لسكان الجبال في اللاذقية، قصص مختلفة من القهر والمعاناة، معظمهم ينتظرون مواسم الطبيعة للعمل. الناس هنا يعتاشون من ثلج الشتاء ومناخ الصيف المعتدل، ويقضون فصول السنة منتظرين خيرات السماء والأرض، يأكلون غالباً من منتجاتهم المحلية، ويبيعون الفطائر المخبوزة على التنور، الذي يعمل بدوره على حطب الأشجار الذي يُجمع من الجبال المليئة بالأرز والشوح والسنديان والبلّوط، أو يشترونه بمبالغ كبيرة، ويصنعون من كروم العنب نبيذاً شهياً، ومن أبقارهم وأغنامهم يُنتجون الجبن واللبن البلدي والقريشة، ويجنون في المواسم السياحية بضعة آلاف من الليرات تعينهم على مواجهة مشقة الحياة طوال العام.
تُعدّ جبال اللاذقية مقصداً سياحياً مهماً، وكانت قبل الحرب تجذب السياح من الخليج العربي بكثافة، وغيرهم من زوار سوريا. لاحقاً انخفضت نسبة الزوار إلى الصفر تقريباً في المناطق السياحية الأكثر شهرةً، كصلنفة وكسب، نظراً لاقترابها من دائرة المعارك التي استمرت في أرياف اللاذقية الشمالية والشمالية الشرقية لسنوات عديدة، ولم يتغير الحال إلا بعد حصر دائرة النار في الأرياف البعيدة في كباني شمال اللاذقية، وانتهاء المعارك في أرياف حماة القريبة، وحصرها لاحقاً في إدلب القريبة نسبياً.
تُعدّ جبال اللاذقية مقصداً سياحياً مهماً، وكانت قبل الحرب تجذب السياح من الخليج العربي بكثافة، وغيرهم من زوار سوريا
بدأت الحركة السياحية الداخلية تستعيد عافيتها تدريجياً منذ عام 2018 تقريباً، حتى وصلت إلى مرحلة مقبولة نسبياً من الازدحام صيفاً، خلال العامين الماضيين، لكنها بقيت تعتمد بشكل أساسي على القادمين من بقية المحافظات السورية، وتحديداً من حلب ودمشق، بالإضافة إلى سكان اللاذقية المدينة الذين يقصدون تلك الجبال هرباً من حر الصيف، ورطوبة البحر المرتفعة.
المختلف هذا العام هو هطول الثلج بكثافة كبيرة، ما أعاد تحريك السياحة الشتوية التي تجذب كثيرين، على الرغم من ضعف الخدمات المقدمة للاستفادة من المحميات الطبيعية المميزة بغناها الطبيعي، سواء من النباتات أو الحيوانات، إذ تحتوي جبال صلنفة على كميات ضخمة من الأشجار المتنوعة والمعمّرة، ناهيك عن أن غاباتها ما زالت موطناً أصلياً لعدد من أصناف الحيوانات، لا سيما الثعالب والضباع البرية.
ويستثمر السكان هنا في أعالي الجبال في طبيعتهم، إذ يقتصر دخل معظمهم على بعض الوظائف الحكومية، أو العمل في الزراعة، أو العمل في المقاهي والمطاعم صيفاً، أو تأجير الشقق السكنية للزوار، فيما يستثمر آخرون في بيع الفطائر، الخُبز المُعدّ على التنور، وهو أشبه بفرن يعمل على الحطب ومصنوع من الطين أو الإسمنت أو الحجر الناري، ويخبزون عليه الفطائر على اختلافها، ومنهم من حقق شهرةً واسعةً وصار مقصداً لكثيرين.
السكان المحليون لم يعد باستطاعتهم شراء خبز التنور، وحتى "نحن أصحاب التنور لم يعد بإمكاننا أن نأكل مما نصنع"
في صلنفة في ريف اللاذقية الشمالي الشرقي، نسوة اشتهرن بخَبزهن أشهى الفطائر التي تستقطب الآلاف سنوياً، كتنور أم دريد، وتنور أم عبد الله، وغيرهما من النساء اللواتي يعملن في هذه المهنة القاسية، ويتحملن حرارة الحطب المحترق والدخان المتصاعد منه، والوقوف لساعات طويلة في سبيل تقديم الفطائر للزبائن، ويكابدن مع أبنائهن وأزواجهن مشقة تأمين الحطب ومستلزمات عملية الخَبز التي صارت تشكل عبئاً كبيراً عليهن، وتجبرهن على رفع أسعارهن.
تتحدث أم عبد الله التي تعمل على التنور منذ عشرين عاماً، لرصيف22، عن مدى تغيّر الحال خلال السنوات الماضية، إذ صارت تبيع فطيرة الفليفلة، أو "المحمرة"، والزعتر، بـ600 ليرة، بينما كانت تبيعها قبل سنوات الحرب بخمس ليرات.
