شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
غدوة لظافر العابدين ورحلة البطل المهزوم في حب بلده

غدوة لظافر العابدين ورحلة البطل المهزوم في حب بلده

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 23 فبراير 202212:00 م

الفن مثل أي شيء آخر عرفه الإنسان، يحمل تناقضاته الخاصة، فنجد لدينا فنون شعبوية يقبل عليها الجمهور بشكل متهافت، تجلب على أصحابها الشهرة والمال، وأخرى أكثر خصوصية، قد يبذل الفنان لها روحه ووقته وماله لكن لا تجد لها صدى، وأثبت التاريخ أن هذه المعادلة تنعكس في المستقبل، فتبقى أعمال راسخة في الأذهان لم يشاهدها معاصروها، بينما تذوي أعمال جماهيرية كأنها لم تكن.

ومثل الحياة، لا يوجد جانب خاطئ تماماً والآخر صحيح، ولكن كثير من الفنانين يكون عليهم اختيار جانب، أو في بعض الأحيان -يتم اختيارهم- ليوهبوا نجومية تجعلهم يخضعون لمتطلبات معينة من الجمهور، ويستلزم الأمر مرونة كبيرة للتنقل بين هذا وذاك. ومؤخراً في خطوة جريئة، قام النجم ظافر العابدين بإخراج أول أفلامه السينمائية، وعلى عكس أعماله الشائعة التي تميل إلى الرومانسية، قدم فيلماً جاداً للغاية، يحمل نقداً سياسياً جريئاً ودوراً مختلفاً عن أي شيء قام به من قبل.

ظافر العابدين من عروس بيروت لغدوة

عُرض خلال فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي فيلم "غدوة"، وهو العمل الأول للنجم التونسي ظافر العابدين كمخرج سينمائي، وقام خلاله بعدة أدوار، مثل التأليف والإخراج والإنتاج والبطولة، ليخرج هذه المرة من سوق الأعمال التجارية والمكسب والربح، ويقدم رهاناً صعباً على فيلم شائك من الناحية السياسية والفنية، وحصل على جائزة أفضل فيلم من قبل لجنة الاتحاد الدولي للنقاد (جائزة الفيبريسي).

فيلم "غدوة"، وهو العمل الأول للنجم التونسي ظافر العابدين كمخرج سينمائي، قام خلاله بعدة أدوار، مثل التأليف والإخراج والإنتاج والبطولة، ليخرج هذه المرة من سوق الأعمال التجارية والمكسب والربح، ويقدم رهاناً صعباً على فيلم شائك من الناحية السياسية والفنية

ففي أولى أعماله كمخرج، لم يستهدف ظافر العابدين جمهوره المعتاد في فيلم مكتوب له نجاح تجاري مسبق لأنه يعتمد على وسامة بطله التي جعلته فتى أحلام ملايين الفتيات العربيات، بل قدم فيلماً فنياً عن قصة جادة مختلفة عن أي من أدواره السابقة.

وهذا الفيلم نقلة كبيرة في مسيرته الفنية التي بدأت منذ عشرين عاماً، بعد اضطراره لترك كرة القدم، شغفه الأول، ليصبح عبر السنوات إحدى فتيان الشاشة العربية متجاوزاً حاجز اختلاف اللهجات، ويقدم أعمالاً تونسية ولبنانية ومصرية، من أشهرها "عروس بيروت"، المسلسل الرومانسي المقتبس من المسلسل التركي "عروس إسطنبول"، وحقق الثنائي، ظافر العابدين وكارمن بصيبص، فيه نجاحاً جعل المسلسل يتجدد لثلاثة مواسم، آخرهم يعرض الآن.

تدور أحداث فيلم "غدوة" بعد عشر سنوات من ثورات الربيع العربي، ليتتبع المشاهد حياة السيد حبيب، خلال ساعات فاصلة في حياته، وعبر سيناريو ذكي قادر على جذب الجمهور، اختار ظافر العابدين عدم تقديم كل المعلومات عن الشخصية أو هدفها إلا بشكل محدود على فترات يشبه الأحجية، حتى تكتمل قرب النهاية لدى المشاهد الصورة الكاملة للشخصية ودوافعها.

غدوة أين نحن من الربيع العربي؟

لدينا هنا حبيب، محامي حقوقي سابق، آمن بثورة بلاده والمكتسبات القادمة فيما بعدها، حتى أجهزت التغيرات السياسية غير المتوقعة والإحباطات العديدة على أحلامه، ففقد القدرة على التعايش مع واقعه.

اضطربت نفسه ولم تجد لها سلاماً بعد ذلك، وعاش خلال هذا العقد في انتظار التصحيح القادم، الثأر لكل المظلومين والمصالحة التي يجب أن تأتي بعد العدالة، ولكن هذا الانتظار ضغط على عقله، فعدّه الآخرون مريضاً مضطرباً، في حين إنه لا يرغب سوى في تحقيق تلك الأهداف التي حارب من أجلها الجميع منذ البداية، وظن أنها حق مكتسب لتضحيات قام بها الملايين.

ربما سيحقق ظافر العابدين في فيلم غدوة -الذي لم يُعرض بعد بصورة جماهيرية- هذا التوازن الذي لم يستطع القيام به إلا نجوم قلائل عالمياً، فيقدم بالتوازي أعمالاً جماهيرية وأخرى فنية، أعمالاً يشبهها وأخرى تشبه

اهتزت الكاميرا في تتبع شخصية حبيب خلال رحلاته الطويلة، لتعبر عن الاضطراب النفسي الذي تعاني منه الشخصية، وتأخذنا إلى عالم هو خليط من الحقيقة والضلالات النفسية، فيوقن المشاهد بعد دقائق من البداية أنه أمام راوٍ غير موثوق فيه، وبالتالي فليس كل ما نراه على الشاشة هو واقعي، بل بعضه يسكن في عقل حبيب فقط، ويجب على المتفرج وحده إيجاد هذا المنطق الذي من خلاله يحدد ماذا يصدق.

قدم ظافر العابدين هنا كممثل أفضل أدواره على الإطلاق، فقد تخلى عن اللهجة المصرية التي طالما عرقلت أداءه، بدا كما لو أنه تحلل من عبء ثقيل، ليس فقط على لسانه ولكن ملامح وجهه ولغة جسده. شخصية حبيب اعتمدت على الأداء التمثيلي أكثر حتى من الحوار، فبينما تبدو كلماته مضطربة قد لا تحمل معنى واضحاً، فإن تعبيرات العينين والوجه هي التي تدل على مشاعره الحقيقية المتقلبة في كل مشهد، ما بين الخوف والقلق والغضب والحب الشديد لابنه، والأهم الخذلان من كل شيء.

والمرآة التي استُخدمت لتوضيح شخصية حبيب والفروقات في حياته بين الحقيقة والخيال، هي شخصية ابنه أحمد التي قدمها الممثل الشاب أحمد بن رحومه، في أول أدواره السينمائية بأداء مذهل، ابن البطل هنا تبادل معه الأدوار، فأصبح هو الراعي والحامي لوالده، يحمل في داخله قلقاً دائماً على هذا الأب الغائب داخل نفسه، يرغب في أن ينتهي اليوم سريعاً حتى يستطيع إلحاقه بالمستشفى النفسي، الذي قد يخفف من آلامه ويعطيه قبساً من سلام يفتقده.

في ذات الوقت، شخصية الابن أحمد هي بالفعل "غدوة" أو الغد بالنسبة للأب حبيب، الذي كانت أسعد لحظاته عندما أخبره أحد جيرانه أن ابنه يشبهه كثيراً، لكن الشبه هنا لا يتوقف على ملامح وسمات، لكن حبيب يرى في ابنه الأمل في إكمال مسيرته الثورية، التي عجز عن المضي فيها قدماً وقد هزه اليأس حتى دمر سلامه النفسي، أحمد بالنسبة لحبيب الجزء العاقل الواعي منه، القادر على تقديم غد أفضل لبلده المحبوبة.

ربما سيحقق ظافر العابدين في فيلم غدوة -الذي لم يُعرض بعد بصورة جماهيرية- هذا التوازن الذي لم يستطع القيام به إلا نجوم قلائل عالمياً، فيقدم بالتوازي أعمالاً جماهيرية وأخرى فنية، أعمالاً يشبهها وأخرى تشبهه، ويخرج من جلده مراراً وتكراراً ليكتسب صفات شخصيات أخرى يحتاج المشاهدين معرفة أنها موجودة في الحياة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image