4 كانون الثاني/ يناير 2019، يوم لا يمحَى من ذاكرة صالح السمير بتفاصيله المحزنة. فهو اليوم الذي تلقى فيه مكالمة من إحدى مستشفيات دمشق تخبره بأن زوجته وابنيه حمزة (14 سنة) ومعاوية (7 سنوات)، وأخت زوجته وابنها، يعالجون فيها بعدما صدمتهم سيارة على طريق مطار دمشق الدولي.
المصابون الخمسة توفوا في اليوم ذاته. تسلّم السمير الجثث، ودفنها في منطقة الكسوة بريف دمشق.
قضى السمير سنتين في المحاكم حتى حصل على تعويض من شركة التأمين. في النهاية لم يغطِ ما حصل عليه مصاريف الدفن والعزاء.
يكشف هذا التحقيق أن شركات التأمين تعرقل حصول المتضررين في حوادث السير على تعويضات متناسبة مع حجم الضرر. ويوثق أيضا سيطرة شبه كاملة لشركة التأمين الحكوميّة (السوريّة للتأمين) على السوق خلال السنوات الأخيرة.
في عام 2008 أصدر مجلس الوزراء السوري القرار 1915 المحدد لنظام التأمين الإلزامي، والذي تضمن بحسب آراء محامين، مخالفات قانونيّة، منها تحديد قيمة التعويضات.
بحسب المادة 2 من القرار، يقصد بعبارة (التأمين الإلزامي): التأمين من المسؤوليّة المدنيّة تجاه الغير، الناجمة عن استعمال المركبة. ويشمل التأمين الإلزامي، الأضرار الجسديّة للغير سواء وجدوا داخل المركبة المؤمنة أو خارجها، والأضرار المادية المباشرة للغير. وقد حددت الالتزامات الماديّة لجهة التأمين في المادة الثالثة منه.
يوضح المحامي محمد علي الباخوخ، المختص بقضايا التأمين، أن قانون السير والمركبات يحظر أي اتفاق يحدد قيمة المسؤوليّة المدنيّة (بدلات التعويض).
المادة
183
أ - كيفية التعويض ومداه يحددان وفق القواعد الواردة في القانون المدني بصدد العمل غير المشروع.
المادة
184
أ- يُعد باطلاً كل اتفاق يلغي أو يحدد المسؤولية المدنية.
ب- يمكن إبطال كل اتفاق يحدد تعويضاً غير كافٍ وذلك خلال سنة من تاريخ عقده.
هذه المواد القانونيّة، تتناقض مع المادة الثالثة من القرار 1915 لعام 2008، التي حددت ذلك، ومنها تحديد تعويض الوفاة والعجز الدائم بـ 750 ألف ليرة سورية، وتعويض التعطل عن العمل بـ 12 ألفا (تمّ تعديل قيم هذه التعويضات 3 مرات في 2017 و2020 و2021).
وبالتالي يحدّ القرار من سلطة القضاء وتقديره للضرر الواقع نتيجة حادث السير وفقاً للظروف الاقتصاديّة للمتضرر أو ورثة المتوفى.
المادة 3
أ- تلتزم جهة التأمين بالتعويضات التي تترتب بنتيجة المسؤولية المدنية التي تقع على عاتق مالك المركبة أو حائزها أو سائقها عن الأضرار الجسدية والمادية التي تلحق بالأشخاص المشار إليهم في المادة أعلاه بسبب استعمال المركبة على أراضي الجمهورية العربية السوريّة فقط وتحدد التزامات جهة التأمين في التعويض وفق الأسس التالية:
ب: يمكن تعديل التزامات جهة التأمين المبينة في هذه المادة بقرار من مجلس إدارة هيئة الإشراف على التأمين
تقول قاضية محكمة الاستئناف المدنيّة العاشرة في قصر العدل في دمشق أمينة حاج بارة: "نحن ملزمون بالعقد الموجود رغم أنه يقيّد صلاحيّة وسلطة القاضي في تقدير التعويض، فمثلاً تعويض حالة وفاة طفل صغير لا يتناسب مع تعويض رجل مسن (…) وأيضاً يجب الأخذ في الاعتبار عدد أفراد الأسرة، وهذا يُفترض أن يعود لسلطة القاضي".
يضيف المحامي والمختص في شؤون التأمين يوسف عدرا أن "قانون السير والمركبات فوّض مجلس الوزراء بإصدار نظام التأمين وبدلاته (المبلغ الذي يدفعه المؤمن عليه لجهة التأمين) وشموليته، وتضمن تسقيف التأمين أي تحديد تعويضات معينة عن حوادث السير، وهو تجاوز للقانون المدني وقانون السير، إذ أن القاضي قبل القرار المذكور، كان يقدر التعويض وفقاً للظروف وحالة المتضرر ومن دون أن يتقيّد بأي أحد".
كما أن شركة التأمين ملزمة بتعويض المتضرر من حوادث السير، كما تؤكد ذلك المادة 713 من القانون المدني السوري التي تنص على أنّ "التأمين عقد يلتزم المؤمن بمقتضاه أن يؤدي إلى المؤمن له، أو إلى المستفيد الـذي اشترط التأمين لصالحه، مبلغاً من المال، أو إيراداً مرتباً، أو أي عوض مالي آخر، في حالة وقوع الحادث، أو تحقق الخطر المبين بالعقد. وذلك لقاء قسط أو أي دفعة مالية أخرى يؤديها المؤمن له للمؤمن".
ويكشف عدرا أنه كان أحد أعضاء لجنة لتعديل القرار (1915 عام 2015)، لكن النموذج المقترح لم يبصر النور رغم تبني وزارة العدل له.
وصدر خلال عام 2017 قرار بتعديل قيم التعويضات والأقساط تبعه القرار 1910 في آب/ أغسطس 2020، كما صدر في تشرين الأول/ أكتوبر 2021 قرار جديد.
تقول القاضية أمينة حاج بارة: "للأسف خلال عملي في محكمة الاستئناف المدني في دمشق، أخذت علماً بعدد كبير من دعاوى تعويضات الوفاة، لكن لا يمكن حصر عددها أو نسبتها بدقة".
طلبت هيئة الإشراف على التأمين عام 2020 من شركات التأمين "الالتزام بسداد تعويضات حوادث السير (خصوصا تعويض الوفاة) بشكل كامل وفق التغطيات المذكورة في عقد التأمين وقرارات الهيئة". وطلبت من المواطنين ممارسة حقهم في المطالبة بالتعويض المستحق وفقاً لعقد التأمين، بشكل مباشر من شركة التأمين، وإعلام الهيئة في حال امتناع أو عرقلة شركة التأمين لاستلامهم هذه التعويضات، حرصاً على عدم تكبدهم مصاريف إضافية للحصول على التعويض، أو انتقاص هذه التعويضات.
اطلع معدا التحقيق على 11 دعوى قضائية متعلقة بالتأمين الإلزامي، كانت الجهة المدعى عليها هي المؤسسة العامة السورية للتأمين، من بينها حالتا وفاة.
وفي حالات المتضررين جسديا، فإن التأخر في دفع التعويضات يعني أن المتضررين يتحملون تكاليف العلاج كما حدث مع المصابة (ف. س)، والتي فضلت عدم نشر اسمها. يشرح زوجها بأنه أثناء قطعها للطريق بمنطقة كفر سوسة بدمشق في أيار/ مايو 2019، صدمتها سيارة تسببت في تفتت فقرتين بالظهر، وكسر بالرجل والحوض وإصابة فوق العين.
نُقلت المصابة إلى مستشفى الأندلس الخاص، حيث خضعت لعملية جراحيّة، "وبعد خروجها، احتاجت ثلاث جلسات علاج فيزيائي أسبوعياً لعلاج ضمور العضلات بتكلفة 5 آلاف ل.س لكل جلسة". ويؤكد الزوج أنّ إجمالي تكاليف العلاج والأدوية تعدت المليون والنصف مليون ل.س (1200 دولار).
قدرت المحكمة المختصة نسبة العجز الوظيفي بـ 60 في المئة. لكن العائلة اضطرت إلى إيقاف جلسات العلاج الفيزيائي بسبب عدم القدرة على تحمل التكاليف، ومع تأخر حصولهم على التعويض من شركة التأمين الخاصة، كما أكد الزوج.
واختيرت الحالات المتضررة من دمشق لأن حوالي 60 في المئة من أقساط التأمين الإلزامي لدى الشركات الخاصة تأتي منها، كما يظهر التقرير السنوي لقطاع التأمين لعام 2019، مع غياب بيانات مماثلة عن "السورية للتأمين" الحكومية.
وبحسب بيانات هيئة الإشراف على التأمين من 2017 حتى 2020، فإن 2 من كل 10 أشخاص ممن تقدموا بطلبات التعويض سنوياً في فرع التأمين الإلزامي للسيارات حصلوا على تعويضات مباشرة لدى الشركات الخاصة. ولا تتوفر بيانات مماثلة عن "السورية للتأمين" الحكومية.
لا تتوقف معاناة المتضررين من شركات التأمين عند تأخر حصولهم على التعويض، بل تتضمن أيضاً عدم حصولهم على تعويض كافٍ. من ضمن الدعاوى التي اطلع عليها معدا التحقيق، سبع دعاوى أضرار جسديّة لم يحصل أصحابها على تعويضات تناسب حجم الضرر نتيجة التزام القاضي بسقف التأمين المحدد، بالرغم من أن تكاليف العلاج كانت أعلى من التعويض بحسب تقرير الخبرة الطبية لكل حالة.
بالإضافة إلى تلك الصعوبات أثر تغيّر سعر صرف العملة المحليّة -بالتزامن مع تأخر التعويضات- على قيمة التعويض الذي سيحصل عليه المتضرر أو ورثة المتوفى، وبالتالي خسارة جزء من القيمة الحقيقيّة مع تراجع قيمة الليرة السوريّة مقابل الدولار إلى الثلث في عام 2020 مقارنة بـ 2019.
في حالة المصابة (ف.س)، قررت محكمة البداية المدنية في دمشق حصول المصابة على مبلغ 1.140 مليون ل.س (912 دولار) من شركة التأمين. وبعد خصم تكاليف التقاضي ومنها 30 في المئة أتعاب للمحامي، لا يغطي التعويض حتى نصف تكاليف العلاج.
توجد 13 شركة تأمين في سوريا، بينها شركة حكوميّة واحدة، وهي المؤسسة العامة السوريّة للتأمين. تحليل التقارير السنويّة لقطاع التأمين على مدى 6 سنوات، أظهر أن الشركة الحكوميّة استحوذت تدريجياً على سوق التأمين الإلزامي للسيارات في سوريا، من خلال سيطرتها على معظم العقود التي يجريها المؤمن عليهم سنوياً لمركباتهم، عبر الاتحاد السوري لشركات التأمين.
في الفترة بين 2015 و2020، ارتفعت حصة المؤسسة العامة السورية للتأمين في السوق من إجمالي أقساط السيارات (الإلزامي والشامل)، الى أكثر من الضعف، من 36 في المئة إلى 78 في المئة.
كما تزايدت حصتها من حجم التأمين الإلزامي بحوالي ثلاث مرات خلال السنوات الست الماضية، مستحوذة بذلك على 93 في المئة من إجمالي أقساط التأمين الإلزامي عام 2020. بينما انخفضت حصة الشركات الخاصة بنحو 10 مرات للفترة ذاتها.
وتأسس الاتحاد عام 2005، ثم استحدث تجمع التأمين الإلزامي للسيارات التابع له عام 2009. ويشغل مدير عام "السورية للتأمين" الحالي نزار زيود، منصب رئيس مجلس إدارة "الاتحاد السوري للتأمين" أيضاً. كما شغل مدير المؤسسة المذكورة السابق إياد زهراء منصب الأمين العام لـ "الاتحاد".
وشكلت عقود التأمين الإلزامي المصدر الرئيس للأقساط التي حصلتها السوريّة للتأمين؛ إذ كونت أقساط فرع التأمين الإلزامي نحو نصف حجم الأقساط لديها لعام 2020.
المثير للانتباه هو أن زيادة سيطرة الشركة الحكوميّة على أقساط وعقود السوق صاحبها انخفاض في نسبة التعويضات إلى الأقساط المتعلقة بتأمين السيارات، حيث انخفضت تلك النسبة من 73 بالمئة في 2015 إلى 24 بالمئة في 2020.
أي أن الشركة السورية للتأمين حصلت على أقساط أعلى بكثير خلال السنوات الأخيرة، لكن صاحب ذلك انخفاض هائل فيما دفعته من تعويضات. في المقابل، كانت نسبة التعويضات إلى الأقساط لدى الشركات الخاصة أعلى من نظيرتها الحكومية، إذ سجلت 49 بالمئة في 2019 و31 بالمئة في 2020، بالرغم من تراجع حصة هذه الشركات من الثلثين تقريبًا إلى أقل من الربع من إجمالي أقساط تأمين السيارات.
في النهاية، يطمح المتضررون وورثتهم أن تكون قيم التعويضات متناسبة مع حجم الضرر المادي والجسدي في حوادث السير، أو أن تجرى المصالحة من دون خصم أيّ جزء من التعويض. بينما يدعو محامون إلى إرجاع تقدير التعويض في الدعاوى لسلطة القاضي بناءً على القوانين ذات الصلة من دون التقيّد بحدود تأمينيّة، ومن دون أن يتحمل المتضرر أيّ أعباء مادية في التقاضي، كما حصل مع صالح السمير والمصابة (ف. س).