بدأت الحركة السياحية الداخلية تستعيد عافيتها تدريجياً منذ عام 2018 تقريباً، حتى وصلت إلى مرحلة مقبولة نسبياً من الازدحام صيفاً
تقول السيدة الستينية: "تعيش من عمل هذا التنور عائلتان بأكملهما. اعتمادنا على الله وعليه. كنا نخبز الخبزة بليرتين ونصف قبل عشرين عاماً، وبقيت تتدرج الأسعار حتى وصلت إلى خمس ليرات، ثم سبع ليرات، وبعدها صارت بعشر ليرات، والآن وصلت إلى 600 ليرة للمحمرة والزعتر، أما الجبنة فوصلت إلى 1،200 ليرة، ولكن الإقبال على الشراء لم ينخفض نظراً إلى أننا نعتمد على الزوار. أما أهل المنطقة والسكان المحليون فلم يعد في استطاعتهم شراء خبز التنور، وحتى نحن أصحاب التنور لم يعد بإمكاننا أن نأكل مما نصنع ونبيع للناس، نظراً لغلاء التكاليف"، لأن تكاليف الفطور لثلاثة أشخاص قد تصل إلى عشرة آلاف ليرة وأكثر.
تذكر أم عبد الله أن شوال الطحين، نحو 50 كيلوغراماً، تجاوز سعره المئة ألف ليرة، وكيلو الحطب سعره ألف ليرة تقريباً، ونحن نشتري كل شيء، ونفتح على الرغم من الظروف الجوية القاسية. تتحدث والثلج يملأ القرية والحرارة تقارب الصفر درجة مئوية، وتؤكد أنها إن لم تعمل في هذه الأجواء، فلن تستطيع وزوجها إعالة عائلتها المكونة من أربعة أبناء، ثلاثة منهم خريجون جامعيون لكن لا يعملون، وتساعدها ابنتها خريجة كلية الآداب قسم اللغة العربية في العمل على التنور، بالإضافة إلى زوجة ابنها، وولداها، ولا أحد من بينهما موظف.
أما أم حسين، وهي سيدة من قرية محاذية لصلنفة تُدعى "عين الوادي"، فتعمل على التنور منذ نحو ست سنوات. تترك تنورها في القرية وتحمل حطبها وموقد الحطب ومستلزمات الخبز وتفترش مكاناً وسط الثلج، قريباً من الطريق المؤدي إلى "محطة البث"، وهي أعلى قمة في المنطقة، لتبيع فطائر المحمرة والزعتر للقادمين للاستمتاع بالأجواء الجبلية المثلجة، عبر خبزها على الموقد.
تروي أم حسين عن الفقر الذي صار في كُل مكان، هي تعمل لكي تؤمن الحد الأدنى لتُساعد نفسها وعائلتها على البقاء، وخُبزها الذي كان يوماً ما للفقراء، صار اليوم رفاهية، حتى لها ولعائلتها
تتحدث السيدة القروية ذات الأعوام السبعة والستين، لرصيف22، قائلةً: "الفقر هنا في كل مكان، نشتري كيلو الطحين بألفي ليرة، لنصنع منه نحو ثلاثين فطيرةً، ونجني منه بضعة آلاف إذا تمكّنا من بيع كامل الكمية، واستثنينا تكاليف الزيت والزعتر والفليفلة والمواصلات للوصول إلى هنا. اضطررت اليوم إلى دفع ستة آلاف ليرة كي أصل إلى هذا المكان، ومنذ ساعات الصباح الباكر لم نتمكن من بيع شيء".
تشتكي أم حسين من صعوبة تأمين الحطب، إذ تعمل جاهدةً لجمعه من الجبال، فلا قدرة لديها على شرائه بمبالغ ضخمة، ولا تتمكن من جني أكثر من 50 ألف ليرة شهرياً من العمل على التنور الذي لم يعد متاحاً لسكان المنطقة أنفسهم، على الرغم من أنها تعمل وابنتها الشابة "رشا"، أي أن كلتيهما تعملان مقابل أجر لا يتعدى 16 دولاراً في الشهر الشتوي.
أصل التنور يعود إلى العصر البابلي الأول في العراق، لكن نماذج مشابهةً للتنور العراقي وُجدت في بلاد الشام
والتنور تجويف أسطواني، أشبه بفرن يعمل على احتراق الخشب في داخله، ويخبز عليه أهالي القرى والأرياف أنواعاً مختلفةً من الخبز، ويُعدّ من الموروثات التاريخية لأهالي الجبال في الساحل السوري، أو حتى المناطق الشرقية وفي أرياف إدلب وحماة، وتعمل عليه النساء بشكل كبير، إذ اعتادت نسوة القرى سابقاً على التجمع حوله، ليس بهدف تحضير الخبز لمنازلهن فحسب، وإنما أيضاً للدردشة وتبادل الأحاديث.
وحسب بعض الباحثين، فإن أصل التنور يعود إلى العصر البابلي الأول في العراق، لكن نماذج مشابهةً للتنور العراقي وُجدت في بلاد الشام ولا تختلف عن التنور العراقي القديم، حتى أن هذا الفرن المصنوع من الطين والحجر، انتشر في لبنان أيضاً وفلسطين والأردن، لكنه بقي محافظاً على وجوده في الحاضر السوري، وتحديداً في المناطق السياحية وطريق السفر الدولي الذي يربط حمص بالمحافظات الساحلية غرب سوريا.
ينسحب الحال المتردي في جبال اللاذقية على أصحاب المقاهي أو المطاعم التي تُبقي أبوابها مفتوحةً طوال العام، كالمطعم الشعبي الشهير في صلنفة "جيران القمر"، والذي يقع على قمة جبل يُطلّ على سفح أخضر واسع، يصل إلى سهل الغاب، بإطلالة خلابة، ويقدم لزبائنه فطوراً بلدياً من جبن وبيض ولبنة وزبدة، ومشويات وسلطات ومقبلات على الغداء والعشاء، ناهيك عن العرق والنبيذ البلدي، ويعيش من العمل فيه، نحو 15 عاملاً مع عائلاتهم، ومنهم من يقيم في المطعم نفسه نظراً لصعوبة التنقل والوصول إليه، إذا لا وسائل نقل عامةً تصل إلى تلك المنطقة.
شهدت السنوات الماضية ارتفاعاً كبيراً في الأسعار، فالفطور المحلي البلدي لأربعة أشخاص قد تصل كلفته إلى نحو 50 وربما 60 ألف ليرة
لا يتمكن السكان المحليون من الدخول إلى المطعم، بل يعتمد على زوار المنطقة والسياح، ويؤكد صاحبه سومر يوسف، لرصيف22، أن الحال تغير كثيراً خلال العقدين الماضيين، إذ افتتح المطعم أبوابه قبل عشرين عاماً، وكان الإقبال كبيراً جداً في السابق، نظراً لانقطاع السياح القادمين من الخارج حالياً، أما الإقبال فصار "خفيفاً" في معظم الأيام العادية.
وشهدت السنوات الماضية ارتفاعاً كبيراً في الأسعار، فالفطور المحلي البلدي لأربعة أشخاص قد تصل كلفته إلى نحو 50 وربما 60 ألف ليرة، أما الغداء فالفاتورة للطلب المعتاد كالمشويات والمقبلات، قد تصل إلى 70 أو 80 ألف ليرة.
يتحدث يوسف عن حجم المعاناة وقلة العمل، إذ ينتظر وعمّاله أحياناً أسابيع كي يشهد مطعمه إقبالاً ليوم أو يومين، في حال هطول ثلج يجذب الزوار. أما بقية الأيام، فقد لا تشهد إقبالاً بسبب ظروف الناس، إذ تتسبب أزمة الوقود بانقطاع الزوار، فالمكان يبعد عن اللاذقية المدينة نحو 60 كيلومتراً، فضلاً عن ارتفاع تكاليف العمل لتصل إلى نحو مليوني ليرة سورية شهرياً لتأمين الغاز والمازوت، فيما يصل سعر طن الحطب إلى 250 ألف ليرة، ويحتاج المكان إلى ثلاثة أطنان شهرياً تقريباً، كي يتمكن من تأمين الدفء للزوار.
تقول سميرة وهي من سكان اللاذقية لرصيف22، إن "خبز التنور أو جلسات المطاعم المحلية في صلنفة، كانت سابقاً أمراً متاحاً لمتوسطي الدخل في أوقات الرحلات السياحية، أما الآن فتغيّر الحال، وصار الترفيه في الجبال صعباً ومكلفاً ولا يمكن لمحدودي الدخل صرف مبالغ تعادل رواتبهم لقضاء يوم ترفيهي هناك".
زيارة القرية ولو لمرة واحدة سنوياً، صارت أمراً مكلفاً لحذيفة المقيم في دمشق، وهو من محدودي الدخل، الذين صار الترفيه خارج قاموسهم
بدوره، يؤكد حذيفة، وهو شاب عشريني من إحدى قرى صلنفة يقيم في العاصمة دمشق، أن "زيارة القرية ولو لمرة واحدة سنوياً، صارت أمراً مكلفاً ويتجاوز القدرة المالية لنا كأشخاص محدودي الدخل أو أصحاب دخل متوسط في أحسن الأحوال، نظراً لارتفاع تكاليف السفر والبنزين، ناهيك عن أننا بحاجة إلى ميزانية كبيرة للحصول على الترفيه الذي كنا نحصل عليه سابقاً، سواء من تناول الإفطار أو الغداء على التنور، أو حتى الاستمتاع بإطلالات المقاهي والمطاعم المنتشرة بين الغابات والقمم الجبلية، وجلساتها".
يعمل سكان تلك المناطق طوال العام، في سبيل تحقيق الرفاهة للزوار والسياح، كما يقولون، فيما لا قدرة لديهم على الحصول على أي نوع من أنواع الترفيه خارج إطار العمل في خدمة الآخرين أو الأرض التي يعيشون من زراعتها كي يُكملون حياتهم بالحد الأدنى، وأقل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون