خلال حرب بدأت معاركها لتقويض محاولات الحكومة الصينية حماية شعبها من إدمان الأفيون، وانتهت إلى إجبارها على تقنين تجارة الأفيون في البلاد لصالح التجار الإنجليز، انطلق مترجم وكاتب صيني مسلم من بلدته جنوبي غرب الصين في رحلة شاقة ومغامرة مدهشة وسط الحصار الذي تفرضه القوات الفرنسية والإنجليزية على بلاده ليصل إلى القاهرة والأسكندرية، في طريقه إلى مكة المكرمة، وعاد ليسجل رحلته المدهشة في كتابه الذي صدرت ترجمته العربية بعد أكثر من 170 عاماً في القاهرة، تحت اسم "أول رحلة صينية إلى الأراضي الحجازية... مذكرات رحلة إلى مكة المكرمة" لمؤلفه "مادا شين" تقديم وتعريب دكتور عبدالعزيز حمدي عبدالعزيز، أستاذ الدراسات والبحوث الصينية.
مغامرة مدهشة
في العام 1839، وجدت سلالة كينغ الحاكمة في الصين نفسها أمام أزمة اقتصادية واجتماعية تكاد تشل البلاد، إذ انتشر إدمان الأفيون بين المواطنين، وباتت الأموال كلها تنزاح إلى جيوب التجار الغربيين – خاصة البريطانيين- الذين ينخرطون في تجارة الأفيون المنقول عبر الحدود من الهند إلى الصين، فتدخلت الحكومة الصينية كي تمنع تجارة الأفيون في البلاد وتعلن عقوبات تصل إلى الإعدام في حق التجار وتحرق صناديق ضخمة من الأفيون في مخازن أولئك التجار البريطانيون في جوانزو (كانتون).
شكلت هذه الواقعة الاخيرة مدخلاً للجيش البريطاني كي يفتح باب الحرب على الصين ويحوز أرضاً جديدة لشركة الهند الشرقية بعد أن كانت الصين مغلقة أمام طموحات بريطانيا الاستعمارية والاقتصادية.
عبرت القافلة به أنهاراً وتسلقت جبالاً هرباً من دوريات الطرق، واخترق معها منطقة "شياننا" التي يصفها بأنها "معروفة بأدخنة الأوبئة"
انتهت حرب الأفيون الأولى بانتصار بريطانيا وفرضها شروطها، لكن ما حازته من موانئ وأراض وتشريعات لصالحها لم يكن كافياً لتتحسن الفرصة بعد سنوات وتشاركها في فرنسا في إطلاق حرب الأفيون الثانية والتي فرض خلالها حصاراً تجارياً غير مسبوق على الصين وأغلقت كافة الطرق أمام حركة مواطنيها من وإلى البلاد. وفي خضم هذه الحرب، اختار مادا شين أن يقوم برحلته إلى الأراضي الحجازية متحدياً السلطات البريطانية، ويخوض مغامرة صعبة وخطرة للخروج من بلاده في الطريق إلى مكة.
في الكتاب الصادرة ترجمته حديثاً في القاهرة، يروي المترجم الصيني الذي وضع كتابه في البداية بالعربية كيف خرج من الصين عبر الالتحاق بإحدى قوافل التجارة السرية – غير القانونية- التي تحدت الحصار البريطاني الفرنسي المفروض على حدود بلاده، عبرت القافلة به أنهاراً وتسلقت جبالاً هرباً من دوريات الطرق، واخترق معها منطقة "شياننا" التي يصفها بأنها "معروفة بأدخنة الأوبئة" حتى وصل إلى ميانمار ومنها إلى بحر البنغال "وهو يكافح الصيف القائظ ويقاوم الأمواج والأعاصير" ليجتاز الهند وسيلان (سيريلانكا) ويعود إلى المحيط الهندي فبحر العرب ومنه إلى البحر الأحمر حتى حط الرحال به في جدة، ومنها إلى مكة المكرمة. لكنه أبى أن يعود إلى بلاده من دون زيارة مصر ومدائنها العامرة.
يقول مادا شين في كتابه "استغرقت الرحلة عاماً ونصف العام، من السفر براً وبحراً. ويبرز ذلك للعيان مدى الصعوبات والمشقات التي تعترض طرق المواصلات بين الشرق والغرب في ذلك العام".
أول رحلة؟
في الوقت الذي تحفل فيه المكتبة العربية بعشرات الكتب التي تتحدث عن رحالة غربيون كثر حطوا رحالهم في بلاد العرب وتحتفي بكتب المستشرقين، إلا أنه من النادر أن تلتفت حركة الترجمة والبحث العربية إلى حركة الشرقيين باتجاه المنطقة العربية، وتخلو المكتبات العربية من مؤلفات ومترجمات عن الصينية أو لغات الهند العديدة، إذ جاء منهما رحالة كثر ولعاً بالمنطقة التي تنزلت فيها الأديان الإبراهيمية، في ظل انتشار الإسلام في وقت مبكر في هاتين المنطقتين.
كانت أعين المسلمين الأوائل على الصين. وبعد فشل محاولاتهم في غزوها (فتحها) عسكرياً، اتخذوا من التجارة والدبلوماسية سبيلاً إلى نشر الإسلام في الإمبراطورية الحصينة
لكن ندرة الترجمة والبحث لا تعني أن تلك الرحلات لم تكن موجودة أو أنها لم تسجل. وبالبحث في النذر اليسير المتوفر منها لقارئ العربية أو الإنجليزية، يمكن رصد الصعاب والمشاق التي كان على الصينيون خوضها في سبيل الوصول إلى مكة، وولعهم بزيارة القاهرة والأسكندرية، حاضرتي الشرق العريقتين.
في كتاب صادر عن جامعة الملك سعود في 2016 تحت عنوان "موجز تاريخ التبادلات الثقافية بين الصين والعالم العربي"؛ يظهر أن الرحلات الصينية إلى المنطقة العربية، وخاصة إلى الأراضي الحجازية بدأ تسجيلها في القرن السابع الميلادي أي بعد سنوات قليلة من وفاة نبي الإسلام، إذ كانت أعين تابعيه على الصين التي فشلوا في غزوها عسكرياً، فتحولوا إلى محاولة نشر الإسلام فيها عبر الدبلوماسية والتجارة.
ومن وقتها سعى المسلمون الصينيون - على قلتهم - إلى زيارة الأراضي المقدسة وأداء شعائر الحج والتعرف على حياة المسلمين العرب عن قرب.
وبحسب الرحلات التي يسجلها ويستكشفها كتاب "موجز تاريخ التبادلات الثقافية بين الصين والعالم العربي"، فإن رحلة مادا شين سبقها مئات وربما آلاف الرحلات الصينية إلى الأراضي العربية، وإن سجل التاريخ نذر يسير منها.
إلى القاهرة العامرة
يسجل مادا شين بإجلال اللحظة التي وطأت فيها قدماه أرض مكة المكرمة "في غمرة انبلاج نور الصباح في اليوم الأول من شهر مايو (أيار) من العام 1843، وطأت أقدامي الأرض المقدسة. وفي اليوم التالي ألقيت نظرة إجلال على الكعبة التي يجلّها المسلمون والصينيون ويطلقون عليها بيت الله الحرام أو الباحة المقدسة". ويواصل "الحاج" مادا شين: "بعد أن فرغت من الحج عرجت على المدينة المنورة متوجهاً إلى قبر النبي رسول الإسلام محمد، وبعد ذلك قمت بزيارة الساحة القديمة لغزوة بدر".
كانت الرغبة في التبرك بالأزهر الشريف سبباً رئيساً في إصرار مادا شين على زيارة مصر بعد انتهائه من أداء مراسم الحج وإتمام مهمته في الأراضي الحجازية
لم تنته مهمة الرحالة الصيني عند هذا الحد حيث يقول الكتاب "وبعد ذلك وفي غضون سنوات طويلات، قمت بزيارة القاهرة والأسكندرية واسطنبول وقبرص والقدس و(تل أبيب)* وعدن والسويس، وكنت في كل صقع أتفقد العادات والتقاليد والظروف المعيشية، وأبحث عن السجلات والكتب القديمة وأقيم اتصالات واسعة مع المشاهير المحليين".
الأسكندرية خلال القرن التاسع عشر
وأثنى مادا شين في كتابه على محمد، على حيث يقول: "القاهرة مدينة كبرى وهناك الملك محمد علي الذي يعتلي الحكم ويتمتع بالحكم والجسارة ويحكم مصر كلها، وتزخر بالمنشآت والأشجار وتغص بالبضائع والسلع ولم يستورد ثمة منتجات صناعية من الدول الأخرى ويعد الجامع الأزهر من معالمها الجميلة الرائعة".
وتوقف مادا شين في زيارته للأسكندرية كثيراً أمام قبر الإمام البوصيري، الذي يقع داخل مسجد يحمل اسمه. حتى أنه أصرّ أن يحمل معه نسخة من قصيدة البوصيري الأشهر "البُردة"، والكتب التي تناولتها بالشرح إلى الصين.
ويوضح الدكتور عبدالعزيز حمدي مترجم الكتاب: "كانت الرغبة في التبرك بالأزهر الشريف سبباً رئيساً في إصرار مادا شين على زيارة مصر بعد انتهائه من أداء مراسم الحج وإتمام مهمته في الأراضي الحجازية، وبالفعل غادر السعودية على متن مركب إلى ميناء القصير؛ ومنه بدأ رحلته في مصر".
مسجد ومُقام الإمام البوصيري- الأسكندرية
رسالة من السلطان
ويروى مادا شين بعد ذلك تفاصيل زيارته لإسطنبول "ركبت زورقاً وانطلقت من جاليبولي ووصلت اسطنبول بعد قضاء ليلة كاملة وكان ذلك في العام 1845 ميلادي في اليوم الخامس من الشهر القمري الصيني"
واعترافا بأهمية مادا شين تسلم خلال الزيارة خطاباً بإمضاء السلطان العثماني عبد المجيد الأول كما سمح له بزيارة قاعة عرض مجوهرات ونفائس الأسرة الملكية وتضمن كتابه وصفا دقيقا لها "في ذلك اليوم شاهدت عدداً لاحد له ولا يحصى من المجوهرات والنفائس مثل حبات الرمل في نهر الكانج، والتي من الصعب على المرء أن يتذكر عددها".
لم تنتهى رحلة مادا شين عند هذا الحد حيث أبحر عبر البحر المتوسط مارا برودس وقبرص ويافا، حتى وصل إلى القدس. وفي كتابه؛ يقدم وصف دقيقاً للمسجد الأقصى "يقع المسجد الأقصى في مدينة القدس وتم بنائه أعلى جبل وطوله من الجنوب إلى الشمال 650 خطوة، وعرضه من الشرق إلى الغرب 430 خطوة. ويوجد ضريح كبير في أسفله يعد تحفة في الفن المعماري".
طاعون وملاريا
ولاتغيب مكة المكرمة عن عقل مادا شين حيث يظل في كتابه حريصاً على تدوين ما شهدته من أحداث جسام خلال فترة وجوده في المنطقة، وفي هذا الصدد يقول "في أبريل (نيسان) عام 1845 ميلادية انتشر مرض الطاعون مرة أخرى في مكة المكرمة، وبعد صلاة العصر شيعت جنازة 25 من ضحايا المرض. وفي اليوم نفسه سمعت عن تشييع جنازة زهاء 400 لقوا حتفهم جراء إصابتهم بهذا الوباء اللعين، واستقرت الأحوال لعدة أشهر ثم ما لبث أن انتشر الطاعون في المناطق المتاخمة لمكة ولقى ألف مريض حتفهم بسبب الوباء. وفي عام 1263 هجرية، تفشى وباء الملاريا في كافة بقاع مكة، وكان ضحايا هذا الوباء كثيراً جداً أيضاً. ويمكننا القول أنها كانت مصيبة فادحة لم يسمع بمثلها من قبل منذ مائة سنة ونيف".
مملكة الأسرار
الدكتور عبد العزيز حمدي أستاذ الدراسات والبحوث الصينية ومترجم الكتاب يقول في حديثه لرصيف22 "الصين بالنسبة لنا مازالت تحوي قدراً كبيراً من الغموض حتى اليوم، فمسلمو الصين طي النسيان، ولا نعرف عن إرثهم الحضاري الكثير، رغم أنهم لعبوا دوراً بارزاً في النهضة التي تشهدها البلاد اليوم، ويكفي في هذا الصدد أن نشير إلى أن الصين تضم نحو 56 قومية من بينها عشر قوميات تعتنق الدين الإسلامي وتتمركز بصورة رئيسية في مقاطعات شمال غربي الصين. ووجود الإسلام هناك قديم، حيث دخل البلاد في سنة 651 ميلادية وهناك تراث إسلامي هام يجب الاهتمام به".
ويوضح: "المسلمون منتشرون في مختلف المدن والبلدات الصينية، وإن كان هناك بالفعل أماكن يتركزون فيها أكثر من غيرها، ولذلك أسباب تاريخية؛ حيث يرتبط الأمر بالتجار العرب الذين وصلوا إلى هذا البلاد في وقت مبكر واستقروا في أماكن معينة وتزوجوا من صينيات وأقاموا مدناً ومساجد وتمكنوا من التعايش مع كافة الديانات الأخرى الموجودة في الصين".
ويأسف استاذ الدراسات الصينية لكون الاهتمام بالقراءة عن الصين ودراسة تاريخ الوجود العربي والإسلامي بها "بدأ متأخراً جداً، ربما منذ عشرين عاماً تقريباً". ويرى أن الباحثين العرب لم يكرسوا جهوداً كافية "لمعرفة المؤثرات العربية والإسلامية، رغم أن هناك تراث إسلامي عميق جداً يحتاج لجهود فرق من الباحثين".
ويواصل: "الحضارة العربية الإسلامية ساعدت الصين في التطور. وأعتزم مستقبلا تقديم كتاب عن مؤثرات عربية وإسلامية في الصين، يتتبع تاريخ الحضارة الإسلامية المسجلة على النقوش الحجرية الموجودة هناك، ومدى التفاعل الخلاق بين الحضارتين العربية والصينية".
ويقول "أنا أمضى في هذا الطريق بمفردي منذ سنة 1982، ولا توجد مؤسسات تتعاون معي في هذا الصدد حيث أمضي في الترجمة والتأليف، وانتجت خلال هذه الفترة 54 كتاباً في مختلف فروع المعرفة الصينية، وكانت الأغلبية منها ترجمات. كما أرفض التعاون مع الجانب الصيني لأنهم يميلون لفرض الكتاب الذي يريدون ترجمته، أما أنا فمتحرر في عملي، ولا أخضع لأي قيود، وأحدد الكتاب الذي تحتاج إليه المكتبة العربية وأعد مشروعاً لترجمته. فأنا لا أعمل من أجل الدعاية".
-------------
(*) - لم يكن وقتها ثمة وجود لمدينة تدعي تل أبيب. تأسست تل أبيب لاحقاً في ضواحي يافا الفلسطينية العربية ولم تكن قائمة قبل العام 1909
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت