص مساعد صحي، بمعدل يناهز ثلاثة آلاف متخرجٍ سنويّاً.
وتتمثل تجربة "سماح" في إطار التجارب الصعبة والشاقّة التي يجد فيها أهالي المرضى أنفسهم ملازمين لذويهم، إذ خاضت مع شقيقتها التي قضت أعوامها الأخيرة بين المستشفيات إثر إصابتها بسرطان الرئة، معركةً طويلةً ضد المرض اللعين، وتروي أنه من الطرائف التي حصلت معها ما يُبْكِي ويُضْحِك في الوقت نفسه. وتروي لرصيف22، أنها كانت ترافق شقيقتها لتلقّي جلسات الكيميائي في مستشفى سهلول في محافظة سوسة، والذي يبعد نحو 55 كلم عن مدينتها، وهي مصابة بكورونا، ولم تفطن إلى ذلك، ومن ألطاف الله أنها لم تصِب شقيقتها المريضة بالعدوى، لأن ذلك كان سيقضي عليها كما تحكي لنا.
ما بين خطر الأمراض المعدية وانتشار متحور أوميكرون، تجد العائلات التونسية نفسها مجبرة على مرافقة ذويها في المستشفيات رغم خطر الإصابة بمرض خطير
ويتسبّب وجود أهالي المرضى في أقسام الرعاية الصحية في المستشفيات العمومية التي تشكّل بؤرّاً لنقل العدوى في ارتفاع الإصابات بفيروس كورونا أمام غياب الصرامة في تطبيق إجراءات الوقاية والتخلي عن ارتداء الكمامة وغياب شروط النظافة، وخلال الفترة الحالية تتسبّب في نقل العدوى خاصّةً مع اتساع رقعة انتشار متحوّر أوميكرون سريع الانتقال، وأيضاً بدء الموجة الخامسة لكوفيد19 في تونس.
وباستثناء المستشفى العسكري ومستشفى قوات الأمن الداخلي والحبيب ثامر في العاصمة، وبعض المستشفيات المختصة على غرار معهد الهادي الرايس لأمراض العيون، وبعض المستشفيات الجهوية مثل مستشفى سهلول في سوسة، تعاني غالبية المستشفيات العمومية في تونس من نقص الأطر والتجهيزات وتردّي الخدمات الصحية ونقصٍ في أدوية الأمراض المزمنة واكتظاظٍ في الأقسام الاستعجالية (العناية المركزة). ولم تحقق المنظومة الصحية أي تطوّر بعد الثورة، بل أنهكها تعاقب الحكومات وتغيير الوزراء، إذ تم تغيير وزير الصحة 16 مرّةً بعد الثورة، أي في ظرف 11 عاماً، وآخر إنجاز شهده القطاع الصحي في تونس كان إنشاء مركز الحروق البليغة في مدينة بن عروس الذي افتُتح عام 2008، أي منذ 14 عاماً، ويُعَدُّ هذا الإنجاز الوحيد في البنيات التحتية الصحية في تونس خلال العشريتين الماضيتين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...